سُلوان الهوى عند أوفيد وابن الجوزي
ترجمة وإعداد: مؤمن الوزان
إنَّ سؤال الحبِّ واحد من الأسئلة التي ما انفكَّ الإنسان يسألُها ويحارُ في جوابها، فمنذ الحضارات القديمة وقصائد الحبِّ السومريّة إلى سقراط ومحاوراتِ أفلاطون، ومنذ الإغريق مرورًا بالعرب فالأوروبيين، ومن الهندِ إلى آسيا، حتى يومنا الحاضر مع تطوِّر المعارف الإنسانية وعلمِ النفس، بقي الإنسان في سعي محموم لفَهمِ الحبِّ وأسبابه وعلَّات العاشق وآياته. وكلما زادت معرفة الإنسان وتمدُّنه وتحضُّره تعمَّقَ في بحثه وسعيه لحلِّ أحجية الحب، ولا يخفى على قارئ ما كُتبَ في هذا الحقل منذ القِدَمِ وحتى يومنا. كتبَ أفلاطون محاورة “المأدبة” عن الحب، وكتبَ آخرون كتبًا متنوعة منهم الشاعرُ أوفيد اللاتيني (43 ق.م – 17م) فنظم ثلاثيَّة في الحب: الهوى، وفن الهوى، وسلوان الهوى. وكتبَ العربُ القدماء كتبًا شتَّى مثل روضة التعريف بالحب الشريف، وديوان الصبابة، وروضة المحبين ونزهة المشتاقين، وذم الهوى، وطوق الحمامة، والزهرة. لستُ هنا بصدد الحديث في الحبِّ بل في التخلُّصِ منه، والسلو عن الحبيب، وسُبلِ تجنُّبه والابتعاد عنه والخروج من حفرته، ولعلَّ اللغة تمنحنا أحيانا سخرية لفظيّة كما في العربية هوى/ يهوي أي سقط، وهوي/ يهوى أي أحبَّ، أو الإنجليزية Fall in love أي أحبَّ أو هوى في الحب.
إنَّ معالجةَ علَّاتِ الحبِّ وشفاء العاشقِ من سقمه بحاجةٍ إلى عالمٍ بالنفوس ودائها ودوائها، وإنْ أعيا الحبُّ الأطباءَ وأعجزهم عن هزيمته ظهر ما بين زمن وآخر شاعرٌ أو ضليعٌ من أمراض القلوب ليمنحنا خلاصة معرفته ويسقينا دُرَّ سنيه. من أوائل من شقَّ دربَ علاجِ الحب كان أوفيد الشاعر، فبعد أن كتبَ قصيدة “فن الهوى” في عام 2م، وقد اتُخذت لاحقا ذريعة من الإمبراطور الروماني أغسطس لينفي أوفيد إلى مدينة توميس في عام 8م، حيث عاش بقية حياته حتى وفاته، متهمًا الشاعرَ بنشر الإباحية وإفساد أخلاق الرعية بكتابه، كتبَ أوفيد قصيدة “سلوان الهوى“، وهي الكتاب الثالث بعد قصيدتي “الهوى وفن الهوى“. سعى أوفيد في هذه القصيدة أن يُبيّن السُبل الممكنة والحلول الناجعة التي إذا ما اقتفاها الرجل أو المرأة تمكَّن من السلو عن محبوبه، وابتدأ فصلا جديدًا في حياته منعتقًا مما أثقلَ كاهليه وأذلَّ جبينه وقيَّده بقيوده. لكن هذه الحلول لا تأتي فرادى بل مجموعة كاملة متكاملة يشدُّ بعضها بعضًا ولا سبيل إلا بأن تؤخذَ كلَّها حتى يُضمنَ نجاحها ونجاعتها إلى أكبر قدرٍ ممكن.
تتكون قصيدة سلوان الهوى من 816 بيتًا، ترجمتُ مختاراتٍ بلغ عددها 110 بيتٍ وجمعتها في نصٍ واحدٍ، والفصل بين قسم وآخر. وقد اعتمدتُ في ترجمتي هذه على الترجمة الشعرية الإنجليزية لـ A. S. Kilne الصادرة في عام 2001. وشفعتُ القصيدة بمقتبسات للسلو عن الحب من كتاب ذمِ الهوى لابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ، بتحقيق أيمن البحيري، وطبعة مؤسسة الكتب الثقافية. وما جاءت المقتبسات من فراغ إنما لتشابهها مع نصائح أوفيد، وفي أحيان كثيرة يقعُ الحافرُ على الحافرِ في نصائح السلو عن الحبيب، فاخترتها تأكيدا لقيمة هذه النصائح ونجاعتها.
أما العنوان المُختار “سلوان الهوى” فقد اقترحه ثروت عكاشة في تقديمه لترجمة قصيدة فن الهوى، وهو عنوان دقيق. إذجاء في معنى سُلوان في لسان العرب: “ابن الأعرابي: السُّلْوانَة خََرزَةٌ للبُغْضِ بعد المَحبَّة. ابن سيده: والسَّلْوَة والسُّلْوانة، بالضم، كلاهما خَرَزة شَفَّافَة إذ دَفَنْتها في الرمل ثم بَحَثْت عنها رأَيْتها سوداء يُسْقاها الإنسان فتُسْلِيه. وقال اللحياني: السُّلْوانةُ والسُّلْوانُ خَرَزة شفَّافة إذ دفَنْتها في الرمل ثم بَحَثْت عنها تُؤَخِّذُ بها النِّساءُ الرجالَ. وقال أَبو عمرو السَّعْدي: السُّلْوانة خَرَزة تُسْحَق ويُشْرَبُ ماؤُها فيَسْلُو شارِبُ ذلك الماءِ عن حُبِّ من ابْتُلِيَ بحُبِّه. والسُّلْوانُ ما يُشْرَبُ فيُسَلِّي [أي يُنسي]. وقال الأَصمعي سَلَوْتُ عنه فأَنا أَسْلُو سُلُوًّا وسَلِىتُ عنه أَسْلى سُلِيّا بمعن سَلَوْت؛ قال رؤبة: مسْلم لا أَنْساك ما حَييتُ/ لو أَشرَبُ السُّلْوان ما سَلِيتُ/ ما بي غِنىً عنك وإن غَنِيتُ”.
ويقول ابن حزم، صاحب طوق الحمامة وهو كتاب في الحب، وقد كتب عن السلو، في طوق الحمامة:
ألا لله دهر كنتَ فيه * أعزُّ علي من روحي وأهلي
فما برحت يد الهجران حتى * طواك بنانها طي السجلِّ
سقاني الصبر هجركم كما قد * سقاني الحب وصلكم بسَجْلِ
وجدت الوصل أصل الوجد حقا * وطول الهجر أصلا للتسلي
*
مختارات من قصيدة سلوان الهوى لأوفيد
أيا كوبيدُ لا تَدِنْ شاعرَك بجريرةٍ، وقد لهـجَ–
بثناء فضائـلك، مَنْ وثقـتَ به وصيَّرته فـي إمرتك.
أسعِدِ العاشـقَ المتحمِّــسَ، واغمــره بالسعــادة،
وليذقْ مباهـجَ الحبِّ، وليُـمخرْ مـع الريحِ العُبابَ.
وإذا ما عانى رجلٌ تباريحَ الغرام على يدِ امرأة حقيرة،
فحرامٌ عليه الموت إذا ما اقتـفى نصائحي واعتنقَ فنِّي.
هلـمَّ إلــيَّ أعلمــكَ أيـها الـغِرُّ المـخدوع؛
مَنْ خانتكَ حبيبتُكَ ومتَّ على آثارها.
هلمَّ إليَّ أسقيكَ الدواء؛ تعلَّمْ ممـن علَّمكَ فنون الهوى،
فَيَدٌ تجـرحُكَ وفــي الأخـرى لـك الشفـــاء.
ما نُصحي محصورٌ على الرجالِ، فإياكنَّ أعني أيها النساء،
سلاحـي لَكُنَّ أمنحه وللرجالِ علـى حــدٍ ســواء.
خيـرٌ هــو مسعــى إخمـادُ لـهيبِ النـــيران،
إياكَ وتصييـرَ القلبَ عبـدًا للمشاعـرِ والغــرام.
اقتـفِ أثـري فأنا قائـدٌ، وهدِّئ مـن رَوْعِ الأشجان،
ليمخرِ المركبُ البحرَ والبحَّارةُ والشِّراعُ، وأنا ربَّان.
فحاجتُـكَ إلى الطبيـبِ والشاعــرِ ســواءً بسـواء،
فكلاهـما يمنــحُ الــدواء لكـلِّ ما فيــكِ مـن داء.
*
إذا التـاعَ لكَ فـؤادٌ، ومـسَّه بمِيسمِــه معتادُ الشعور،
فأوقفْ قدميـك، مـا استطعـتَ سبيـلا، عند أولى العتبات.
إنَّ القــوَّةَ ابنةُ الزمان، وبالزمنِ يصيرُ الحِصْرِمُ عنبًا،
به تنضـجُ الثمـارُ وتُحصـدُ الغَّـلاتُ بعـدَ بذرِ الحقـول.
ألـقِ بثاقـبِ البصـرِ علـى مـا أحببـتَ فـي الحياة،
واخلــعْ مــــن رقبتــكِ رَبْقــةً تهبُ لكَ الآلام.
أوصدْ بابَ البدايات، فعسيرٌ علاجُ الطبيبِ بعد الفوات،
حين يستفحل المرضُ ويزداد شراسةً مع الأيام.
تعجَّل، لا تؤجِّلْ عملَ اليوم إلى الغدِ،
فإن عَسُرَ اليــــومَ، فالغــدُ عليــكَ أعْسَـرُ.
إذا مـــا تأهبـــتَ لفنــــون عــــلاجي،
فتخـــلَّ عــــن كســـلكَ، ذا أولُ نُصـحي.
فـي الكسـلِ نشاطُ الحبِّ، وازدهارُه وحفظُه،
فهو منبعُ السرورِ، وغذاءُ الشرور.
فينوسُ مُحبَّةٌ للخمول، وأنتَ ساعٍ لإنهاء الحبِّ،
بالحبِّ يتلاشى العملُ، فاعملْ وانشغلْ لتكن بأمان.
*
في مشاغل الريفِ مباهجُ النفس، وفي تعلُّمِ الزراعة،
حينها سيتسـللُ لنفسـكَ عـلاجُ الأوجاع
ابذرِ الحقــلَ لأجلِ الحصاد، واحرثْ أرضـكَ بابتهاج،
ازرعْ حقـــلكَ وستجــني منه العافيـةَ والأربــاح.
إذا اعتادَ العقلُ على بهجةَ هذي المتعِ،
غادركَ الحبُّ بمهيضِ الجناح.
أو نمِّ فيكَ فنَّ الطَرَدِ، فكثيرًا ما عادت فينوس
تجرُّ أذيال الخيبةِ بعد غَزْوها فويبي1
نمْ ليلًا، لا تطمحْ بنفسكِ للنساء، ومرحبًا بالمُتعَبِ،
فأطرافُكَ بحاجةٍ إلى راحةٍ تستـردُّ قــواها.
سافرْ، وإن عرقلتْ مسيرُكَ صُلْبُ الأغلال،
واشرعْ بخطاكَ إلى أقاصي البلاد.
ستبكي نَعَم، وليسعى لمنعكَ اسمُ الحبيبة،
ستتوقفُ قدماكِ عن المضي في الطريق.
لكنْ حذارِ! كلما ضعفت نيةُ البعاد تأكَّدَ أوانُ الرحيل،
تجلَّدْ، واجبرْ قدميكَ على هذا المسيرِ.
لا تعددِ الساعاتِ، ولا تنظرْ وراءكَ إلى الديار،
حُثَّ الخطى، فالفَرْثيّ2 يفــرُّ سالمًا من الأعداء.
ها أنتَ ذا لإنقاذ الجسدِ صبرتَ على الحديد والنار،
وما رويتَ بالماء فمكَ الصديان.
أتُراكَ سترفضُ علاجًا لو أردتَ لعقلكَ الشفاء،
العقلُ خيرٌ من الجسدِ، وأولى بتجرِّع مرارة الدواء.
لا تحسبنَّ ظعنكَ كافيًا للشفاء، ابــقَ زمنـا حيـثُ قادتكَ خطاك،
حتى يبردَ الرمادُ وتخبو قواه، ويفنى دون إلهاب النيران.
*
إنْ حسبتَ أنّ في ضارِّ الأعشابِ نفعًا،
والسِّحرِ وأباطيله من ثيسالي3، فالأمـرُ أمرُك.
فالشفاء بالسحر مسلكٌ قديم، وها هو ذا أبولو–
يُنعمُ بأطهر شفاءٍ مع مقدَّسِ النشيد.
ليس في فنّي استعانة بالأرواح من القبور،
ولا سحرٌ، ولا تمائمُ، ولا تعاويذُ، تفلقُ الأرضَ.
ولا غَلَّات تُصيَّرُ من حقلٍ إلى حقلٍ،
ولن يخبو بريقُ فيبوس4 على حين غِرَّة.
فما انتفاعكِ يا سيرسي5 من سحـرِ نباتِ بيرسي،
حين ساقَ النسيمُ سفين عوليسَ إلى البعيد؟
ما تركتِ سبيلا إلا وطرقته لتستبقي ضيفكِ الماكرَ،
قد أوغلَ الحبُّ في قلبكِ على مضض.
ها أنتِ ذي صيَّرتِ آلاف الرجال خِرافًا
وقيَّدَكِ العجزُ عن تغيير أهواء قلبكِ العنيد.
أيها الساعي وراء نجدتي ومعونة فنِّي،
لا تعقدنَّ إيمانكَ بالشعوذة والتعاويذ.
*
يا مَن أحببتَ وما استطعتَ نسيانَ محبوبتِك،
راجٍ ذاك وعنه عاجزٌ، هلمَّ أُرشدَكَ الطريق.
حدِّثْ نفسكَ بحبائل حبيبتك وخبائثِ أفعالها
أمامَ ناظريكَ يقطنُ كلُّ ما منها يؤذيك.
لتحزَّ مساوئها فؤادكَ وجِدْ مُرَّ الشعورِ فيها،
تذكَّره، فهاهنا بذورُ ما سيُكرِّهُكَ بها.
’ما أقبحَ سيقانَ حبيبتي‘ لا تخجلِ القولَ،
وإنْ فيهما اكتملَ الحسنُ، وتحرَّينا الصدق.
قلْ عنها ’سمينة‘ إنْ كانت مكتنزة القوام،
و’سوداء‘ إن سمراءُ، وصِمْ رشاقتها بالهُزال.
قلْ عنها ’سفيهة‘ إنْ كانت غريرةً في الحياة،
واُدْعُها بالغريرة إنْ صَدَقتَ في كلِّ الأقوال.
اطـلبْ مـن مـحبوبتكَ كـلَّ مــا لا تجيده مــن فنون،
حثَّها عليهـــا، بالرجــاء والتحــبب والــدعوات.
اسألها الغناءَ إن كانَ صوتُها غيرَ نديّ،
ولترقصْ بين يديكِ إن جهلتِ الخطوات.
لتُكثرِ الحديثَ والخطاب إنْ افتقـرتْ لبلاغة الكلام،
وأناملُها إنْ ما داعبتِ الأوتار لتعـزفْ لك بالقيثار.
ادخلْ عليها فجأةً حين لا تكون بزينتها وطِيبها،
وحثَّ خُطاكَ إلى مولاة قلبكَ في الفجر.
تلكَ ساعةُ التحرُّرِ من زينة المجوهرات،
مُخبَّأةٌ، وسترى محبوبتَكَ بلا أيّ سلاح.
ولتسألنَّ نفسكَ على الدوامِ أين ما أحببته فيها،
إنَّ عظيمَ الحبِّ يُغشي العينَ بدرعٍ خدَّاع.
*
أنصتِ الآن، وحديثي صريحٌ بلا ارتياب،
إنَّ كثرةَ النكاحِ تسوقُ الحبَّ سيّئ المساق.
إذا ما قصدتَ الفراشَ وجُهدَ الشباب،
وحانتْ ساعةٌ من الليلِ واقتربَ المعياد،
خذْ منها قدرَ ما تريد، فخشيتي أن تُذهبَ–
نفسكَ عليها محبَّات، وتفتنكَ بما فيها من ملذَّات.
انكحْ حتى الارتواء، وعُبَّ من نبعها حتى النفاد،
فما بعدَ ذلكَ إلا كسلٌ وفتورٌ وارتخاء.
سأقولها وإنْ على حياء، افترشها بإسرافٍ بوضعٍ وحيد،
ليذهبنَّ هذا بلذةِ النكاحِ ويتلاشينَّ بريقُه وسناه.
افتحْ نوافذَ المخدعِ ليتسللَ إليها الضياء
وانظرْ إلى معايبِ جسدها في ضوء النهار.
ستبلغُ المتُع ساعتئذ جرفَ الانهيار،
وتتهاوى النفسُ مرهقةً، ويخرُ الجسدُ المنهار.
حوِّطْ عقلكَ بكلِّ عيبْ لمحته في الجسدِ الحبيب،
ولا تحيدنَّ بالبصرِ عن كلِّ تلكَ الأغلاط.
*
لتكنْ لك حبيبتانِ في ذاتِ الأوان،
وأكثرَ من ذاكَ إنْ حسبتَ نفسكَ من الشجعان.
إذا ما انشطرَ الفؤادُ ومضى في دربين،
أوهنَ كلُّ شطرٍ من الحبِّ أخاه.
فهذي كبرياتُ الأنهرِ تضعفُ بتعددِ الأفرعِ،
ولهيبُ النيرانِ يخمدُ حين الوقود ينفدُ.
تسألني أينَ ألقى محبوبةً أخرى؟ اقرأ كتبي6
ولتنالنَّ على عجلٍ مركبًا ملؤه نساء.
*
إنْ كان لنصحي منزلةٌ عندكَ، وقد فاه أبولو–
بفمي مُعلِّمًا كلَّ فانٍ من الرجال،
أيها التعِس، إنْ التاعَ قلبُكَ واحترق في نيران إتنا7،
كنْ مع محبوبتكَ كالحجرِ وأبردَ من الثلج.
بالعادةِ يخترقُ الحبُّ الفؤادَ، وبالعادةِ يأتي النسيان،
فَمَنْ يحسبُ نفسه بخيرٍ، سيكون بخير.
طلبتْ منكَ القدوم، فاذهبْ إليها ليلا في الميعاد.
وصلتَ والبابُ موصدٌ؛ تجَلَّدْ وإياكَ الانهيار.
لا تشتمْ ولا تتفوَّه بخادشِ الألفاظ، ولا تلعنْ عِضادةَ الباب،
ولا تلقِ بجسدِك حسراتٍ على العتبةِ الصمَّاء.
قد أقبلَ الصبحُ بالتباشير، فلا تنطقْ بجواكَ والأحزان،
وحذارِ أن تعلوَ محيَّاكَ أماراتُ المعاناة.
ليحطنَّ بعدئذٍ شامخُ أنفها ساعةَ تراكَ بلا اكتراث،
هذه لكَ هديَّتي فخذها بقوَّة من فنَّي.
*
أيها الناعتُ نُصحي بالصعوبة وإرشادي،
إني مُدْنِي الرؤوسَ والجامعُ للزيجة النفوسَ،
زرْ محبوتَكَ وانهلْ أيَّان شئتَ، ما من شيء حرام
لتسرقْ حُرَّ لياليكَ وتبدد باللهو أيامك.
اشربْ من كفيها سقمَك، وليُبِدِ السقمُ حبَّك،
وإذا ما حدَّثتكَ نفسكُ بالرحيلِ فلا ترحل.
ابقَ حتى تُغلبَ نفسُك؛ ما نهايةُ الحبِّ إلا بوفرته،
فتعافُ محبوبتَك ويخلو مخدعُها مما قدْ متَّعك.
*
لا تبقينَّ بعد فراقها وحيدًا فالحزنُ مصيرُك،
ولتعلقنَّ عيناكَ بصورتها خاليًا معها في البيت.
ما حـزنُ الليلِ شبيهٌ أبدا بـحزنِ النهار،
وإذا تركتَ الصحبَ والخِلَّان فمَن يخفف عنك الأشجان.
فلا تَجْنَبنَ الأحاديثَ، ولا توصدْ عليكَ الباب،
ولا تستخفينَّ بدمعِ محاجركَ في الظلام.
*
إنْ غمرَ الحبُّ قلبَك، وأنتَ له ناكرٌ، فتجنَّبِ الوصال،
إنَّ جرباءَ النَعَمِ لا تُربطُ قربَ صحيحِ الغَنَم.
وما النظرُ للجروحِ إلا إدماءٌ لها،
هذي الأجسادِ بالعَدْوى كثيرُ أسقامها.
تندى الجروحُ قبلَ بُرْئها بسالفِ الندوب،
وليسَ في فنِّي لكَ حينئذ شفاءٌ ولا طبيب.
إنَّ البيوتَ لا منجى لها من حريقِ الجيران
فَاْنجُ بنفسِكَ وابعدْ بالخطا عن ذاك المكان.
حذارِ أن تجرك قدماك إلى مواطنِ عَيْشها والعُبُور،
ولا تعودنَّ إلى قديمِ عاداتكَ والأعمال.
وإذا ما حَدَتكَ نفسكَ إليها بالسؤال فإياكَ والسؤال،
تصبَّرْ! لسانُكَ حِصنُكَ فامسكْ عليكَ اللسان.
وضَعْ في الحسبان، خيرُ انتقامٍ مسلكُه السكوت،
وليتلاشى ذكرُها بعدئذ ويزولُ الحنين.
ويضحملُّ الحبُّ ويذهبُ أدراجَ الرياح،
ليندثرْ هواكَ برفقٍ وطيبٍ وجلال.
حذارِ أن تكره بعد العشقِ حبيبتَك، فإياك!
فهذا نذلُ السلوكِ وقبيحِ العريكةِ والخِصال.
يكفيكَ في هذا الإهمال، مَنْ يُنهِي بالكره حبَّه؛
إما عاشقٌ لا يزال وإما أسى الفُرقةِ يفوقُ الاحتمال.
عارٌ عليكما أيها الاثنان إنْ استبدلتما العداوةَ بالهوى،
فهذي فينوس قربَ معبدها ساخطةٌ على ذي الأفعال.
وإذا ما جمعتكما الأقدارُ يومًا من جديد،
فلا تنسينَّ ما وهبتكَ من نصحٍ وسلاح.
لا ترجِّلْ شعرَك لأنكَ عليها مُقبلٌ،
ولا تلبسْ فاخرَ الثياب لتُخلِّبَ فيك لُبَّها.
ليستْ بشيء فخفِّفْ الوطءَ، واطمحْ لغيرها من النساء
لتكنِ اليومَ واحدةً من كثير، وهي وغيرُها لكَ الآن.
*
انصتْ إليَّ واعرفْ ما يُبدد الجهودَ ويُثقلُ القيود،
وكلُّ امرئ عارفٌ بما له من أحوال.
لا تُضعفنَّكَ دموع الحبيبة فالحذار الحذار،
فأعينهنَّ مجبولةٌ على الاغريراقِ والبكاء.
لا تُعلمْها بأسبابكَ حين تهمُّ بالفِراق،
لا تُخبرها ما يُشجيك، احزنْ بصمتٍ ساعةَ زمان.
لا تَعددْ عليها أخطاءها فتُقلِّلُها، فضِّلْ نفسكَ،
ولتكنْ لكَ اليدُ الطولى حين الافتراق.
مَن يصمتْ ينتصرْ، ومن يصبُّ اللعناتِ؛
لا يتهمنَّ إلا نفسَه، وفي ذا راحته ورضاه.
فاضلْ فتاتكَ بالأخرياتِ من الحِسان،
وليشعرنَّ كلُّ رجلٍ بخزيه من محبوبته.
إياكَ ومفاضلةَ الحسنِ بل والعريكة والسجايا،
ما دامَ الحبُّ لا يحرفنَّكَ في الأحكام.
*
تافهٌ ما أنا مُنشدٌ الآن، لكن في التفاهة–
منافعُ وخيراتٌ جنيتُها وغيري كثير.
لا تقرأ قديم رسائل محبوبتك بعد الفراق،
في قراءتها اهتزازُ الشعور، وتقهقرُ القلب العنيد.
احرقْها في لهب النيران وإنْ ما طاوعكَ الفؤاد،
وقل ’هذه مِحرقةُ جثمانِ محبَّتي وهواي‘.
وارمِ صورًا من الشمعِ لوجهها، جديرٌ بفعلها!
فلا تضعف أمام أعجمِ الشبه، ما هلاكُ لاودَمْيَا8 إلا بذا.
إنَّ الذكرى تُحيي الحبَّ، وتُفْتِقُ عتيقَ الجراحِ،
ونزيرُ الأخطاء يهدمُ العقلَ الضعيف.
فإن عجزتَ عن تفادي ما يُوقظُ الحبَّ،
ستلتهبُ النيرانُ من جديد بعد الخمود.
*
لا تَزُرِ المسرحَ؛ في تجنُّبه الخيرات،
وابتعد عنه حتى يعودَ القلبُ خالي الوفاض.
وأنصحُكَ على مضض لا تسمعْ رهيفَ الأشعار،
ولأخونَّنَكَ لو لم أهبِكَ كلَّ فنوني وهداياي.
*
لا تنجرَّ وراء خيالك وتحسبْ أنّ لك غريما،
وتيقَّنْ خيرٌ لكَ أنها وحيدةٌ في الفراش.
وإنْ كان لك غريمٌ أحزنكَ يومًا بشديد التباري،
فلا تنظرْ له بعدُ عدوًّا إني لك من الناصحين.
لتكن له منك التحيَّةُ وإنْ أرغمتَ نفسك،
وساعةَ وسعَكَ لقياه بلا بغضٍ فقدْ دنا الشفاء.
*
هذا النشيدُ قد انتهى فتوِّجوا جؤجؤ مركبي بالأكاليل،
قد بلغتُ المرفأ الذي قصدتُ بمَهمتي.
عاجلا ستدعون بأقدسِ الدعوات لضريحِ الشاعر،
أيها الرجال والنساء، فقد شُفيتم بنشيدي.
الهوامش:
1- حملت عدة شخصيات أسطورية هذا الاسم أو وصفت به، وهي واحدة من العمالقة في الأساطير الإغريقيّة، لكني لم أهتدِ إلى الشخصية المقصودة.
2- نسبة إلى إمبراطورية فرثية التي امتدَّ نفوذها على أراضٍ كثيرة وصلت إلى اليونان.
3- منطقة عتيقة التاريخ، تشكل اليوم المنطقة الإدارية لليونان.
4- فيبوس: إله الضوء والنبوءة والشعر والشفاء في الأساطير اليونانية، وهو نفسه أبولو.
5- الساحرة سيرسي التي سحرت رفاق عوليس بعد أن رست سفينته في جزيرتها، لكنها ما استطاعت سحرَ عوليس لأن الآلهة أنقذته بنباتٍ سحريّ مُضاد.
6- يقصد قصيدتيه الأوليين الحب، وفنُّ الهوى.
7- بركان إتنا واحد من أكثر بركان نشاطًا في العالم، وهو نشطٌ تقريبًا على الدوام.
8- لاودميا: كانت حديثة عهدٍ بزاوج البطل الطرواديّ بروتيسلاوس، الذي قُتلَ في حرب طروادة، ثم سمحتْ لبروتيسلاوس الآلهةُ أن يزورَ زوجته من عالمِ الأموات ثلاثَ ساعاتٍ لا غير لحداثة زواجه، وما طاقت لاودميا صبرًا على فراقه فانتحرت.
ذم الهوى
يقول ابن الجوزي في السلو عن الحبيب، وهو الباب التاسع والأربعون من كتابه ذم الهوى بعنوان: في ذكر أدوية العشق، وهي على قسمين أدوية الظاهر وأدوية الباطن.
– وعلاج هذا المرض: العزمُ القوي على البعد عن المحبوب، والقطع الجازم على غض البصر عنه، وهجران الطمع فيه، وتوطين النفس على اليأس منه، والنظر فيما تقدَّم من ذم الهوى والتحذير من ذلك.
– متى اشتدت العزيمة فقطعت الطمع ومكَّنتَ اليأس، ثم أُجيلَ الفكر في خوف العواقب في الدنيا والعقوبة في الأخرى، وكُرر على النفس ما سبق من ذم الهوى وما فعل بأربابه فأضناهم وأمرضهم، وأذهبَ دينهم ودنياهم وجاههم بين الناس فاستغاثوا بعد الفوت.
– فإذا عرفتَ غرور الشيطان في زعمه أن القرب دواء، وأن النظر شفاء، بما أوضحت لكن من أن قوله محال، وأنه أمر تزيد به الحال، مع ارتكاب المحظور الذي لا طاقة بعذابه، ولا قوَّة على عقابه، علمتَ حينئذ أنه لا علاج إلا بالهجر وحَسم الطبع من غير تردد.
– إن قويت أسباب الهوى فحملتك على الخلوة بحبيبك، فقد تعرضت الأسد في خِيسه، وبعيد سلامةُ مثلك. فالهربَ الهربَ، فلا نجاة في غيره. فإن أمسكك الهوى فاجتذب نفسك من يده بخوف من يراك حين تقوم، واستحْيي من نظره إليك فإنه حاضر معك.
– إنَّ العلاج الكلي في جميع أمراض العشق الحِمْيةَ، وإنما تقع الحمية بالعزم الجازم على هجر المحبوب، فإن حصلت الحمية حسُنت المعالجة، والعلاج حينئذ يقع للظاهر والباطن، فليبتدئ المريض باللجوء إلى الله سبحانه، وليكثر من الدعاء، فإنه مضطر، وهو يجيب المضطر إذا دعاه، ثم ليتعالج [بما فيه من أمراض حسيّة بسبب الحب كالهُزال والسهاد]، فإن الأسباب لا تنافي التوكل والدعاء.
– ومن المعالجات السفر، فإنه بالسفر يتحقق البعد عن المحبوب، وكل بعيد عن البدن يؤثر بعده في القلب، فليصبر على مَضَضِ الشوق في بداية السفر صَبرَ المصاب في بداية مصيبته، ثم إن مَرَّ الأيام يهوِّن الأمر.
– وكذلك كل ما يشغل القلب من المعاش والصناعة، فإنه يُسلي، لأن العشقَ شغلُ الفارغ، فهو يمثل صورة المعشوق في خلوته لشوقه إليها، فيكون تمثيله لها إلقاءٌ في باطنه، فإذا تشاغل بما يوجب اشتغال القلب بغير المحبوب دَرَسَ الحبُّ ودثرَ العشقُ وحصل التناسي.
– ومن ذلك استغراض النساء للتزويج، والجواري للتسري، وليطلب الحسَن الفائق، فإنه يُسلي، وقد وصفَ الحكماء الحُسنَ والملاحة.
– ومن أدوية الظاهر كثرة الجماع وإن كان لغير المحبوب. ووجه كونه دواءً أنّه يقلل الحرارة التي منها ينتشر العشق، وإذا ضعفت الحرارة الغريزية حصل الفتور وبرد القلب فخمد لهيب العشق. وقد قال ابن الرومي:
وطأْ من شِيب يغنيك * عن الحسناء في الذروة.
– ومن الأدوية عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، والنظر إلى الموتى والتفكر في الموت وما بعده، فإن ذلك يُطفئ نيران الهوى، كما أن سماع الغناء واللهو يقويه، فما هو كالضد يضعفه، وكذلك مواصلة مجالس التذكر ومجالسة الزهاد، وسماع أخبار الصالحين والمواعظ.
– ومما يداوى به الباطن أن تفكر فتعلم أن محبوبك ليس كما في نفسك، فأعملْ فكرك في عيوبه تَسْلُ. فإن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يُصوِّر له الهوى عيبا، لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يُغطي المعايب، فيرى العاشقُ القبيحَ من معشوقه حَسَنًا.
– ومن أدوية الباطن أن يتفكر الإنسان بما يفوّته تشاغلُه بالمعشوق من الفضائل فإن أرباب اليقظة عشقهم للفضائل من العلوم والعفة، والصيانة والكرم، وغير ذلك من الخلال الممدوحة أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس، لأن شهوات الحس حظُ النفس، وتلك الخلال حظُ العقل، والنفس الناطقة الفاضلة إلى ما يؤثره العقل أميلُ، وإن جرَّها الطبع إلى الشهوات الحسيَّات.