لو سُئلَ ما الأدب العظيم، الأدب المُؤسِّس، الأدب المُعتمد؟ أو قيل أيُّ أدبٍ يُمثل هذه الأمة أو تلك؟ بالتأكيد ستتوجه الأبصار نحو الأعمال الكبرى التي تتعاهدها الأجيال، جيلًا بعد آخر بالقراءة والدراسة والتفسير والتعليق، ويتحول هذا العمل إلى أرومة أدب الأمة إلى أب أعلى تتناسل من صلبه كُتبٌ أخرى في مواضيعَ شتّى قد لا يتعلق بها الكتاب الأعلى لكنه أصبحَ أساسًا لها من حيث تحتسب أو لا تحتسب. لا ينحصر تأثير هذا العمل العظيم في أمته على مجال الكتابة واللغة فحسب بل ويشمل الفن والموسيقى والفكر والتاريخ والفلسفة لأنه يُمثِّل فكر أمة أكثر منه فكر فرد، ولأنه سجلٌ تاريخي يتجاوز زمانه ومكانه حينها يقترب شيئًا فشيئًا من العظمة والخلود ولا يبقى خاصًا بأمته المُنبتة بل يكون إرثًا للبشرية جمعاء. هذا ما يميز الأدب العظيم إنه أدب الإنسانيّة بخيرها وشرِّها بإيمانها وكفرها بتقدمها وتراجعها بسلمها وحربها، ولا نبالغ إن قلنا مع حفظ المقامات إن دور الأدب العظيم يقترب من دور الكتب المقدَّسة بل ويفوقها عند بعض الأمم لأنه كتابُ دينها ومتعتها، لمَ نتحفَّظ على ذلك، هكذا هو الأدب دين بلا رسالات سماوية ولا أنبياء مُرسلين، إنه الدين الأرضيّ. ثم لننتقل أين هذا العمل الذي ينطبق عليه ما سبق من تقديم؟ إنه هنا بين أيدينا، كوميديا دانتي، الكوميديا الإلهية1، أو الكوميديا الدانتيّة، أو الكوميديا الإيطاليّة، أو الكوميديا التوسكانيّة، أو الكوميديا الفلورنسيّة، أو الكوميديا الأممية، أو سمِّها بما تشاء فهي لا تقف عند تسمية كما لم تقف عند زمان أو مكان أو لغة، ومن حق الإيطاليين أن يفاخروا بها في مَحْفل المُفاخرة الأدبية العالمي.
ولدَ شاعرنا المبرَّز دانتي أليغيري وعاشَ في فلورنسا القرن الثالث عشر حين كانت تمرُّ بأوج ازدهارها وكذلك صراعاتها السياسية وخصومات أحزابها الحاكمة والاتفاق والاختلاف مع البابا، الذي كان في عزِّ قوته على رأس الكنيسة المسيحية، وأباطرة أوروبا. لكن حياة دانتي لم تعرف السكينة والاستقرار منذ أن رأت عيناه النور في عام 1265 فشبَّ وتعلمَّ في أروقة هذه المدينة على يد مُعلمِّيها وتأثر بأدبائها وفنانيها فتأدَّب ونظم الشعر ونافحَ عن اللغة المحكيّة، اللهجة التوسكانيّة، التي ستصبح لغة الكوميديا واللغة الإيطالية من بعده، وانخرطَ في حياة السياسة، فانضمَّ إلى حزب الغويلفيين الذين حاربوا خصومهم الغبيلينيين وهزموهم، لينقسم الغويليفيون على أنفسهم إلى حزب البيض، حزب دانتي، كانت مساعيه دولة بعيدة عن سلطة البابا بونفياس الثامن، وآخر هو حزب السود، الذين نالوا السلطة بدعم البابا، وعندما أرسلَ دانتي في عام 1301 ضمنَ وفدٍ إلى روما للقاء البابا من أجل الصلح؛ أُبقيَ في روما وعُوملَ سجينًا، ثم أطلق البابا يد حلفائه السود وعاثوا قتلًا بالبيض، واتُّهم دانتي في مدينته بالرشوة والسرقة وفرضت عليه غرامة قاصمة للظهر وحكمًا بالسجن إذا عاد إليها، رفضَ دانتي هذا الحكم ليتصاعد الوعيد بحقه ويُحكم عليه بالموت حرقًا إذا ما ظفرت به حكومة فلورنسا. ليبدأ بعدها دانتي حياة المنفى الإجباري متنقلًا بين المدن الإيطالية ويعيش حياةً مضطربة متغيِّرة، ورغم محاولته لاستعادة زمام المبادرة مع من التقت مصالحه وتوجهاته معهم فقد بقي في المنفى وباءت مساعيهم بالفشل. فمكثَ في مدن مختلفة فحينًا في فيرونا وآخر في رافينا حيث مات في عام 1321.
لم يتوقف دانتي خلال حياته المضطرِّبة وحلِّه وترحاله عن الكتابة، فكتب الحياة الجديدة، وهو أول أعماله البارزة، في عام 1294 عن المرأة التي أحبها دانتي في صباه، بياتريس (أو بياتريتشي بالإيطالية)، وبقيت حبَّ حياته ورمزًا للحب العذب أو الكيِّس Courtly Love ثم ظهرت مرشدةً إياه في كتاب الفردوس لاحقًا، وكتب في عام 1303 مقالته “بلاغة العاميّة” في الدفاع لهجة توسكانيا وفي كونها صالحة لتكون لغة أدبية بدلا من اللاتينية، ثم كتب المأدبة وهو عمل شعري ونثري لم يكتمل ما بين 1304-1307، ثم شرعَ بكتابة قصيدته الخالدة أو النشيد العظيم، الكوميديا، واستغرقته حتى أكمل كتبها الثلاثة (الجحيم والمطهر والفردوس) نحو خمسة عشر عامًا ما بين سني 1307-1321، ويقول بعضهم إنه بدأ بكتابتها في فلورنسا باللغة اللاتينية قبل أن يعدل عنها ويعيد كتابتها باللهجة التوسكانيّة. لا يمكن فصل حياة دانتي عن كوميدياه أبدًا، لأنهما مترابطانِ مع بعض بعُرًى وثيقة لا تنفصم، ويذكر البروفسيور مازوتا في محاضراته عن الكوميديا الإلهية، ضمن فصل جامعة ييل الأمريكية، أنَّ منفى دانتي جعله يقف ويميز الأمور من الخارج كما لم يرها من قبل داخل فلورنسا والحياة السياسية فيها والصراع بين الغويلفين والغيبليين، كانت هذه الرؤية من الخارج إلى الداخل الفلورنسيّ والناس موازية لرحلة دانتي إلى العالم الآخر، ليرى الناس من الخارج دون أن يكون معهم. فهو يجعل منفاه الدنيوي مزيةَ ارتحال في العالم الآخر، ويصبح المنفى الدنيوي جوهر الرحلة الأخروية حيث الرؤية الخارجية بزاوية حكم أكبر وأشمل، التنقل والارتحال دون الثبات في مكان واحد.
*
لا بد أنَّ يتطرق الحديث عن الكوميديا إلى المصادر الأدبية والفكريّة التي تأثر بها دانتي واستلهم منها، وهو موضوع متشعبٌ وشائكٌ ابتداءً من الرحلة إلى العالم الآخر انتهاءً بفكِ الاشتباك والترابط ما بين الكوميديا والأعمال الأخرى أو الأخبار ذات الموضوع المشترك، وهنا أعني التأثير الإسلامي الأدبي والديني في الكوميديا أو بعبارة أوضح وأدق مدى التلاقي ما بين الفكر الديني والأدبي الإسلامي والكوميديا ومدى التأثير في العمل وهل يمكن الجزم بالتأثير؟
لا تكاد تخلو أمة من الأمم من فكرة وهاجس الحياة ما بعد الموت وعالم الأموات، أو العالم السفلي أو هاديس أو أي تسمية أخرى أُطلقت عليها، وكيفيتها كما لدى الحضارات الأولى في وادي الرافدين ومصر ثم الإغريق والفرس والهند وآسيا وقبائل الأمريكيتين وأقوام شمال أوروبا والأفارقة. وإذا ما اقتصرَ الحديثُ عن الأدب نجدُ أوائل النصوص الأدبية كما في الإضافة في اللوح الثاني عشر غير التابع لملحمة گلگامش، أقدم ملحمة في التاريخ المكتوبة نحو عام 2100 ق.م.، وهي قصة نزول أنكيدو إلى العالم السفلي بعد أن يُسقط گلگامش آلتي عشتار (بكو ومكو “الطبل ومدقه كما يُقترح”) اللتين أهدتهما إليه بعد أن تمكن من اقتطاع شجرة الصفاف التي سكنتها أفعى وطائر والشيطانة ليلث لتصنع منها عشتار كرسيا وسريرا. يُوصي گلگامش أنكيدو بتعليمات حتى لا يُعرِّضَ نفسه لخطر في العالم السفلي فلا يلتزم أنكيدو بتوصيات گلگامش ولا تعليماته عند نزوله العالم السفلي فيبقى هناك لأنها الأرض التي لا رجعة منها، وبعد أن يطلب گلگامش من الآلهة أن تعيد أنكيدو الذي حزن لفراقه؛ تفتح الآلهة هوَّة تخاطب منها روحُ أنكيدو گلگامشَ وتخبره عن العالم السفلي. ونبقى في أدب حضارات وادي الرافدين مع قصيدة هبوط إنانا إلى العالم السفلي، وهي أقدم قصيدة ملحميّة في التاريخ2، ورحلة الإلهة إنانا التي تقرر التخلي عن السموات وكل معابدها وتنطلق في رحلة نحو المجهول في العالم السفلي من أجل السيطرة عليه ومحاولة انتزاعه من قبضة أختها إريشكيغال. وكتب المصريون القدماء “كتاب الموتى” نحو عام 1550 ق. م. الذي ضمَّ نصوصًا جنائزية ودينية عن الموت وعالم ما بعد الموت. وفي ملحمة الهند الكبرى، المهابهارتا، المكتوبة نحو عام 700 ق. م.، نقرأ صعود أرجونا، بطل معركة كروكتشيرا الكبرى، إلى السماء أو انفتاح بصره على الرؤية الإلهية، بعد حوار ديني وفلسفي بينه وبين كريشنا، في شيء شبيه لرؤية دانتي للحضرة الإلهية والشهود النورانيّ، وشكَّلت هذه المحاورة متن كتاب الهند المقدس، الباجافاد جيتا. وتنتهي ملحمة المهابهاراتا بتنازل يوديشترا عن الحكم في مملكة هاستينبورا ويذهب مع إخوته وزوجتهم دروبدي في رحلة الصعود إلى السماء بارتقاء الجبل. يسقط الجميع أثناء الصعود ما عدا يوديشترا، إذ كان لديهم معايب ورذائل منعتهم من ولوج السماء أجسادًا، لكن يوديشترا وباعتراف من الإله الذي استقبله فقد دخل السماء بجسده تكريما له ولالتزامه بالدارما طوال حياته، ولا نغفل هنا عن رمزية الجبل الدينيّة وكونه نقطة التقاء بالسماء كما في جبل المطهر عند دانتي. وإلى الأغريق مع ملحمة الأوديسة لهوميروس، حيث يذهب أوديسيوس إلى هاديس في رحلة محفوفة بالمخاطر في محاولته لقاء العرَّاف تايريسياس ليرشده طريق العودة إلى إيثاكا، وترد في القصيدة إشارةٌ إلى الإليزيوم أو السهول الإليزيّة حيث يعيش الأخيار في هذا السهل وتهبُّ عليهم النسائم العذبة ويعيشون حياة كريمة. ثم اقتفى فيرجيل أثر دانتي في ملحمته اللاتينية، الإنيادة، وذكر رحلة بطلها إينياس إلى عالم الموتى حيث التقى أبيه في الإليزيوم. وخصص لوقيانوس السميساطي كتابه مسامرات الموتى بالكامل للحديث عن أحوال الموتى بعد الموت، وهو نص مكون من ستٍ وعشرين مسامرة تجري على ألسن الموتى في عالم الأموات، هاديس، حول مواضيع شتى ما بين فلسفية وحياتية وتاريخية لكنها ذات طابع نقدي قاسٍ من انتقاد حياة الملذات والأسى عليها بعد الموت، والتفكك الأسري الأخلاقي وانتشار الفساد، والطمع والجشع، والثراء الفاحش والمجد الزائف، كما أن الشخصيات الواردة في المسامرات متنوعة ما بين حقيقة وخيالية، مثلما الحال في جحيم دانتي سواءً على مستوى الحوارات أو عالم الموتى أو الشخصيات. ويذكر في نصه الساخر، قصة حقيقية، الجزيرة التي يذهب إليها الأموات وهي شبيهة بالإليزيوم حيث وصل البطل والتقى بشخصيات حقيقية وخيالية مثل هوميروس وأوديسيوس وهيلين، ومكث فيها سبعة شهور قبل مغادرته. تمثَّل هذا الموضوع في الأدب العربي برسالة الغفران لأبي العلاء المعري، المكتوبة نحو عام 1033، قبل ثلاثة قرون من كوميديا دانتي تقريبا، لكنه تمثيل عظيم متكامل، وأحسبُ، فيما أعلم، أنَّه أول عمل أدبي يجمع ثلاثة عوالم (الجنة والنار ومنطقة فاصلة بينهما هي أرض المحشر عند المعري) في عمل أدبي واحد، وشغل الجزء الأول من رسالة الغفران إذ يبعث المعري بمُراسِله ابن القارح إلى الجنة ويقص عليه ما جرى له في الجنة، ثم يقص ابن القارح حاله في أرض المحشر على محدّثيه في الجنة، وفي الختام يطّلع ابن القارح في الجنة على أحوال أهل النار ويرى عذابهم ويحدِّثهم كما حدَّث أهل الجنة وأهل المحشر. وهو عمل مميز أدبيًّا وفنيًّا ولغويًّا جمع الشعر والنثر على حد سواء، ولي عودة لرسالة الغفران في مقالة أخرى.
أما المصادر التي تأثَّر بها دانتي فهي كثيرة منها كتب اللاتين كالإنيادة لدليله فيرجيل، والتحولات للشاعر أوفيد، وكذلك الفلسفات الإغريقية والمسيحية والإسلامية، واستلهم من حياته واقعه أحداثًا وشخصياتٍ يبني عليها عوالمه كالصراعات السياسية والدينية والكنيسة وبابواتها، كما شمل الصراع المدني في مدينته فلورنسا، التي هجاها وهجا كثيرًا من نسائها ورجالها، وكان التاريخ بأحداثه السابقة له أو المعاصرة مادةً من مواد أدبه. يخصص آنخيل بالنثيا في كتابه “تاريخ الفكر الأندلسي” فصلًا يتحدث فيه عن بحث آنخيل بلاثيوس حول “الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية” وهو بحث معتبر فيه شواهد كثيرة تؤكد كما يذهب الباحثان إلى اطلاع دانتي على أصول فكرة الرحلة من المصادر الإسلامية عن رحلة معراج النبي صلى الله عليه وسلم. وتتشابه الكثير من الخطوط العريضة للكوميديا الإلهية مع الدين الإسلامي بمصدريْه القرآن وحديث النبي، فنجد التشابه في كون النار دركات والجنة درجات، وفي عروج دانتي في السموات تشابه مع عروج النبي صلى الله عليه وسلم في السماوات، انتهاء بالرؤية الإلهية التي تُثبتها بعض الأحاديث النبوية والتفاسير للآيات الأولى من سورة النجم في أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى النور الإلهي، كما ثمة تشابه ما بين ارتقاء الرجل في الجنة درجاتٍ بدعاء ولده الصالح من بعده أو استمرار الأجر للميت إذا دعا له ابنه من بعد كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وبين إعانة دعاء أهل الميت المُتطهِّر ومحبِّيه له في تقليل زمن التطهير والتخفيف منه على جبل المطهر في الكتاب الثاني. بعد كل هذا الحديث عن ورود موضوع الرحلة إلى العالم الآخر أو الشهود الإلهي والمصادر المختلفة التي استمدَّ منها دانتي واستقى واستلهم وتأثر؛ نطرح السؤال أيقلل هذا من عمل دانتي وأن ننظر إلى الحظوة التي نالها العمل عبر القرون بأنها مبالغٌ بها؟ الجواب باختصار لا. ومن يقل بهذا القول عليه إعادة قراءة كوميديا دانتي والكتب التي يظن أن دانتي “سرق” منها رحلته. إنَّ إبداع أيَّ عملٍ أدبي تتداخل في صياغته مصادر مختلفة ومتنوعة فيتأثر الخلف بالسلف والغربيّ بالشرقيّ والجديد بالقديم والبعيد بالقريب، لا يمكن لأي كتاب مهما علا شأنه وتميَّزت براعته أن يحفظَ نفسه من التأثر والاستمداد المباشر وغير المباشر من الآخرين، ففي آخر المطاف هو يتعامل مع مواضيع تعامل معها من سبقه منذ آلاف السنين وإن تغيرت مظاهر الموضوع وتمثُّلاته فما قاساه الإنسان قبل ألف سنة لا يفرق عن مقاساة الإنسان في العصر الحديث، فيتعثُّر الواحد منا بقصيدة نُظمت قبل مئات السنين في بلادٍ بعيدة عن بلاد ومختلفة تمام الاختلاف في العقائد والأخلاق والعادات فيجدها معبِّرةً عن لواعجه واصفةً حاله وإذا ما أراد التعبير لاحقًا عن نفسه ويظن أنَّه أبدعَ شيئًا جديدًا؛ يقرأه آخرُ فيجد التشابه بين تلك القصيدة والنص الجديد دون أن يكون قد قصد أو تعمَّد ذلك. ليس دانتي أو من سبقه ولحقه بمنأى عن كل هذا التأثر بل إن الأدب هو التأثر والتأثير والاستقبال والإرسال، نتأثر بما حولنا فنكتب ونؤثر ونستقبل أفكار الآخرين فتتلاقح مع أفكارنا ونُنتجُ جديدًا انبثقَ من قديم نرسله إلى آخر في سلسلة لا تنتهي ما دام البشر يملأون الأرض ويقرأون ويكتبون. لا ينفي هذا بأي شكل من الأشكال عمليات الانتحال الأدبية وسرقة الأفكار اختلاسًا أو تناصًا ونسبتها لكاتب جديد وهضم حق مبدعها الأول الذي غيَّبته السنون أو غبار المكتبات، بيد أنَّ مثل هذا الفعل سيُكتشف وإن طال الزمان به ففي دراسات النصوص ومقارنتها يُكتشف الحقيقيّ من المزيَّف والأصيل من المحاكي. إذًا، نصُّ كوميديا دانتي نصٌّ ساهم في إنتاجه من سبق دانتي وفي ذات الوقت إبداع دانتي، فحين يستعير دانتي تشبيهات أسطوريّة من “كتاب التحولات” لأوفيد فهو يقرُّ ضمنًا بفضل أوفيد عليه، وحين يَجْعلُ فيرجيلَ دليله في الجحيم والمطهر فهو يعترف بدور الإنيادة وشاعرها فيه، وحين يذكر هوميروس وأوديسيوس في الجحيم فهو لا ينكر أبدًا أن للأوديسة حضور بارز عندما أبدعَ نصَّه، وما ضرَّ كوميديا دانتي أن يقتبس من مرويات الإسلام الدينية في إعانته على رسم لوحة الكوميديا. ولو فرضنا جدًلا أنَّ اقتبس أفكارًا وأعاد صياغتها لتوافق رحلته هل يعني هذا أنَّ كل كوميدياه مقتبسة؟ إن كان نعم فهاتوا لنا كوميديا أخرى! ما من كوميديا إلا كوميديا دانتي فهي عالم كبير متشعِّب ومتعمِّق يضم طيفًا واسعا من المواضيع في التاريخ والدين والفكر والفلسفة والفن والأدب والحياة واللغة والموسيقى والرسم والشعر، هي ليست قصيدة ذات موضوع واحد أو قصة تروي ما حدث لقوم من الأقوام في زمن من الأزمان، بل عملٌ شاملٌ وسجلٌ كاملٌ لِمَا رأى دانتي ضرورة تدوينه. لنستمتع بقراءة الكوميديا فحقّها الذي نُسديه إليها.
*
ما معنى الرحلة والكوميديا؟
اعتاد الإنسان منذ القدم على التنقُّل بين البلاد وما استقرَّ تقريبًا إلا في وقت قريب، وحتى في هذا العصر ما زالت الهجرة الداخلية والخارجية جزءًا من حياة البشرية، وما التنقل إلا رغبة ببداية جديدة أو تغيير بسبب دافعٍ ما نحو هدفٍ ما. ولرجلٍ مثل دانتي عرفَ معنى التنقل في حياة المنفى لن يغفل عن أثر التنقل في حياته وانعكاسها في كوميدياه، كما أنَّ البطل الجوَّال هو عنصر فنيّ ظهرَ في الآداب الغربية القديمة والقروسطيّة والعربيّة السرديّة التراثيّة، فما رحلته إلا تغيير وبداية لكنها بداية مفتوحة الزمن رغم وقوعها، فتغييرها يقوم على تأثيرها، وتجديدها مستند إلى تلقِّيها، وإن كان العمل يرحل إلى الخارج فإن حمولته الفكرية رحلة إلى الداخل، ومن وسط هذا التلاقي بين الخروج والدخول انبثقتِ الكوميديا تستحضر التاريخ وشخوصه، وتحاكم الحاضر ورجالاته، وتستقرئ الأحداث والزمن المعاصر، وتبثُّ لواعجَ النفس وخباياها، وتحرِّك سواكن الفكرِ، لكن يتمُّ كل هذا في فضاء اللا عودة إلى الوراء وليس مسموح إلا الاعتبار بالمصير والنظرُ إلى الماضي. وفي خضمِّ كل هذا التيارات المنبثقة في مجاري الكوميديا يتشكُّل عالمٌ كاملٌ، كونٌ سماويٌّ، يضمُ البشرية أفرادًا وجماعاتٍ وقد بدأت رحلة ما بعد الحياة في محكمة العدل الإلهية فإما ثواب وإما عقاب. ينطلق دانتي شاقًا دربه برفقة دليله الأول فيرجيل ثم الثاني بياتريس إلى عالم الكوميديا في مسعًى دؤوب وغاية ساميةً أشبه برحلة صوفيّ ينشدُ ما لا يُنشدُ وبلوغ المرتبة العليّة في الحضرة الإلهيّة، لم يمنع دانتي شيءٌ من بلوغُ غايته وتحقيق مبتغاه فامتطى صهوة الخيال وأطلق العِنان لقلمه فنظم قصيدته المجيدة ليصل في آخر المطاف إلى ما أراد لكن هذا الوصول وإن كان الهدف الأسمى إلا إنَّ طريق الوصول هو المُعتبر عند دانتي وإليه تُجذب الأنظار، فكوميديا دانتي ليست نصَّ وصول بل نصَّ ارتحال ومشاهدة واعتراف وإقرار حيث لعب دور الرحَّالة المُعاين والملاحظ لا المنخرط والمشارك. دانتي يرى ويُحاور لكنه لا يفعل ولا يعمل، هو ضيف لا مُضيف هو مدعوٌ لا داعٍ، في حركة مستمرة تأبى المكوث فما أتى ليبقى؛ أتى ليتحرك، لذا انتقل من الجحيم إلى المطهر إلى الفردوس في السماوات، وهذه الحركة ليست مقتصرة على دانتي فكل شيء في الكوميديا يتحرك، كل شيء يرتحل، كل شيء ينتقل، وما من ثابت إلا دائم الوجود وغاية الغايات. فعذابات أهل الجحيم لم تكفيهم فرافق عذاب أغلبهم حركة وتنقل، ودارَ المتطهِّرون من خطاياهم في أفاريز المطهر، ودارت أرواح الطوباويين والملائكة في السماوات، ودار الزمان والنجوم، كل شيء في الكوميديا يدور حتى دانتي نفسه يدور بجسده وفكره ولا يثبتُ في مكانٍ معين أو يتشبَّث بموضوع معين، كل شيء يدور حول النور الأعلى والأسمى. وما هذه الحركة إلا جوهر الارتحال وما الارتحال إلا رمز التغيير والتجديد. ما معنى الكوميديا إنه السمو بالإنسان والانتقال به من أوطأ الدرجات إلى أعلاها بإيمانه وأخلاقه وفضائله وصلاحه، فالإنسان في رحلة دائمة وإن كان ثابتًا في مكانه يرحل دائمًا بحثًا عما يريد بحثًا عن نفسه رحلته داخليّة، كونٌ صغير يدور في كون أكبر داخل كون أكبر. في الكوميديا ثمة بوابة الدخول لكنه دخول يعقبه خروج لأجل دخول آخر، وهكذا يستمر التجديد والتغيير في الإنسان ورحلته في هذا العالم وما بعد هذا العالم. وللرحلة غايات أخرى كثيرة ما بين أدبية ولغوية وفكرية ودينية وسياسية ووعظية وانتقامية وإصلاحية ودنيوية، فنجد أن دانتي وضع شخصيات حقيقية وأسطورية سواء عاصرها أو لم يعاصرها أو عرفها شخصيًا أو لم يعرفها شخصيًا من ملته ومن الملل الأخرى في الجحيم، وكذا الحال في المطهر والفردوس. فبثَّ في الكتب الثلاثة حواراتٍ أدبية وفكرية ودينية وفلسفيّة متعددة الغايات والإشارات في نسيجٍ مختلف ما بين الواقعية والخيالية والغرائبية والميتافيزيقيّة. فهي بحق عالم كامل.
بُنية الكوميديا
تتألف الكوميديا من ثلاث كتب هي الجحيم والمطهر والفردوس، موزَّعة في مئة أنشودة لكل كتاب ثلاثٌ وثلاثين أنشودة ما عدا الجحيم فله أربعٌ وثلاثون أنشودة. وفي كل عالم تقسيمات داخلية فحلقات الجحيم تسع، وللمطهر سبعة أفاريز لأصحاب الخطايا السبع، وللفردوس عشر سماوات، واستمرَّت الرحلة سبعة أيام. نظم دانتي القصيدة وفقًا لنظام شعريّ أبدعه هو تيرزا ريما Terza Rima يتكون من مقاطع شعرية ثلاثية الأبيات تتشابه قافية البيت الثاني من المقطع الأول مع قافية البيت الأول والثالث من المقطع الذي يليه، والمقطع الأول في القصيدة تتشابه فيه قافية البيت الأول والثالث هكذا: أ ب أ، ب ج ب، ج د ج، د هـ د… إلخ. يبلغ عدد أبيات القصيدة المنظومة باللهجة التوسكانيّة، اللغة الإيطالية لاحقا، نحو 14233 بيتًا وقرابة 101065 كلمة. تبدأ الرحلة في الجحيم حين يستيقظ بطل القصة، وراويها الداخلي، دانتي، ليجد نفسه على طرف غابة وبالقرب من جبل يحاول ارتقاءه فتعترض طريقه ثلاث بهائم هي الفهدة والذئبة والأسد رمزًا لشهوات الجسد وملذاته التي تُوقع الإنسان في المعاصي والذنوب فتحرمه من الخير والمآل الحسن، لكن سرعان ما يأتيه دليله الأول، الشاعر اللاتيني صاحب الإنيادة، فيرجيل، بعد أن نزلت بياتريس إليه من السماء (فيرجيل في الجحيم لأنه لم يلحق ببعث المسيح فُحرَم الفردوس) وتوسَّلت به ليعينه في رحلته في الجحيم، وفيرجيل هنا رمز للحكمة الكلاسيكية والعقل. يدخل بعدها دانتي إلى الجحيم3 وينتقل من حلقة إلى أخرى دونها أصغر حجمًا منها، فجحيم دانتي مخروطية الشكل ويزداد عذاب أهل الجحيم بنزول الحلقات حتى يصل إلى رأس المخروط، مركز الأرض، حيث يتعذَّب الشيطان لوسيفر في الزمهرير فيرى معذَّبين وصنوفَ عذابهم التي تتراوح في شدَّتها ويحاور بعضهم ويعينه دليله فيرجيل سواء بالإجابة أو التصبير. يصوِّر دانتي فيرجيلَ تصويرًا أبويًا فيرى فيه المرشد والمعين والأب العزيز والأستاذ وما هو إلا له تبعًا فهو العارف بهذا العالم وما دانتي إلا دخيل عليه. سكَّان الجحيم عند دانتي هم: العظماء غير المسيحين (غير المعمَّدين)، أهل الشهوات، الشرهون، أهل الإسراف والتبذير، الغِضاب (سريعو الغضب)، الهراطقة (من المسيحيين)، أهل العنف واللواط والربا، الخونة والمُغويون ومن يبيعون الدين بعرض رخيص من الدنيا، العرَّافون، المرتشون، المنافقون، اللصوص، المنتحرون المكرة المخادعون، المزيفون والخادعون، خونة الأوطان والغدرة، لوسيفر. من الشخصيات الإسلامية الواردة عند دانتي في الجحيم هي صلاح الدين، ابن رشد، ابن سينا، النبي محمد صلى عليه وسلم، علي بن أبي طالب. وضع دانتي الثلاثة الأوائل في الحلقة الأولى الخاصة بالعظماء غير المسيحيين وهم أقل الناس عذابًا في الجحيم، وضمَّت هذه الحلقة فيرجيل وهوميروس. أما النبي صلى الله عليه وسلم وعلي فوضعهما في حلقة أهل العنف، وقد وصفَ النبي وعلي وصفًا قبيحًا قذرًا وبشعًا لا يليق بهما4. ينتقل دانتي بعدها رفقة فيرجيل إلى جبل المطهر، وهو جبل ذو سبعة أفاريز (جزء ظاهر من الجبل على شكل حلقة محيطة)، تقل وعورته وانحداره بارتفاعه، يتطهَّر في كل إفريز أصحاب خطية بعقابٍ يتلائم مع خطيئتهم في زمن محدد لكل إنسان ومختلف عن الآخر حسب نوع الخطيئة ومدة ارتكابها، يُعاقب أهل الكبر بحمل صخرة على ظهورهم وتُغلق أعين الحسَّاد بأسلاك ويبقى أهل الغضب في إفريز مليء بالدخان والظلام، حتى يستيطعوا دخول الفردوس الأرضي في قمة جبل المطهر. وعند الوصول إلى قمة الجبل يدخلُ دانتي الفردوسَ الأرضي رفقة فيرجيل والشاعر ستاتيوس، تنتهي بلقائه محبوبته بياتريس وبإرشادٍ منها يغطس دانتي في نهر ليتي ليتطهر دانتي من خطاياه بالكامل ويشرب من مياه نهر إينووي ليصبحَ مؤهلا لمرافقه دليله الآخر، بياتريس في السماء. يُعرجُ بدانتي رفقة بياتريس إلى السموات. يتكون فردوس دانتي من ثماني سماوات ثم سماء تاسعة هي سماء المحرك الأول ثم سماء السماوات، الإمبريوم، وهي على شكل وردة وفيها عرش الرب. يُعرجُ بدانتي من سماء إلى أخرى ويلتقي في كل سماء أهلهَا، وهم موزَّعون في كل سماء وفقًا لأعمالهم التي أوصلتهم إلى هذه السماء أو تلك. وسماوات دانتي تحمل أسماء الكواكب وفقًا لتقسيمات عصره وهي سماء القمر، سماء عطارد، سماء الزهرة، سماء الشمس، سماء المريخ، سماء المشتري، سماء زحل، سماء النجوم الثابتة، سماء المحرك الأول، سماء السماوات. يشهد دانتي في السماء الأخيرة النورَ الإلهي وقد نال أعظم الغايات وأسماها في مشهد مهيب رهيب لا يقوى دانتي على وصفه بالكلمات لعظمته. وبشهوده الإلهي تنتهي الرحلة.
1- أطلق دانتي على أناشيده الثلاثة اسم الكوميديا أو الملهاة، كما اعتاد الإغريق تسمية أعمالهم التي تكون نهايتها سعيدة وعلى النقيض منها التراجيديا أو المأساة. بيد أن تعامل كوميديا دانتي مع المواضيع الأخرويّة والسماء والإله أكسبته صفة الإلهية وأضيفت الصفة إلى العنوان واقترنت بها عبر القرون، وأول من أطلق عليها هذه الصفة الأديبُ الفلورنسيّ بوكاشيو، صاحبُ الديكاميرون.
2- يرى الكثير من الباحثين ملحمة گلگامش، التي تتضمن أول ذكر لأسطورة الطوفان الوارد ذكرها في سفر التكوين والقرآن، أقدم ملحمة في التاريخ وأن زمن كتابتها يعود للعام 2100 قبل الميلاد، وكانت قد خطفت اللقب بدورها من إلياذة هوميروس (في حدود القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد). مع ذلك، يعتمد الرأي الذي يقترح كون قصيدة “هبوط إنانا” أقدم قصيدة ملحمية على حقيقة كون النسخة الأكدية الكاملة من ملحمة گلگامش، التي تكاملت عناصرها -والتي تتضمن قصائد سومرية متفرقة- في العهد الكاشي (قرابة 1595-1155 قبل الميلاد)، فيما تعتمد النسخة القياسية الحالية في الغالب على نسخة الكاتب سين-ليقي-أونيني (ما بين القرن الثالث عشر والعاشر قبل الميلاد) والتي عُثر عليها في نينوى ضمن مكتبة الملك آشوربانيبال (في حدود القرن السابع قبل الميلاد).
كتاب “هبوط إنانا إلى العالم السفلي” ترجم القصيدة مؤمن الوزان، قدَّمها وشرحها وعلَّق عليها گلگامش نبيل.
3- تُنسب هذه المقولة إلى دانتي”أحلك البقاع في الجحيم ستكون من نصيب أولئك الذين يلزمون الحياد أمام المحن الأخلاقية” بهذا اللفظ أو قريب منه، وهي غير صحيحةً لفظًا ولا معنى. يذكر دانتي في الأنشودة الثالثة من الجحيم أن من لا يفعل خيرا ولا شرًا لا يدخل السماء وترفضه الجحيم لأنهم لا يستحقون العذاب. وموضع هؤلاء هو مدخل الجحيم لا الجحيم نفسه إذ يسمع صراخهم وكلامهم بلغاتٍ شتى عند المدخل فيسأل دليله عنهم وحالهم فيجيبه فيرجيل عن سؤاله.
4- لم يترجم حسن عثمان هذه الأبيات وقد أحسنَ في ذلك، أما النسخة الصادرة عن المدى فقد ترجمَ معاوية عبد المجيد الأبيات ووضعها في الهامش في موضعها في الأنشودة الثامنة والعشرين.