تلعبُ تجربة السجن في حياة الإنسان دورًا محوريًّا كبيرًا لا سيما إذا كانت في سجون حكوماتٍ ظالمة وقمعية، وتزداد هذه التجربة مرارة بازدياد نقمة السجَّان على السجين وتوجهاته الفكرية والدينية والسياسيّة. لكن ثمة تجربة سجن مختلفة عما سواها، وهي تجربة السجن عند العدو نتيجة الأسر في المعارك، لتتكاثف ظلمة الزنزانة ويضيق قاعها على السجين خانقًا جسده وروحه. فكيف إذا كان الأسر على يد عدوٍ لدودٍ لا يرقبُ في امرئ إلًا ولا ذمة ولا خُلقٍ ولا دين ولا إنسانية. هذا ما مرَّ به نزار السامرائي الذي يأخذنا في كتابه “في قصور آيات الله” إلى حياة الأسر، حيث سلخَ عشرينَ عامًا من عمره في أتون السجون، إثرَ وقوعه ورفاقه بيد الجيش الإيراني في معارك جبل المشداخ.
ينقل السامرائي في هذا الكتاب مذكراته في الحرب وما سبقها ثم تجربة الأسر في بداية عام 1982، فتنقل إثرها في “قصور الأسر” في طول إيران وعرضها حتى تحرره من الأسر في عام 2002، لكنه يضفي عليها الطابع التحليلي، وإن أكَّد أكثر من مرة أنه ليس بقائدٍ عسكري ولا يملك الخبرة العسكرية التي تؤهله للبتِّ في مجريات المعارك والخطط الحربيّة، لذا فإن ما ينقله لا يعدو أن يكون رؤيته وآرائه. هذا الكتاب شاهد على مرحلة مهمة في تاريخ العراق الحديث والمنطقة، وما لها من تداعيات نعيش تبعاتها اليوم، فقد كانت حرب الثماني سنوات حربَ العرب في التصدِّي للمدِّ الإيراني، لكنها حرب ما حارب فيها سوى العراق، وبالتآمر عليه خسروا وتطايرت عروش وضاعت بلادٌ، وهم اليوم في وجه المد الإيراني وحدهم تارة يستنجدون بأمريكا وتارة ليس له أحدٌ حتى وجدوا في “إسرائيل” مدافعةً عنهم، في حالٍ تجتمع فيه قمَّة السخرية والمهانة والجبن والذلَّة.
وبالعودة إلى كتاب نزار فإنَّ ثمة ملاحظات تسترعي الوقوف عندها وذكرها، وهي تخص الأسر دون سواها.
– كانت الحربُ حتميّة على العراق الذي جُرَّ إليها جرًّا وما كان له من بدٍّ سواها، وهذا ما يؤكده السامرائي، وأنَّ الخميني كان يطمح إلى تصدير الثورة إلى العراق وشنَّ الحرب عليه بأي ثمن. ولعلَّ من لا يُصدِّق بهذا، ويتعامى عن الحقيقة، يُبصر حال العراق بعد الاحتلال الأمريكي الذي قدَّم العراقَ لإيران وأذنابها على طبق من ذهب، وشهد ما شهد من كوارث ومصائب وجرائم، من أبرزها قتلُ الكثير من الضباط والطيارين العراقيين المشاركين في حرب إيران، ثم تدمير العراق الممنهج على الأصعدة كافة.
– إنَّ وقوع الكثير من الجنود العراقيين في الأسر، بدا واضحا مما ذكره نزار، تتحمل القيادة العراقية مسؤوليته كاملة، لا سيما بعد إنشائها ألوية المهمات الخاصة التي ضمَّت إليها جبرًا باسم “التطوع” أعضاء الحزب من غير المقاتلين أو حتى غير المُدرَّبين تدريبًا كافيًا، وزُجُّوا في أتون الحرب الحرَّاقة للأجساد الأكَّالة للأراوح. والسامرائي، الذي شغل مدير عام دائرة الإعلام الداخلي، أحد هؤلاء الذين ضُحيَ بهم دون أن يكون ثمة تخطيطٌ كاملٌ لبعض معاركها، وبالأخص ألوية المهمات الخاصة.
– شهدت سنوات الأسر في السجون الإيرانية انقسامات متعددة، لكنها برزت على نحوٍ رئيس بين من رضي أن يبيع نفسه لإيران ويصبح من التوَّابين، وهو الاسم الذي أطلقته إيران على من بايعها ضد العراق وصدَّام. وأصبحَ هؤلاء التوَّابون ذراع إيران الضاربة في السجون ضد الفريق الثاني الرئيس من الذين بقوا متمسكين بشرفِ الولاء للوطن والجنديّة، وما رضوا أن ينحدروا إلى مستنقع الخيانة.
– يلعب الدين والمذهب دورًا جليًا، بل هو المحرِّك لكلِّ شيء تقريبًا، في تحديد الولاء لأي طرفٍ والبراء من الآخر، فمن وقف مع إيران فقد اقتنع أو تبنَّى رؤيتها الدينية في إقامة دولة إسلامية شيعية، ومن رفضَ فإنَّ الكثير منهم، والسامرائي أحدهم، كانوا من السُّنة. ولا يمكن تجاهل هذه الحقيقة بأي شكلٍ من الأشكال، فهي في إحدى طياتها حرب سنيّة شيعيّة، وإن امتزجَت الوطنيّة في صدور من رفضَ مولاة إيران.
– المعاملة السيئة التي تعرَّض لها الأسرى العراقيين على النقيض من الشعار الذي رفعته إيران في معاملة الأسرى معاملة إسلامية، وهو أحد شعاراتها الكاذبة لذر الرماد في العيون، فما كانت إيران لتقرَّ بالإسلام المحمديّ دينًا بل بإسلام تحدد مقاساته وفقًا لأطماعها وفكرها وما تريد تحقيقه لا أكثر. وهذا مشهود في عراق ما بعد 2003 ليس ثمة حكم إسلامي في العراق رغم التبعية المطلقة لإيران، ووجود مرجعيةٍ في النجف تبارك من يتولى من منصب رئاسة الوزراء. لكننا نرى في أرض الواقع أنَّ جلَّ من القتلة والمجرمين من زعماء المليشيات يرتدون العمائم، فالدين لديهم دين مختلف عن الدين الإسلامي، ودين إيران هو الآخر ليس الإسلام وإن قالوا إنَّ الدين عندنا الإسلام.
– كشف كتاب السامرائي تهاونًا شديدًا من الجانب العراقي في متابعة قضية الأسرى العراقيين، بل شبه نسيان كامل، وتتحمل القيادة العراقية، متمثلة برأس الهرم صدام حسين، المسؤولية الكاملة بالتناصف مع الحكومة الإيرانية عن السنوات الضائعة من عمرِ الأسرى وما تعرَّضوا له من إذلال ومهانة وحياة ضيق وضنك.
– من الأمور التي لا تُخطئها عينٌ قارئة لهذه المذكرات، هو الفكر الحزبي للأسرى في إعادة هيكلة حزب البعث داخل السجون، والولاء المطلق لصدام حسين، وإحياء المناسبات الوطنية داخل السجن بعيدًا عن أنظار السجَّانين. يقول السامرائي إنَّهم بإحيائهم ذكرى هذه المناسبات يبعثون الأجواء الوطنية في النفوس ويقرِّبون الوطن البعيد عنهم. لكن وما تكشفه كلمات السامرائي، فإنَّ ثمة اتحادًا، لدى الكثير من الأسرى، ما بين العراق وصدام فهما واحد لا يتجزَّأ. وفي الوقت الذي يعيبون فيه على الجنود الإيرانيين ولاءهم المطلق للخميني وما يعبِّئه فيهم من معتقدات، فهم الآخرون يفعلون الأمر نفسه بولائهم المطلق لصدام، فلا فرق بين الفريقين فكلاهما أتباع رجلٍ واحد.
– يضم الكتاب الكثير من القصص المؤسفة والمحزنة من حياة الأسر، لكنه في المقابل يجمع قصصًا تشي بروح الإقدام والبسالة والصبر والتحمل والشجاعة والرجولة والوطنية والإيمان والأثرة على النفس وعزَّة النفس والوَحدة والتكاتف وروح الإخاء والكرامة والكرم. ولعلَّ أبرز ما ذُكر من حوادث تحمل مفهوم العزَّة وحب الوطن في الكتاب هو ما اختُتِم به، حين وقفَ نزار قبل أن يدخل الحدود العراقية متحررًا من قيود الأسر في عام 2002 ورفض أن يدخل العراق وترابه الطاهر بنعالٍ إيراني، فخلعه ودخلَ حافيًا أرضَ الوطن بعد طول غياب.