التراث الأدبيالتراث العالمي

قصص مثالية – ثربانتس 

ما كان بحسبان ثربانتس التوَّجهُ نحو ممارسة الكتابة والترزُّقُ منها إلا بعد أن ألفى نفسه مرغمًا على ذلك بعد سنواتِ الجنديّة والقتال في معاركَ كثيرة، أبرزها معركة ليبانتو البحريّة في عام 1571 ما بين الأسطول البحريّ الإسباني والأسطول العثماني. انتهت هذه المعركة التي شارك بها ثربانتس رفقه أخيه بانتصار الإسبان وخروج ثربانتس بإصابة بيده اليسرى، منعته استخدامها لكنها أضحت مفخرته وشرفه الجليّ للعيان، وما حبَّذ أن يخرجَ حيًا من المعركة دون هذه الإصابة. حين خرجَ الجزءُ الثاني المزيَّف من كتابه الشهير لكاتبٍ أراجونيّ مغموز، واضطَّره إلى التعجيل بإنهاء تكملة مغامرات دون كيخوته التي صدرت في الكتاب الثاني عام 1615، أساء له المؤلفُ الدعيُّ وعيَّره بيده واصفًا إياه بالعجوز العاجز اليد، مما أثار حفيظة ثربانتس بل بدا أنَّه متأثرٌ بذلك أكثر من تزييف كتابه. فردَّ فخورًا بجراحِ يده في مقدمة الكتاب الثاني “وإذا لم تُشرق جروحي في أعين من ينظرون إليها، فعلى الأقل يُقدِّرها من يعرفون أين أصبت بها، والجندي الذي ينجو بالهرب ميت وإن عاش… والجروح التي يُظهرها الجندي في الوجه والصدر نجومًا تهدي إلى سماء الشرف والتشوِّف للثناء المستحق، وينبغي العلم أيضًا بأنهم لا يكتبون بشعراتهم البيضاء وإنما بألمعيتهم التي اعتادت النمو والتحسُّن بمرور السنين”.

بيد أنَّ الجنديّة والمعارك لم تكن المحطة البارزة الوحيدة في حياة ثربانتس فقد أُسرَ بعد عودته من إيطاليا في عام 1575 على أيد القراصنة البرابرة وبيع مع أخيه عبيدًا في الجزائر العثمانيّة، وبقي هناك خمسة أعوام قبل أن تُدفعَ فديته ويُحرر عائدًا إلى إسبانيا. ضمَّت رواية دون كيخوته بين دفتيها قصصًا ثانوية من أهمها قصة الأسير الذي كان في الجزائر. 

ولُدَ ثربانتس في عام 1547، إبَّان العصر الذهبي الإسباني الذي شهدَ ازدهارًا معرفيًا وفنيًا وثرواتٍ جديدة قادمة من العالم الجديد (الأمريكتين)، لكن هذا العصر شهد بتقدُّم ثربانتس بالسنّ بداية الأفول الذي عُلِّم بهزيمة الأرمادا الإسبانية في عام 1588 على يد الأسطول الإنجليزي. وشهد العقد التاسع من القرن السادس عشر بداية مشوار ثربانتس الأدبي فنشرَ المسرحية التراجيدية “نومانسيا Numantia” في عام 1582، وهي عن حصار الرومان لمدينة نوماسيا في عام 133 ق. م. ثم نشر بعدها بثلاثة أعوام روايته الرعوية “لا غالاتيا La Galatea” في عام 1585، وهي عن الصديقين الراعيين، إيليثو وإيراستو، اللذين يقعان بغرام الحسناء الفتيّة غالاتيا. طمحَ ثربانتس بفضلِ الكتابة أن يعيل عائلته لكن هذا ما لم يتحقق عبر الكتابة فسافر إلى جنوب البلاد وساحَ فيها عاملا في جباية الضرائب، وأدّى نقص الحسابات إلى حبسه في إشبيلية أكثر من مرة. وقيل إن خيوط دون كيخوته الأولى قد بزغت في ذهنه داخل السجن. استمرَّ ثربانتس بالكتابة خلال هذه السنوات، وإن لم يحظَ بالشهرة أو التكريم أو حتى المال الكافي منها، فعمل في سني 1590-1612 على كتابه “قصص مثالية” وصدرت في عام 1613، ثم في عام 1614 نشر “رحلة إلى بارناسوس”. وكان قد نشر الجزء الأول من رواية دون كيخوته في عام 1605، قبل أن يصدرَ الجزء الثاني عام 1616 قبيل وفاته. ثم نُشرت بعد وفاته بسنة روايته الأخيرة “بريسيليس وسيسموندا”. لم يشهد ثربانتس رؤية العظمة التي حظي بها بفضل روايته دون كيخوته التي حملته على كفوف المجدِ نحو الأعالى بعد وفاته.  

*

من بين الأعمال المهمة التي أبدى فيها ثربانتس براعة وإتقان ووعيًا فريدًا بفنِّ الرواية والقصّة ما تمثَّل في كتابه “قصص مثالية”، وهو كتاب فريد من نوعه في الأدب الإسباني، وإبداعيّ على مستوى كتَّاب إسبانيا. “ونجد أنَّ كثيرًا من رجالات الأدب المنصفين قد اعترفوا، بعد قراءتهم قصص مثالية، بأصالة ثربانتس في هذا المجال، حتى إنَّ أحدهم “تيرسو دي مولينا” أطلقَ عليه بوكاشيو الإسباني. وخير دليل على ريادة ثربانتس في هذا اللون القصصي هو اقتفاء كتَّاب القرن السابع عشر لأثره ومحاكاتهم لفنِّه وأسلوبه، بل إن البعض منهم لم يتورَّع عن استعارة عنوان “قصص مثالية” لإصداراته”1. ويكمن السبب في هذا أصالة ثربانتس في هذه القصص أنَّ الأعمال السابقة كانت في معظمها ترجماتٍ إلى الإسبانية. يؤكد ثربانتس هذا في كلمته الافتتاحية ’وانطلاقا من هذا المقصد وظَّفت من أجله عبقريتي، ولا أبالغ إن قلتُ إنني أول من كتبَ قصصًا باللغة الإسبانية لأن القصص الكثيرة التي طُبعت وتجوب أنحاء البلاد مترجمة جميعها عن لغات أخرى، أما هذه فتخصني وحدي، وليست مقلَّدة أو مستعارة، فهي بنات أفكار التي تمخَّضَ عنها قلمي وشبَّت وترعرت بين ذراعي خيالي”. تجلَّت هذه المعرفة بفن القصة وريادته لها في اختلاف المواضيع والأساليب السردية وأنماط الشخصيات والأحداث في هذه المجموعة كما في قصص الغجرية، رينكونيته وكورتاديو، المحامي الزجاجيّ، صاحبة السيادة: الخادمة، السيدة كورنيليا، حوار الكلبين.

لعلَّ ما يعيبُ هذه القصص هو المثالية المفرطة ذات النهايات السعيدة في أغلبها، وتكرار موضوع الشرف في عدَّة قصص بدون أي اختلافات بارزة أو مهمة. يُبيِّن ثربانتس في مقدمته أيضًا عن سبب ذلك “لقد اخترت لها عنوان “مثالية” لأنها لا تخلو من الأمثلة والنماذج المفيدة، ولو لم أكن حريصًا على عدم الإطالة فلربما وضَّحت لك النماذج اللذيذة العفيفة التي يمكن استخلاصها منها مجتمعة أو من كلِّ واحدة منها على حدة”. هكذا أراد ثربانتس من قصصه أن تكون مثاليّة في غايتها، وما تبثُّه من أخلاقيات فاضلة وتحضُّ عليه من سلوكيات حميدة. لكن هذا لا يمنع أيضًا من فهم روح السخريّة الثربانتسيّة في إبداعِ واقعٍ مُتخيَّل مثاليّ يناقض تماما الواقع الحقيقيّ. 

في قادم السطور حديث عن قصص المجموعة على حدة. 

 الغجرية

تدور هذه القصة عن الغجرية الفتيّة بريثوثا، حسناء ذكية يقع بغرامها كل من يقع بصره عليها. قاد جمالُها إليها الشابَ الفارس ذا الأصل النبيل دون خوان طالبا زواجها، فاشترطت عليه أن يتخلى عن كل شيء ويعيش معها حياة الغجر حتى يعرفها وتعرفه قبل أن يتزوجا. تحض القصة على الأخلاق الكريمة والعفة والشرف، وتبيّن كيف يغير الحبّ النفوس ويهوي بها من حالقٍ دون إغفال نيران الغيرة ولهبها الساطع، في قالبٍ من حياة غجرية متنقّلة وكشف عن عاداتهم وسلويكاتهم وطرق عيشهم. تمتاز القصة بالحبكة المتقنة متمثلة بتغيير الهُوية سواء المقصود أو غير المقصود في شخصيات القصة الرئيسة بريثوثا وإندريس (دون خوان) وكليمتني، والحوارات البليغة والحاذقة، ودخول قصائد الرومانث جزءا من بنية النص. كما أن الاشتغال على بناء الشخصيات على حدة واضحٌ وجليّ لا سيما بريثوثا وأندريس، وإن بدت بريثوثا مخلوقةً، بفصاحتها وحدّة ذهنها وذكائها وفطنتها، نبتتْ في غير منبتها أو لا يُفترض أن تكون هكذا وهي ناشئة في مضارب الغجر متطبّعة بطباعهم وعاملة بعاداتهم. قد توضح حقيقة أصل بريثوثا (دونيا كوستانثا) سبب ما حازته من سمات طبيعية مائزة وعريكة فريدة ونفسٍ أنوف، وإن لم تكن مقنعة إلى حدٍ ما لكن لا تُعدم الحياة أمثال بريثوثا في منبت السوء حين تحبوها الحياةُ والتجربةُ والفطرةُ البراعةَ والبصيرةَ. لا تغيب الإثارة والدهشة عن أحداث القصة التي تُكلل بنهاية سعيدة. 

 العاشق السخي

كانت لتجربة ثربانتس في الأسر خمسَ سنواتٍ قضاها في الجزائر دورا في مدّه بأفكار قصص وردت في كتبه، منها ما ضمّتها رواية دون كيخوته أو ما في هذه القصة التي حملت عنوان “العاشق السخي”. وهي قصة حُبٍّ وأسر وصراعٍ بين عالم إسلاميّ ومسيحيّ، تتجّلى فيها صورًا مثالية عن الخلقِ المسيحيّ والشرف والعفة والشجاعة والإخلاص ونقضيها المتمثل في الإسلام التركيّ. لتتصاعد إلى الواجهة صورتان متناقضتان كان التفضيل والانتصار بلا شكٍ للمسيحية سواء دنيويا بالنجاة وتحقيق المراد أو معنويًا في علو كعب المسيحيّ وأخلاقياته. يهوى ريكاردو الباهرةَ الحُسنِ ليونيسا لكنها رفضت حبه وما بادلته مشاعره حتى يقعان في أسر الأتراك لتنقلب حياتهما رأسا على عقب، ويبدآن بمقاساة المعاناة في الأسر والرزح تحت أثقال القيود التركيّة. بيد أن الحظ حالفهما ونسج لهما سبيل النجاة على حساب آسريهما ويتكلل ذلك بالعودة إلى أرض الوطن، لكنها عودة حملت في طيّاتها تغير مشاعر ليونيسا نحو ريكاردو وانتهت بزواجهما. تتمحور القصة حول مواضيع متنوعة ما بين المشاعر الإنسانية والصراع العسكري والتنازع الدينيّ في نفوس المرتدين. وغلبت على بُنية القصة الحواريّة في تكوين النص ومعرفة الأحداث الماضية وفي تشكيل الحدث عموما، وهذا ما فرض علوّ صوتِ الشخصيات على حساب السارد. وحبكة القصة ليست بالحبكة المعقّدة فهي حبكة كلاسيكيّة تبدأ برفض الحب ثم انقلاب الحال في الوقوع بالأسر والاغتراب عن الوطن ثم العثور على الرفيق المساعد في الغربة ثم ظهور تباشير الأمل باختلاف الخصم فيما بينه لتنتهي بمحالفة الحظ نهاية سعيدة. كما أن الشخصيات، والحال نفسه في قصة الغجرية، تتمتع بأصل شريف وغنى، وهي سمة كثيرا ما ترد في القصص الكلاسيكية وضرورة لازمة في شخصية البطل أو البطلة. 

 رينكونيته وكورتاديو 

يرسم ثربانتس في هذه القصة لوحة بارعة الأوصاف حيويّة الألوان ذات عرضٍ مسرحيّ متعدد الممثلين في بيت “الأخويّة اللصوصيّة” في مدينة إشبيلية. يهرب الفتيّان رينكونيته وكورتاديو من ذويهما ويصلان إلى إشبيلية، ولبراعتهما وخفة يديهما يبدآن بممارسة النشل في سوق إشبيلية قبل أن يُعثر عليهما من قبل “الأخويّة اللصوصيّة”، ويذهبان للقاء رئيسها مونيبوديو. تتجلى صورة هذا العالم السفليّ من مدينة إشبيلية عندما يبدأ النشالة بسنّ مختلفة من صغار وكبار ونساء ورجال، يمارسون مهنا مختلفة من السرقة إلى القوادة والدعارة إلى الإجرام والتشهير والهجاء، بالتوافد والتجمّع في بيت الأخويّة. ينفرد أمامنا نظام عمل هذه الأخوية وأفاعليها الرذيلة ومن يعينها من رجال السلطة والكنيسة. عالم لصوصية كامل يقدمه ثربانتس على نحو لافتٍ وأسلوب بديعٍ وهو يتنقل من شخصية إلى أخرى ومن حال إلى أخرى حتى يُكمل تقديم مشهده، عارضا التناقض في الأخلاقيات وكيف أن هؤلاء اللصوص والمجرمين يمارسون أعمالهم بضميرٍ مرتاح ويرجون من صدقاتِ السرقات الحسنى بعد الموت ويتقربون إلى القديسيين بما ينتهكونه من رذائل ويتجاوزونه من حدود. 

لا أدري إن كانت هذه القصة أول نموذج مثاليّ من أدب اللصوصية والنشل الذي شاع لاحقا، واشتهر في رواية “أوليفر تويست” لديكنز. تختلف هذه القصة عن سابقتيْها في صغر مكان الحدث، وهي أقرب ما تكون قصة الحدث الرئيس الواحد، مع تعدد الشخصيات وتنوعها، وإن برزت فيها شخصيات رينكونيته وكورتاديو ومونبيوديو لكن القصة لا تسعى إلى التركيز في مجراياتها على شخصية دون أخرى بل على تقديم صورة بانوراميّة بالطول والعرض لطبقة من طبقات مجتمع إشبيلية. 

 الإسبانية الإنجليزية 

في هذه القصة ذات الحبكة المتنوعة الأحداث والمتباينة المواضيع يقدم ثربانتس حياة “إيزابيلا”، الإسبانية المخطوفة في صغرها على يد أحد قادة الأسطول الإنجليزي، وما مرت به من تقلّبات. وفي الجهة المقابلة ثمة “ريكاردو” الإنجليزي وحبه لإيزابيلا وما جرّه عليه من ويلات. حبكة هذه القصة كلاسيكية ومكررة ولها نماذج سابقة لثربانتس، لكن ما يميزها هو التصوير الديني والاجتماعي والأخلاقي والصراع ما بين الكاثوليكيّة متمثلة بإسبانيا والإسبان والإنجليكيّة متمثلة بالإنجليز وإنجلترا، وإخفاء الهُوية الدينية، وبعضا من العادات الاجتماعية المسيحية، والأسر والفدية، ومعارك البحر، والإشارة للسفن المغادرة إلى العالم الجديد. ليست بالقصة المتميزة الموضوع والأسلوب وهي بمستوى قصة العاشق السخي. 

 المحامي الزجاجيّ 

أبدعَ ثربانتس في هذه القصة أيما إبداع حين قاد بطله توماس الطالب النبه إلى الإصابة بالجنون بسبب السحر، لكنه جنون مختلف إذ يحسب توماس نفسه مخلوقا من زجاج فلبس كيسا واسعا حتى لا تكسره الثياب الضيقة، وأكل الفاكهة وتجنّب اللحوم، ونام في الصيف في العراء وفي الشتاء داخل القش، وتنقّل من مدينة إلى أخرى في سلال نقل الزجاج. هكذا عاش حياته كأنه زجاجٌ حقا، ونظرا لطبيعة الزجاج الشفافة فخاطب الناس بأن بمقدورهم سؤاله عن أي شيء، وسيجيبهم عنه لأنه من الزجاج وسيكون إعمال عقله أكثر شفافية ودقّة عند الجواب. لم يقتصر حاله الشاذ والعجيب على هذا فقد منحه السحر  عقلية عالية ورجاحة فكر وبلاغة تزيد على ما كان عليه من قبل. بدأ توماس الصبي حياته عندما ترك والديه وانطلق راغبا بنيل رفعة العلم والتعلّم حتى عثر عليه طالبان وأخذاه معهما إلى ملقا حيث قضى شطرا من حياته قبل قرار التوجه إلى شلمنقة، شمال البلاد، لإكمال الدراسة في جامعتها الشهيرة ونيل الإجازة في المحاماة. لكن الخطى والقدر قاداه شرقا للتقلب بين المدن الإيطالية قبل التوجه إلى شلمنقة حيث أصابه الجنون بسحر امرأةً رفض إجابة نزواتها. لم يمكث الزجاجيّ إبان مرضه بل بقي تجوال دائم داخل مدينة شلمنقة ناقدًا بحذقٍ وفصاحة كل ما يراه من مهن وأصحابها أو يُسأل عنه بصراحة ووضوح. ويستمر على حاله حتى يجد له قسيس علاجا يشفيه من مرضه ليعود إلى مزاولة المحاماة لكنه لا يجد فرصة لمزاولة العمل فينتهي أمره إلى الجندية حيث يقضي نحبه. 

تعتمد حبكة هذه القصة على الحركيّة وعدم الثبات على شيءٍ واحد، وهو ما أسميته في نصوص أخرى بـ”النص المتحرك”، فنتابع تقدم توماس بالسن من الصغر إلى البلوغ والنضج، وفي حركته في البلاد فهو ينتقل من مدينته إلى ملقا ثم إلى المدن الإيطالية قبل التوجه إلى شلمنقة، وبعد أن يُصاب بجنون جعله يظن نفسه مخلوقا من الزجاج فهو يبقى يتحرك ويلتقي بالناس، وبعد أن يُشفى يذهب إلى العاصمة، وكذا الحال العقلية تتحرك من الجهل إلى المعرفة والعلم ومن الوعي إلى الجنون ثم إلى الوعي مرة أخرى. وهذه القصة بحق أبدع القصص في هذه المجموعة حتى الآن.

ثمة خطأ في ترجمة العنوان فقد اختار المترجم صفة المزجّج قاصدا به “الزجاجيّ” لكن المزجج من زجَّج أي أطال الحاجب ودققه وليس له علاقة بالزجاج.

 نداء الدم

في هذه القصة يعتمد ثربانتس على حبكة ترددت كثيرا، وهي منبثقة من عادات مجتمع عصره وتقاليده، تُشير إلى أن البنت إذا ما اضطجعت مع رجل أجنبي أو اُغتصبِت فإنها تكون زوجته حتما. لا مجال لها للرفض فعفتها وشرفها قد استُبيحا ولا يردهما إلا من نام معها. قصة نداء الدم هي قصة اغتصاب وحبل بنطفة حرامٍ، ثم ولادة الابن المجهول الأب.

يلتقي المتهتك الثري، رودلفو، حينما كان يسير في أحد الشواع مع رفاقه، عائلةً لها صبية حسناء، اسمها ليوكاديا، فيقرر خطفها من أهلها بمساعدة رفاقه ليتحقق له ذلك بخطفها وأخذها إلى بيته حيث يغتصبها ثم يطلق سراحها. يسافر بعدها إلى إيطاليا وفي غيابه ودون معرفة منه تُنجب ليوكاديا ابنه حيث يرعاه جدّه لأمه وجدته على أنه ابن أخي الجد. تقود الأقدار الصغير لويس ليتعرض لحادثة تكاد تودي بحياته يشهد عليها جده لأبيه فيأخذه ليعلاجه، فتنبثق أواصر المعرفة بين العائلتين وتنتهي نهاية سعيدة بعودة الابن الضال وزواجه من اغتصبها ذات نزوة. 

لا تتميز القصة بموضوعها أو فنيتها، ولعلّ أهم ما فيها هو موضوعها المصوّر لهذه الحالة الاجتماعية المتمثلة في تزويج المُغتصبِ المُغتصَبة، في تناول لموضوع الاغتصاب وتأثيراته على نحو شبه سطحي وإن بيّن بعض تأثيراته في البنت. ليس المقصد معالجة هذه الظاهرة بعقليّة معاصرة حديثة أكثر من تسليط الضوء على كون الاغتصاب خطأً يُصحح بالزواج. ومع الاعتراف في القصة بأنه سلوك مشينة تستحق فهو فعل يبقى بعيدا عن أي مساءلة أخلاقية بميزان عصره. 

ولعل القصة التي يرويها تشوسر في حكايات كانتربري ترسم صورة أوضح لما أرمي بتسليط الضوء عليه. يحكي تشوسر عن فارس جوّال يدخل مملكة الملك آرثر فيرى فتاة على مهرها فتقع في قلبه ليهجم عليها ويهتك عرضها غصبا فتعلو الصيحات ويُقبض عليه. وكانت عقوبة الفارس وفقا للناموس أن يُقتل لكن تدخلت الملكة وأنقذت حياته شرط أن يجيب عن سؤال “ما أكثر شيء تعشقه النساء من الرجال؟”. يُتاح للفارس في آخر الأمر معرفة الجواب وينال حظه بزواج امرأة حسناء. ما الذي حدث للفتاة المُغتصبة؟ تغفل القصة عن ذكرها إذ كانت مجرد عتبة للقصة وجزءا أوليًا من الحبكة. وهذا حالها في المجتمع بلا كبير اختلاف.

 غيور إكستريمادورا 

غالبا ما شُنِّع على الغيرة المرضيّة المفرطة في قصص أدباء عصر النهضة كما في الديكاميرون وكانتربري، وكذا الحال في الحكايات الشعبية والقصص في الثقافات المختلفة، لما فيها من سلوكيات رديئة وإنباء عن نفوس عليلة تفتقر إلى الثقة بالنفس وغاطسة بسوء الظن بالآخر. تزداد هذه الغيرة بين الأزواج، من الزوج تجاه الزوجة، لا سيما مع ازدياد فارق السن بينهما، وعمل كثير من الأدباء لغايات مختلفة على رسم صورة قاتمة وشنيعة لهذه الغيرة، ولعل غاية الغايات فيما يكتبون هو ذم الغيرة المفرطة والنصح بعدم زواجِ الرجل امرأةً تصغره كثيرا، فالفارق في السن بين العود اليابس والعود الخَضِر الطري بوابة الشيطان إلى عقول الرجال وقلوب النساء. كان هذا حال صاحبنا كاريثالس العجوز حين تزوج الصبية الحسناء ليونورا، وسعى تقوده غيرته المفرطة على زوجته أن يحبسها في بيتها ويغلّق عليها الأبواب ويحفّها بالجواري والقهرمانة علّه يحفظها من الرجال ويصون شرفه ويعوضها برفاهية العيش عن الخروج من البيت. بيد أن لنوائب الزمان سلطانها وللقدر جولاته التي لا تُصدُّ ولا تُردُّ فارتدت على كاريثالس غيرته حين دبّر له الشقي المتهتك لوأيسا تدبيرا أوقعه في النهاية في شر غيرته على زوجته، وانتهك حرمة بيته ودنّس شرفه وإن لم يطأ زوجته. لكن ما أبصرته عينا كاريثالس كان كافيا لتوافيه المنيّة وتُنهي سني حياته المديدة شرّ نهاية. 

ليست هذه القصة بموضوعها وحبكتها بالجديدة من نوعها، وأهم ما في القصة فنيًا صوت الراوي المُعلِّق على بعض أحداثها أو تساؤلاته المسموعة التي يضمّنها روايته للقصة. 

 صاحبة السيادة: الخادمة 

تقود النبيلا الأصل كارياثو وصاحبه أبيندانيو رغبةَ تجربة حياة الصعلكة والتشرد، لكن خطاهما تذهب بهما إلى طليطلة للنزول في خان قبيل الوصول إلى جهتهما المقصودة. في ذلك الخان تقع عينا أبيندانيو على فتاة خادمة باهرة السَمْتِ والجمال فيهوي في غرامها ويقرر البقاء في هذا الخان، ويضطر صاحبه كارياثو إلى البقاء معه، فدبّر لهما صاحب الخان عملين لهما عنده. غيّر الصاحبان اسميهما إلى توماس وأستوريانو، وبدآ حياة جديدة في الخدمة في الخان ومدينة طليطلة حتى يحقق توماس مراده. 

تصوّر القصة الحياة في خان الإشيبيلي ومشاغل الناس في السقاء والخدمة، وتقدّم عرضا بانوراميًّا للمدينة وأهلها وشخصيات القصة. في ظل كل هذه الأحداث تبقى الخادمة، صاحبة السيادة، واسمها كوستانثا، مَهوى أفئدة الزائرين والعشّاق لكنها تمتع بعفةٍ حريصة ونزاهة شديدة وانزواء عن الوقوع في فخاخ العشاق، وفي حصن حصين من الاستسلام لشآبيب الحب التي يغدقونها عليها. وفي الآن نفسه تتجّلى هذه السمات في ابتعاد كوستانثا عن مَسرح أحداث القصة فتشمل سلوكها الرزينة وأخلاقها القومية دورَها في القصة، فهي حاضرة غائبة، لا صوتَ لها إلا نادرا طوال القصة من بدايتها حتى نهايتها، فتبقى غائبة أو مُغيّبة. يكشف لنا هذا الأسلوب الذي اتّبعه ثربانتس إلى مهارة عالية ومدروسة في شخصية كوستانثا، فهي المحبوبة من الجميع وصاحبة الشهرة بل محور حركة أغلب أحداث القصة وبها تنتهي، لكنها منزوية في الظل، ولا نعرف عنها إلا ما يُقال عنها. من هي كوستانثا؟ يعرف القارئ من القصة حقيقتها وأصلها وابنة من هي لكنها حتى في القصة -حسبما نقرأ- تبقى جاهلة لماذا عاشت في الخان كل هذه السنوات بعيدة عن ذويها، وبعد أن يظهر والدها -المُغتصِب، فهي ابنة نطفة حرام واغتصاب- تذهب معه وتتزوج ابن صديقه، والد توماس “أبيندانيو”، وترحل معهما إلى مدينة برغش حيث عاشت مع زوجها. كوستانثا غائبة أو مُغيّبة وحاضرة دائما لكن على ألسنة الآخرين لا لسانها، لا صوت لها ولا نعرف عنها إلا ما قيل وشاع. 

أكرر في هذه ملاحظتي عن موضوع الاغتصاب التي ذكرتها في قصة نداء الدم، وإن كان في هذه القصة لم ينتهِ بزواج المغتصِب ضحيته لكنه يعترف بأبوة ابنته. 

 الفتاتان

للشرف دور محوريّ في قصص ثربانتس، لا سيما إذا ما ارتبط باضطجاع الرجل مع المرأة دون زواج سواء كان اغتصابا أو على وعدٍ بالزواج. وهذه القصة تدور حول الموضوع نفسه في تكرار لم يُقدّم شيئا جديدا سوى الحبكة المتغيّرة. فبعد أن يغرر ماركو أنطونيو بتيودوسيا وينام معها، ويخدع ليوكاديا دون أن يُسلّم قياده لشهوته مع إعطائها وثيقة يتعهد فيها بزواجها، يفرُّ إلى إيطاليا مما يضطر الاثنتان للتنكر بزيّ رجاليّ والخروج بحثًا عنه، الأولى رغبة للانتقام منه على شرفها المنتهك المهدر والثانية على أمل زواجه وإجباره الوفاء بعهده. تتقاطع الطرق بين الاثنتان، وبمساعدة دون رفائيل، أخي تيودوسيا، يصلان إلى ضالتهما المنشودة وتنتهي القصة على خير ما يُرتجى بزيجتين واقتران ثلاث بيوتات نبيلة. 

لا مميزَ في هذه القصة، بل حتى حبكتها فيها ما يعيبها. يعرف رافائيل وأخته من صديقه أن ماركو متجّه إلى إيطاليا فيغذّان السير إلى برشلونة ومينائها، حيث ترسو فيه السفن قبل المغادرة إلى إيطاليا. وفي الطريق إلى هناك يلتقيان بمحض الصدفة بليوكاديا التي كانت متجهة إلى إيطاليا بحثًا عن ماركو، لكن كيف عرفت ليوكاديا وجهةَ ماركو فهذا ما لا نعرفه. تتنكر تيودوسيا وليوكاديا بزيّ رجاليّ كما أوضحنا، وتنطلقان حتى تتقاطع طرقهما، وتكشف تيودوسيا حقيقة ليوكاديا، وقبله لقاء تيودوسيا بأخيها في الخان، كلها حبكة تفتقر إلى الإقناع بل هي أقرب إلى أن تكون حبكة مفتعلة، منذ مبدأها حتى منتهاها، يطغى عليها السذاجة وعدم الإقناع، والمثالية المفرطة الخيالية.

 السيدة كورنيليا

الشرفُ مجددا هو موضوع هذه القصة التي لم تأتِ بالجديد سوى بتغيير الحبكة، بدت شبيهة بقلم ألكسندر دوما، ومكانها في إيطاليا، بولونيا. تقع الحسناء البهية كورنيليا في غرام الدوق ويحبها الآخر حتى واتتهما الفرصة للاضطجاع معا وحبل كورنيليا. لكن هذا الحبل أردفه عدم مقدرة الدوق على زواجها حتى حين، مما اضطرها للابتعاد عن أخيها حتى لا يكشف حملها، والذهاب إلى ابنة عمها حتى تضع مولودها. تتقاطع الطرق بين الدوق وكورنيليا وأخيها لورينثو من جهة وما بين الإسبانيين دون خوان ودون أنطونيو من جهة أخرى، لتنتهي في آخر الأمر بزواج الدوق كورنيليا وحفظ شرف عائلة لورينثو. تطغى المثالية المبالغة على هذه القصة كذلك إذ العاشق أو المغتصب وفيّ للمرأة التي أحبته أو اغتصبها ويعترف بذلك ويتزوجها دون أن يكون هناك أي رفض أو إنكار أو أن تنتهي القصة على حال آخر بعيدا عن النهايات السعيدة غير المقنعة. 

 زواج مصلحة 

قصة قصيرة عن الملازم كامبوثانو وإستيفانيا حين يتزوجان لكنه زواج قائم على خداع أحدهما الآخر. فالأول ادعى امتلاكه ممتلكات ثمينة اتَّضح أنها مزيفة، والثانية ادعت امتلاكها بيتًا لكنها كانت كاذبة. وقع الاثنان في سوء طويتيهما وكذب ادعائيهما. القصة وعظيّة ليس فيها الكثير غير أنها تُؤسس للقصة العجيبة التي تليها، الأخيرة في الكتاب، عن حوار كلبين سمعهما كامبوثانو يتحدثان أثناء رقوده في المشفى نتيجة ما ألمَّ به من معرفته زيف ادعاء زوجته وهربها مع عشيقها. 

 حوار الكلبين 

ادّعى الملازم كامبوثانو في القصة السابقة أنه سمع كلبي المشفى الذي يرقد فيه يتحاوران، وسجّل حوارهما في كتاب أعطاه للمحامي صديقه ليقرأه. كانت الأوراق التي دوّنها كامبوثانو مادة القصة الأخيرة في كتاب ثربانتس، وجاءت بعنوان حوار الكلبين، وهما بيرجانثا وثيبيون. على غرار الحمار الذهبي للوقيوس، تحول بالسحر من إنسان إلى حمار، الذي تنقلب حياته رأسا على عقب، وينطلق على غير هدى في سلسلة من المحطات أبصرَ فيها عصره ومجتمعه وأحوال أهله، كان هذا حال الكلب كامبوثانو وهو ينتقل من سيّد إلى سيّد ومن حياة إلى أخرى. تمتع الكلبان بموهبة خارقة للعادة، وهي مقدرة الحديث كبني الإنسان، فيتفقان على حكي حياتهما وما مرّا به من أحداث. تبرز هنا غاية القصة فهي تعرض أحوال المجتمع وعاداته بعين غير بشرية مراقبة وناقدة، ولتنوع محطات الكلب كامبوثانو فقد منح صورة بانورامية لحياته. انتقد، في طيّات حديثه، صراحة وضمنا كلّ ما رآه مقدما القصة بإسلوب الناقل الناقد. إنّ استخدام الحيوان لنقد حال الإنسان وعصره وسلوكياته وسماته أسلوب قديم – حديث، ولعلّ أبرز الأمثلة الأولى قصة الحمار الذهبي أو الحمار لوقيوس في القرن الثاني للميلاد، ثم ظهوره في أدب الحداثة كما في قصة أنا قط للياباني ناتسومي سوسيكي، وانتقاده لحقبة ميجي حيث التنازع ما بين التغريب الأوروبي والحفاظ على الهوية اليابانية. تبرز أهمية هذا الأسلوب في جانبين الأول هو إمتاع القارئ بقصة غريبة يرويها الحيوان، وفي استخدام الحيوان صوتا للكاتب ينتقد فيها عصره ومجتمع مسلطًا الضوء على مساوئه، ومبعدًا الشبهة عن نفسه.

 

1- مقدمة المترجم: علي عبد الرؤوف البمبي. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى