التراث الأدبيالتراث العربي

كتاب النمر والثعلب – سهل بن هارون

نصٌّ تخيليّ في قالبٍ سردي قصصي، بأسلوب فصيح بليغ، ذو موضوع في آداب السلطان وفن السياسة والحرب مع تفرُّعات إلى العقل والحكمة والأخلاق والآداب. أحداث النص في عالم الحيوان وتجري على لسانه، ويقتفي ابن هارون في هذا أثرَ ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة. يقول سهل في مقدمة كتابه “فإني رأيت أن أصنعَ لك كتابا في الأدب والبلاغة والترسُّل، والحروب والحيل والأمثال والعالم والجاهل، وأن أشرِّبَ ذلك بشيء من المواعظ وضروبَ من الحكم، وقد وضعت من ذلك كتابا مختصرًا موعيًا شافيًا، وجعلته أصلا للعالم الأديب والعاقل الأريب مما أمكنني حفظه، واطَّرد لي تأليفه…”. 

يُمتاز النصُّ ببنية قصةٍ متكاملة الأركان وحبكة مُعتنى بها، وهو مقسَّم إلى ثلاثة أقسام رئيسة. البداية مع القسم الأول وحياة الثعلب مرزوق، الذي يعيش في جحر في وادٍ في مجرى السيل مع زوجه، فينصحه صاحبه الثعلب طارق بأن يغيَّر جحره فيقنع مرزوق برأي صاحبه لكن زوجه تردّه عن ذلك، إذ رأت في مشورة صاحبه حسدًا له في عيشه. يأتي السيل بعد مدة ويُغرقَ جحره وزوجه ويجرفه وحده إلى جزيرة يحكمها نمرٌ متسلطٌ على  الحيوانات. مع هذا الوصول إلى الجزيرة يبدأ القسم الثاني من الكتاب وفيه يتعرَّف الثعلب إلى الذئب مكابر ويعلمُ منه عن خبر النمر الحاكم الظالم، واسمه المظفَّر بن المنصور، فيشير عليه الثعلب، وكان ذا حكمة، بأن يكون معاونًا للنمر وواليًا يُساعده في سياسة الرعيّة ويمدّه بجزء من صيده. أُعجبَ الذئب بمشورة الثعلب وذهب إلى النمرِ واقترحَ عليه الأمرَ فأُعجبَ به هو الآخر واتَّخذه مساعدًا له في عمله وصيده. يبدأ الذئب بعدها بالتمرُّد على النمر، ولا يلتزم معه بالذي اتَّفق عليه، فتجري بين النمر والذئب مراسلات، يتحوَّل معها النص إلى أدب الترُّسل والرسائل لا تنتهي إلى ما يسرُّ النمر، إذ أظهر الذئب طبيعته الناكرة للجميل. تبدأ بعدها حرب على معارك عدَّة بين النمر وأعوانه والذئب وأتباعه، تكون للذئب الدائرة في أولها ثم يجهّز له النمر جيشًا بقيادته يُنهي أمرَ الذئب ويستأصل شأفه تمرُّده. أما القسم الثالث، الأخير، من الكتاب فهو حين أُمسِك بالثعلبِ أسيرًا، وقبل أن يصل إليه السيفُ كسائر الأسرى صاح بأنه يملكُ نصيحةً للملكِ وطلبَ منه أن يكون ناصحه ومستشاره. شاورُ النمر وزراءه الثلاثة في أمر الثعلب فاختلفوا في أمره، فطلب من مباحثته ومعرفة رجاحة عقله على مسمع منه، فغلبهم الثعلبُ بحكمته وإجاباته البليغة الحاذقة، ثم ساءله النمرُ فأجابه أحسنَ الإجابة، فأُعجبَ به النمرُ وضمَّه إلى حاشيته.      

هذه قصةُ الكتاب بإيجاز وتتدفَّق الحكمة والبلاغة في لغتها وأسلوبها، ويتضح أن للنص في مواضيعه غايات في الحكم والسلطان والولاة والوزارة والاستشارة والحرب والمكيدة والخديعة، ومشتملة على معانٍ رفيعة وحكمٍ بليغة تمتلئ بها الحوارات والرسائل بين شخصيات القصَّة. إضافة إلى أنَّها تجري على ألسن الحيوانات، وهذا النوع الأدبي قديم ومشهور، وظهر في أمم مختلفة، ويكون الحيوان رمزًا للإنسان وتوريّة من الكاتب لما يودُّ الحديث عنه ويخشى التصريح به فيعمدُ إلى هذا الحيلة الأدبية في الكتابة، وأشهرُ الأمثلة على ذلك حكايات إيسوب، وكليلة ودمنة. لكن يبقى التقصير في بعض هذه النصوص، ومنها كتاب النمر والثعلب، أنَّ الكاتب يؤنسن القصة إلى الحدِ الذي يجعل القصة قالبًا مفرَّغًا من منطق الحيوان وعالمه في التعامل مع الأحداث واللغة، فكأن عالمَ الحيوان متماثل تمامًا مع عالم الإنسان. ونرى هذا التأثيرُ يصل إلى اللغة المكتوبة والمنطوقة والسلوكيات المتَّبعة من الحيوانات، وهو متعارضٌ مع الطبيعة الحيوانيّة المختلفة عن البشريّة، فيتضَّحُ لنا أنَّ الكاتب معنيٌ بما يريد إيصاله في نصِّه من حكم وبلاغة وأمثال دون الالتفات الواجب إلى طبيعة النصُّ وشخصياته، وحقيقة عالمه المتخيَّل، وقوانينه المختلفة عن قوانين البشر وعالمهم.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى