لم يقتصر الإبداع في عائلة برونتي على الأخوات الثلاث فحسب، إذ يوجد من لعبَ دورًا مهمًا في حياة الأخوات، وأثَّر في أدبهن، وساهم في صيرورة أسطورة برونتي فكان محفِّزًا لاختلاق قصصٍ وخرافات عن كتابات الأخوات برونتي. ولا ضيرَ إن تساءلنا كيف يُمكن أن تكون روايات جين إير ووذرينغ هايتس ونزيلة قصر ويلدفيل لو لم يكن برانويل في منزل الخوري باتريك؟ بالتأكيد سنرى أعمالًا مختلفة عن التي نعرفها وقرأناها ومن دون التقليل من موهبة الأخوات الأدبية فإنَ حياةَ برانويل الميلودرامية ومأساته الشخصيّة نبعٌ من المنابع التي مدَّت الأخواتُ أباريقَهن في مجراه واستقين منه أهمَّ الشخصيات، ولنكن موقِّرين لملكة الإبداع البرونتيّة ونَقُلْ على نحو جزئي، روشيستر وهيثكليف وهنتغتن. ولن أنجرَّ خلف الحكايات الأسطورية التي جعلت من برانويل مؤلف رواية وذرينغ هايتس الحقيقي، فهي ادعاءات سخيفة لا دليل عليها بل ولا تتسق مع ما لدينا من شواهد سواء رسائل وما نعرفه عن طبيعة إميلي المتحفِّظة وما يؤكِّده شعرها بأنها مؤلفة هذه الرواية الوحيدة وبلا أي مساعدة، وسأعود إلى هذه النقطة في آخر المقال.
ولد برانويل في ثورنتون في عام 1817، الرابع في ترتيبه بعد ثلاث أخواته وقبل أختين، لكل من ماريا برانويل وباتريك برونتي. وكان برانويل سميَّ جده لأمه التاجر السيد توماس برانويل. لم تختلف طفولة برانويل عن تلك التي حظيت بها أخواته، وإن كان المحبب لوالده لأنه الابن الوحيد، فشهد في سن الرابعة وفاة أمه ماريا ثم موت أختيه لاحقا.
تعلَّم برانويل في المنزل على يد والده في الوقت الذي كانت أخواته الأربع في المدرسة الداخلية في كاون بريدج، وبمعونة خالته كذلك. بدت عليه النجابة منذ الصغر، ففي الرسالة الشهيرة التي يتحدث فيها باتريك عن اكتشافه حدة ذهن أطفاله يكتب عن برانويل حين جاء دوره ليسأله: ’وعندما سألتُ برانويل: ما أفضل طريقة للتمييز بين عقول الرجال والنساء؟ أجاب: أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين أجسادهم‘.
قاسى برانويل في طفولته مصيبة أخرى حين تُوفيت أختاه الكبريان ماريا وإليزابيث تواليا ما بين شباط وحزيران عام 1825 بسبب الظروف الصحية والغذائية السيئة في مدرسة البنات الداخلية في كاون بريدج. كان برانويل واعيًا لهذه الفقد المرير لأختيه لا سيما ماريا الكبرى فيجسِّد مشاعرَه تجاها بعد سنوات في قصيدة “كارولين Caroline” جاء فيها:
انحيتُ لقطفِ برعم وردة نما/ يتمايل عند النافذة، بتأنيب من بعض الألم/ سحبتُ يدي التي مُدت، فمَن أحبتها ليست هنا/ من كانت بعين حمامة تراقبني، وثمة ما ينقص تجمُّلي/ أن تُقطفَ وردتها المفضلة.
بعودة شارلوت شارلوت وإميلي في خريف عام 1825 بعد وفاة أختيهما؛ التمَّ شمل الأربعة مجددًا واستمرَّ تعليمهم المنزلي لك في ذات الوقت فُتحَ لهم بابٌ كبيرٌ تمثَّل في مزاولتهم الكتابة الإبداعية وتأليف موادًا قصصية وشعرية كثيرة جدًا؛ ما زال جزء كبير منها موجودًا. تكتب شارلوت عن هذه الانطلاقة: “في إحدى الليالي، وحين تتبعُ المطرَ الثلجي البارد وضبابَ نوفمبر الهائجَ عواصفُ ثلجية، وريح ليلية عاتية مؤكدة حلول الشتاء، قعدنا جميعًا نحيط موقد المطبخ ساعين إلى الدفء، بُعيد أن تشاجرنا مع تابي [الخادم] حول من يستأثر بضوء الشمعة وخرجتْ ظافرةً به، ولم نحصل عليها. تبع الحدث مدة صمت طويلة قبل أن يكسره برانويل في الأخير قائلًا بطريقة غبية “لا أعلم ماذا أفعل” وكررت إميلي وآن هذا.
تابي: لماذا لم تذهبوا إلى الفراش.
برانويل: أفضّل فعل أي شيء على هذا.
شارلوت: لماذا أنتِ متجهمة جدًا الليلة يا تابي؟ أو لنفترض أن كل واحد فينا يملك جزيرته.
برانويل: لو أتيحَ لي الاختيار سأختار جزيرة مان.
شارلوت: وأنا جزيرة وايت.
إميلي: وأنا أران.
آن: ويجب أن تكون جزيرتي غيورنسي.
بدأ الأربعة بكتابة مجلدات قصص ومجلات ومسرحيات تراوح عدد صفحاتها ما بين ستين ومئة صفحة بحجم صغير بخط ضئيل الحجم لشارلوت وبرانويل لا يُقرأ إلا بعدسة مكبرة وبصعوبة، ومن هذه الكتابات “مجلات صغيرة“، و“حكايات الجُزر” التي تذكر شارولت أنها دُوِّنت في عام 1827 بخط يدها وأخيها. كان للعبة الجنود التي حصل عليها برانويل هديةً من والده دورٌ في إذكاء نار الإبداع فتشارك مع شارلوت نيابة عن إميلي وآن كتابة قصص مملكة أنغريا وغلاس تاون وغيرهما. فلم يكن برانويل في معزل عن الكتابة الإبداعية لأخواته فهو جزء منها، وإن راودَ الأخواتُ في صغرهن كما تعترف شارلوت رغبةً أن يصبحن مؤلفات فإن لبرانويل هو الآخر هذه الرغبة التي ابتدأ بها حتى قبل أخواته. استمرَّ برانويل بمزاولة الكتابة في سنوات حياته اللاحقة ولم يتوقف حتى ولج خريف حياته المأساوي بحب مَرَضي مُهلك.
*
وهبَ برانويل موهبة الرسم، فتنامت بعد أن عيَّن باتريك ما بين 1829-1830 جون برادلي معلمَ رسم لبرانويل وأخواته. تعلَّم الأربعة الرسم، وكان برانويل الأميز بين أخواته لا سيما في رسم البورتريه وله لوحات منها اللوحة الشهيرة للأخوات برونتي رسمها في عام 1834، ورسم نفسه مع أخواته لكنه طمس صورته بعدها. وتذكر غاسكل في كتاب سيرة شارلوت بأنَّ الأخيرة أخرجت لها هذه اللوحة وأخبرتها أنها من رسم أخيها حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وأختيها إميلي وآن في السادسة عشرة والرابعة عشرة.
من اليمين إلى اليسار: شارلوت – “برانويل” – إيميلي – آن، رسم برانويل 1834
بعث برانويل برسالة في عام 1835 إلى أكاديمية الفنون الملكية طالبًا قبوله فيها. قُبلَ في الأكاديمية وانتقل إلى لندن بعدها بيد أنه لم يكمل دراسته فيها والأسباب مختلفة وغير مؤكدة لكن المرجح هو بداية انحرافه السلوكي وتعاطيه الكحول، وعاد بعدها في عام 1838 للعمل رسام بورتريه في برادفورد لكنه وجد المنافسة شديدة والزبائن نادرين ففشل في أولى مهنه وعاد مديونا بعد عام إلى هاورث حيث بدأ بشرب الكحول أكثر وتعاطي الأفيون. تمكَّن برانويل في أواخر عام 1840 بفضل معارفه وعلاقاته من تأمين وظيفة “موظف مساعد” في محطة قطار مانشستر وليدز بالقرب من هاليفكس، ثم عُين في العام التالي بوظيفة مدير محطة قطار لودنديفوت غرب ويركشاير. استمرَّ برانويل خلال هذه السنوات بالكتابة وراسل شعراء عارضًا عليهم قصائده وترجماته منهم دي كوينسي وكوليردج، ودعاه الأخير إلى منطقة البحيرة الشهيرة فقبل دعوته وزاره.
لم يستمر عمل برانويل في وظيفته الأخيرة فطرد بتهمة تبديد المال بعد أصبح يقضي وقتا أطول مع أصدقائه في الكتابة وشرب الخمر في الحانة بدلا من تحسين عمله. ليرجع رجلًا بائسًا إلى هاورث في عام 1842 ويعود سيرته الأولى بشرب الخمر وتعاطي الأفيون.
تتحدث وينفريد جيرن عن هذه الحقبة في كتبها عن الأخوات برونتي: ’فشل برانويل في أربع مهن عمل بها: رسام، ومؤلف، ومعلم، وكاتب. أما المهنة الوحيدة التي كانت مناسبة له فهي رسام بورتريه إلا إنه أهملها كما البقية، وبدا أنَّ لا عمل مناسبًا له، على الرغم من أن غروره انحدر به إلى مهنة كاتب رسائل. وبعد التخلي عنه في عمل داخل محطة قطار عاد إلى المنزل في عام 1842 كله خزيٌ ورجل بائس من أعماقه‘.
*
شهدت هذه السنوات عمل آن مربية لدى أسرتي إنغام وروبنسون (1839-1845)، وعمل شارلوت مربيةً لدى عائلتين بعد تركها وظيفة معلمة في مدرسة روو هيد لكنها عادت إلى هاورث في عام 1841 لأنها لم تتأقلم مع العمل مربية. أما إميلي فلم تعمل سوى ستة أشهر في مدرسة لوو هِل بالقرب من هاليفكس. لتقرر الأخوات البدء بمشروع مهني وافتتاح مدرسة داخلية للبنات في هاورث، فسافرت شارلوت وإميلي إلى بروكسل في شباط 1842 لتحسين مهاراتهن في الأدب واللغة والفنون من أجل المدرسة الداخلية لكن سرعان ما عادتا بوفاة خالتهن، ثم سافرت شارلوت وحدها إلى بروكسل في بداية 1843 وكانت سنة متقلبة بتنامي عواطف وحب مرير غير متبادل، لتقفل راجعة إلى هاورث في كانون الثاني 1844.
أثناء بحث الأختين عن مخرج من هذا الوضع المادي والمهني المتعثِّر كان برانويل ينحدر به الحال أكثر فأكثر. وهنا ظهرت آن لتلعبَ دور المنقذة لأخيها برانويل حين أمَّنت له وظيفة مرشد لإدموند، ابن أسرة روبنسون، حيث كانت تعمل، فما زال في قلبها بقية من إيمان بأخيها ليتحسَّن حاله وينتشل نفسه من هذا الوضع المخزي.
بدأ برانويل بالعمل لدى أسرة روبنسون مع أخته، لكن هذه الوظيفة جلبت عليه مأساته الأخيرة وأعلنت بدء فصل عاصف ستضرب عواصفه منزل الخوري وتجعله في مهبِّ رياح الموت. قضى برانويل سني 1843-1845 في عمله لكنه وقع فيما لا يُحمد عقباه.
يتحدث الكاتب نيك هولاند عن برانويل قائلا ’أحب برانويل على العكس من أخواته أن يستحوذ على اهتمام الآخرين، ووجدَ أحيانا في حانة هاورث يؤدي عرضه الذي أجاده وهو كتابة الرسائل بكلتا يديه في آن واحد، وكان متحدثا مفوَّها، ورجلا جذَّابًا، ويبدو أنه لم يستغرق وقتا طويلا ليقع في غرام ليديا روبنسون‘.
تُوصف ليديا بأنها امرأة ذات جمال باهر، ويبدو أنَّ الاثنين قد انجذبا نحو بعض أو انجذاب من برانويل فقط، فهو لم يتأكد من مشاعرها تجاهه قط. يكتب برانويل رسالة إلى صديقه فرانسيس غروندي في عام 1845 جاء فيها:
’أفصحتْ هذه السيدة (مع أن زوجها أبغضني) عن درجةٍ من اللطف بلغت مستوى جليًا أكثر من محضِ مشاعر عادية حين كنتُ متأثرًا من أعماقي من سلوك زوجها في أحد الأيام. أنا مُعجبٌ بشخصها وسماتها العقليّة الجذَّابة، ومُدركٌ لصدقها المتواضع ومزاجها اللطيف واهتمامها الدؤوب بالآخرين بلا انتظار مقابل لكل ما تمنحه– وعلى الرغم من أنها تكبرني بسبع عشرة سنة فقد أدَّتْ كل هذه السمات إلى تعلُّقي بها، وأدى إلى تبادل مشاعرٍ لم أسعَ إلا خلف النزر اليسير منها. عانيت يوميا خلال ثلاث سنوات بهجةً مُكدرة، وسريعا ما عُوقبتُ بالخوف‘.
تستَّرت آن على هذه العلاقة المتولِّدة بين الاثنين على مضض، حتى بلغَ السيل الزبى، فتخلتْ عن وظيفتها في قصر ثورب غرين عام 1845 وعادت إلى هاورث، ليُطرد برانويل من وظيفته بعد مرور شهر من مغادرة أخته، إذ من المرجَّح اكتشاف السيد إدموند علاقته مع زوجته. تدهورت حالة برانويل هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة وفاقم وضعَه سوءًا الحبُ اللاهب في قلبه والعاصفُ في حياته المضطربة، فزعزعَ استقرار عائلته في هاورث. وكان برانويل أحد الأسباب في فشل نجاح مشروع المدرسة، الذي انطلقت به الأخوات بعد عودة آن، بسبب حالته النفسية المتأزمة والمضطربة ومكوثه أكثر الوقت في البيت.
بقي برانويل بعد عودته إلى هاورث متشبِّثًا بأمل زواج ليديا، ويبدو أنها وعدته بالزواج بعد وفاة زوجها كما تذهب وينيفريد جيرن، فازداد حماسه مجددًا في أيار 1846 بعد وصول أنباء وفاة السيد إدموند روبنسون، زوج ليديا، ظنًا منه أن ليديا ستستأنف علاقتهما. بيد أن إدموند روبنسون كان حازمًا بهذا الشأن فأوصى قبل موته بمنع لقاء ليديا ببرانويل وحرمانها من الميراث إن فعلت ذلك، كما تذكر غاسكل في سيرة شارلوت (يُنكر نيك هولاند وجود أي دليل على هذا الادعاء المذكور في كتاب غاسكل) وأوصلَ تهديدًا بقتل برانويل إن اقترب منها. تزوجت ليديا بعد ذلك البارون السير إدوارد دولمان سكوت فتصفها بسبب ذلك جيرن بالمرأة اللعوب، وغاسكل بالمرأة الخبيثة، وغيرهما بأنها امرأة متسلقة اجتماعية لن تجدَ نفعًا من زواجها برانويل وسعت أيضًا إلى تزويج ابنتيها من رجلين ذوي مراكز اجتماعية رفيعة؛ نجح الأمر مع واحدة وفشل مع الأخرى بفضل آن التي نصحتها بعدم الانجرار خلف زواجات كهذه.
*
أدمنَ برانويل في آخر ثلاث سنوات من حياته الأفيون وتعاطى الكحول بإفراط في كل مرة وجد إلى ذلك سبيلا. ووجدت الأسرة نفسها مع أخٍ مهووس ومتعاطٍ للأفيون يتسلل من البيت حين تذهب الأسرة إلى الكنيسة –يتعذَّر بعدم قدرته على الذهاب– متجهًا إلى من يؤمِّن له الأفيون في القرية، كما أنَّه استدان المال من دون علم أخواته وأبيه ووضعهم في مأزق مع دائنيه. ونتيجة هذا التدهور الصحي والانحدار النفسي أبقت الأخوات أخيهنَ على مبعدة من معرفة مساعيهن الأدبية وتكتب شارلوت في رسالة: ’لم يعلم أخي التعيس قط ما الذي فعلته أخواته في الأدب– لم يعرفْ قط أنهن نشرن سطرًا واحدًا؛ لم نستطع إخباره شيئًا عما بذلناه خشيةً أن يسبب له ذلك ندمًا على وقته الذي بدده بلا طائل ومواهبه التي أساء استخدامها. والآن لن يعرف أبدًا. لا يمكنني الإطالة في هذا الموضوع أكثر، لهو وجع مؤلم جدًا‘.
بيد أنَّه رغم هذا الانفصال عن عالم الأخوات الإبداعي فقد كان لهُ تأثيره في كتاباتهن لا سيما جين إير وشخصية روتشيستر ووذرينغ هايتس وشخصية هيثكليف ونزيلة قصر ويلدفيل وشخصية هنتغتن، لا سيما الرواية الأخيرة التي يُعتقد على مستوى عام أنها لم تكن لتكتمل بدون برانويل (اعتمدت كثيرا من أحداث الرواية وشخصياتها على أخيها وحياته في ثورب غرين). ولا بد لهذا الرأي أن يُعدَّل كما تذكر وينيفريد جيرن في سيرة آن برونتي ’بأن تُضم له خبرة آن التي اكتسبتها بإقامتها هناك بغض النظر عن برانويل، وبمراسلات أسرة روبنسون إلى محل سكناها في هاورث‘ في حين يُنكر نيك هولاند أن تكون هذه الشخصية مستمدة من برانويل. وسواء كان تأثير برانويل كبيرًا أو محدودًا فإن الجوَّ المتولِّد بسببه في منزل العائلة قد ألهم الأخوات بنحوٍ مباشر أو غير مباشر وبوعي منهن أو بلا وعي، ولا يمكن بحال من الأحوال إنكار تأثيره تمامًا، فأن تعيش الأخوات مع أخٍ مهووس بحب مَرَضي طوَّح به ولا تتأثر به بأي شكل لهو أمر مستبعد في نظري. لكن في المقابل لم يكن بالأخ الشرير ولا السيئ كما يحب بعضهم أن يصوِّره ويقول عنه صديقه فرانسيس غراندي: ’لم يكن برانويل شيطانا في المنزل بل رجل يتحرك في الضباب بعد أن أضاع سبيله‘. وتذكر شارلوت في رسالة لها مؤرخة في الحادي عشر من كانون الثاني 1848: ’لم نذق طعم الراحة في البيت مؤخرًا. يستدين برانويل المال من معارف قدامى وأتْعَسَ حياتنا… وبابا متضايق ليلَ نهار؛ لا نحظى بسوى قليل من الطمأنينة؛ هو مريض على الدوام وسقط مرة أو اثنتين في نوبات، وأي نهاية ستكون. الله أعلم. لكن مَن الذي دون كارثة أو عقبة أو يعلم ما يخططه القدر في الغيب؟ بقي فقط أن يبذل المرء قصارى جهده ويصبر على ما يقضيه الرب‘.
تذكر غاسكل في كتاب سيرة شارلوت بأنه رفض وظيفة اقترحتها الآنسة وولر، صديقة شارلوت، وشرع في فقدان تمالك نفسه وتدمير قدراته الجسدية والعقلية. وتولت إميلي وآن رعاية برانويل أثناء مرضه، وتفككتْ منذ وقت طويل عرى العلاقة القوية بين شارلوت وأخيها. وأشهرَ ما يُروى عن برانويل في هذه المرحلة الحادثةُ التي كاد يسبب كارثةً حين كان يحاول القراءة على ضوء الشمعة فأوقعها عندما غلبه النوم لتندلعَ النار في فراشه، وتمكنت الأخوات من إطفاء الحريق وإنقاذ أخيهن. وصلت حالة برانويل في آخر المطاف إلى نهاية الانحدار. في الرابع والعشرين من أيلول 1848 زاره صديقه جون براون، وكان برانويل ينوي الذهاب إلى الكنيسة وقرع أجراسها، بيد أنه فور تحركه التفت إلى صديقه وقال “جون، أنا أحتضر“، استُدعيَ والده وأخواته. وسرت في القوم رعشةٌ حين سمعوه يؤمن على كلمات والده. تعلِّق غاسكل هذه النهاية قائلة ’عاش برانويل آخر أيامه التعيسة ملازما فراشه وتوفي في صراع إحدى نوباته في صباح الأحد، في الرابع والعشرين من شهر أيلول 1848. مات وجيبه مملوء برسائل المرأة التي أحبها، مات هو وبقيت هي على قيد الحياة‘.
برانويل برونتي – لوحة رسمها برانويل لنفسه
*
استثمرت غاسكل قصة برانويل وليديا في زيادة الجانب المأساوي من حياة آل برونتي لا سيما شارلوت مستفيدةً من علاقة الحب الفضائحية، وإكمال الصورة المرسومة لشارلوت بأنها عانت كثيرًا في حياتها بل هي صنيعة المعاناة ومنحت السيرة سمة مشابهة لعالم بوفاري وكيف أثَّر حب برانويل لليديا في روايات الأخوات، وألقت اللوم كاملًا على ليديا واتهمتها بأنها المسؤولة عن وضع برانويل مدركةً أنها بفعلتها هذه ستضع نفسها في مواجهة دعوى قانونية قد ترفعها ليديا على الكتاب الذي يعرِّض بها وإن لم يذكر اسمها صراحة وهذا ما حدث بالفعل فاضطرت في الطبعات اللاحقة إلى إعادة كتابة كل الفصول المتعلِّقة بانحدار برانويل وحذف الاتهامات الموجَّهة إلى ليديا سكوت من كتابها.
وُصفت هذه العلاقة أيضًا بأنها أوهام رجل مريض وسكِّير، ودارت حولها الحكايات ذات الطابع التخيّلي، وساهمت في تعزيز أسطورة الأخوات برونتي وتمادى الأمر حتى وصل إلى التشكيك بملكية تأليف رواية “وذرينغ هايتس” وأن من كتبها كان برانويل بالتشارك مع إميلي أو في الأقل كتب فصولها الأولى لأن عملًا بهذه الفظاظة والقسوة والعنف والدموية لا يمكن أن يُكتب من امرأة في العصر الفيكتوري، واقترنت هذه الارتباطات بإميلي لأنها امرأة أكثر من أي سبب آخر؛ كيف يمكن لامرأة أن تكتب عملًا كهذا! وكذلك اتّهم بعضهم إميلي بسرقتها مخطوطة وذرينغ هايتس من أخيها خلال مرضه، وتذكر لوكاستا ميلر في كتابها “أسطورة برونتي” مقالة وليم ديردين بعنوان “من كتب وذرينغ هايتس؟” المنشورة في مجلة Halifax Guardian عام 1867. ويذهب كاتبها إلى أن من كتب الرواية هو برانويل، واستند وليم وغيره إلى أسباب متخيَّلة وما من دليل واحد ملموس عندهم، وتتمحور كل هذه الحجج حول ملكية برانويل للرواية في كون إميلي امرأة وليس بمقدورها كتابة رواية بهذا المستوى، فهم لا يرفضون الرواية بكل ما فيها من “فظاعة وعنف” بل يرفضون أن تكون كاتبتها امرأة. ما زالت متداولة هذه الخرافة حول تأليف برانويل لوذرينغ هايتس. وتحولت سنوات انحدار برانويل وعلاقته أثنائها مع أخواته إلى قصص أسطورية وخرافية كما في كتاب The Crime of Charlotte Bronte حين يتهم المؤلف جيمس تولي بأن شارلوت قتلت أخيها بالسم بعد أن ضاقت به ذرعًا.
*
ختامًا، سواء كان برانويل عاشقًا تعيسَ الحظ أضاع مواهبه الأدبية والفنيّة بسبب حبٍ عقيم أو رجلًا مريضًا مهووسا مدمنًا للخمر والأفيون، فهذا لا يُقصي برانويل بحياته القصيرة عن سيرورة إبداع الأخوات برونتي وبأنه رافد مهم لنهر برونتي وهو يشقُّ طريقه في أرض الأدب. ويبقى السؤال قائما كيف ستكون روايات الأخوات برونتي لو لم يكن برانويل في منزل الخوري باتريك؟
*
المراجع
1- Anne Brontë at 200 by Nick Holland.
2- The life of Charlotte Brontë by Elizabeth Gaskell.
3- Anne Bronte by Winifred Gerin.
4- The Bronte Myth by Lucasta Miller.