اعتراف شارلوت
(جرى لشارلوت برونتي حادث في مدينة بروكسل، فضّلت ذكره في نص قصصي، مزجت فيه الحقيقة والخيال واعتمدت على الموثّق من حياتها وما تخيّلته. الأبيات الشعرية والرسالة كتبتهما شارلوت برونتي).
أثقلت شارلوت الوحدة في المدرسة الداخلية بعد أن غادرت جميع الطالبات في العطلة الصيفية إلى منازلهن، وبقيت تتنقل من حجرة درسٍ إلى أخرى، ذارعةً أرجاء المدرسة في ذهاب وإياب لا ينتهي ولا يثمر عن شيء سوى الملل والكآبة القاتلة التي نزلت على رأسها مثل مطرقة حدَّاد يُعالج بها قضيبًا صلدًا لا ينعدل كمشاعرها التي تصالبت يومًا إثر آخر لمن أُقصي عنها رغمًا عنه، لتقاسي لوعةَ حبٍ كثيرًا ما رأت نفسها آمنة من شراره فكيف وقد أضحت على السفود تتلاعب بها نيرانه.
كان صامتًا كالقبر، ومنتصبًا بهدوء مثل برجٍ،
رفعتُ ناظريّ وأبصرتُ صلاتي لحجر:
نشدتُ مساعدةَ مَنْ لا يقوى عليها،
وسعيتُ وراء حُبٍ حيث الحبُّ مجهول تماما.
ارتدت ثوبها الرماديّ الوحيد واعتمرت قبَّعة القش التي ابتاعتها منذ يومين من إحدى المحلات في شارع إيزابيلا (في الحقيقة اشتراها لها مستر بول لكنها رفضت أخذها إلا بعد أن تدفع ثمنها حتى لا تشعر بالحرج أمامه أو أنها مدينةٌ له بشيء، ولم يكن أمام بول إلا أن الخضوع لرغبتها ورأسها العنيد الذي شبَّهه برأس التمثال بليارد حيث التقى بها أول مرة بعد أن اصطدمت به في أول زيارتها لمدينة فيليت متوجِّهةً إلى المدرسة الداخلية). انطلقت شارلوت في شوارع فيليت الهادئة ليلًا بعد زحام النهار، وصخب الباعة المتجوِّلين، ولعب الأطفال في باحات فيليت الفسيحة. ماذا أفعل معه الآن، أعلم أنَّ مدام بول هي المسؤولة عن مأساتي. لم تطلب مني أن أزورهما في البيت، أبقتني وحدي هنا، أقابل الجدران وأحدث شجرة الخوخ الحبيبة، من أئتمنها على سريّ الغالي. لكن أيُّ شيء نهايةُ أمري يا تُرى؟ هل أخرج حافية القدمين وبوفاضٍ خالٍ إلا من مأساتي. مدام بول، مستر بول، وأنا، لم أتوقع قط أن أتورط في مثلث كهذا! ما الذي ستقوله إيلين لو أخبرتها بذلك أو إيميلي، لا إيميلي لا، ستراني شجرةً معمرة في وسط غابة أحبَّت مسافرًا مرَّ بالقرب منها، أو حتى بابا، خوري هاورث العزيز، ابنة المبجل تقع في غرام رجل متزوج في مدينة بعيدة عبرت البحر إليها، إلى القارة لأجل الدراسة! هذا آخر ما توقعناه! فضيحة! ابنة الخوري الأثيمة! هل سمعتم بما فعلت شارلوت! فضيحة! فضيحة! فضيحة! هل حبيِّ حقًا خطيئة أكبر من خطيئة حواء؟ ألفتْ شارلوت نفسها في نهاية شارع تيرلينبيرغ، وقد انتصب أمامها بُرجا كاتدرائية القديس ميشيل وقد اعتلى صليبٌ ذهبي برجها اليمين كان قد أهداه نابليون إلى عُمدة فيليت أثناء زيارته إلى المدينة قبل عشر سنوات ترضيةً له بعد أن ابنتى كنيسة صغيرة للبروتسانت في مدينة لا ترى إلا الكاثوليكيّة الرومانيّة دربًا إلى الله.
هالها هذا المشهد وجمدت في مكانها تتأمله مسحورة بمعمارها القوطيّ الذي ألقى في نفسها الرهبة دائمًا على الضوء الخافت المتسرِّب من مصابيح الأعمدة على الرصيف، جفلت حين سمعت رنين جرس الكاتدرائية مُعلنًا بدء خدمة الاعتراف المسائية. ولجت شارلوت إلى الصحن بخطًى وئيدة ولثوبها حفيفٌ خفيضٌ امتزجَ مع هبة ريحٍ مسائية تداعب وجنات فيليت الأسيلتين، تقدمت شاقةً طريقها عبر ممر وسط مجموعتين من المقاعد مرتبة ثلاثةً ثلاثةً؛ عدَّت عشرة صفوف وتناهى إلى أذنيها الصغيرتين همساتُ صلاة بالكاد تُسمع هاربةً من شفتي القس. توجَّهت إليه وبادرته بالتحية ثم طلبت منه أن يمنحها خدمة الاعتراف.
“لقد أخبرته يا إيميلي بأني وحيدة في المدرسة وأجنبية عن هذه المدينة ونشأت بروتستانتيّة. سألني القس هل أنا حقًا بروتستانتيّة؟ لم أجرؤ على الكذب وأجبته ’نعم‘. فكان رده بأنني لا يمكنني ’jouir du bonheur de la confess‘، لكنني أصررتُ على الاعتراف، وقال في آخر المطاف بأنه سيأذن لي لأنها قد تكون الخطوة الأولى نحو العودة إلى الكنيسة الحق. وبالفعل اعترفت له- اعتراف حقيقيّ. وعندما أنهيت اعترافي أخبرني بعنوان سكنه، وقال إنه يذهب صباح كل يوم إلى شارع دو بارك -إلى منزله- وسيحاورني ليقنعني بفداحة وشناعة كوني بروتستانتيّة!!! وعدته بصدقٍ أني سآتي. بالطبع توقفت مغامرتي عند ذلك الحد. وأرجو ألا أرى وجهه مجددًا. وأظن أن من الأفضل ألا تُخبري بابا. لن يتفهم بأنَّ الأمر محضُ نزوة عابرة، وربما سيعتقد بأنني سأتحول إلى الكاثوليكية”.