مقالات

ألبير كامو؛ الروائي الفيلسوف

Great Thinkers

ترجمة: مؤمن الوزان

اتَّسم ألبير كامو، الفيلسوف والكاتب الفرنسي-الجزائري، بجاذبية مفرطة في منتصف القرن العشرين، وجذبَ أنظارنا بثلاث روايات هي الغريب (1942)، الطاعون (1947)، السقطة (1965)، وبمقالتين فلسفيتين هما أسطورة سيزيف (1942)، الإنسان المتمرد (1951). نال كامو جائزة نوبل في الأدب عام 1957، وتوفي بسن السادسة والأربعين مقتولًا بغير قصد بسبب ناشره ميشيل غاليمار عندما ارتطمت سيارته الرياضية فاسيل فيغا بشجرة. عُثر في جيبه على تذكرة قطار قررَ ألا يستقلَّه في آخر لحظة. بدأت شهرة كامو بالذيوع مع رواية الغريب وبقيت معتمدةً كثيرًا عليها. تجري وقائع الرواية في بلدته الجزائر، تروي قصة بطله المجنون والساخر والمُعرض عن الدنيا “ميرسو”، رجل لا يُمكنه إبصار معنى الحب، أو العمل، أو الصداقة، أو يجد لها غاية، ويُقدم في يوم ما -بالخطأ على نحوٍ ما- على قتل رجل عربي بدون معرفة دوافعه لارتكاب هذه الجريمة وينتهي به المطاف محكومًا عليه بالموت إلى حدٍ ما لأنه لم يُبدِ أي ندم ولا يكترث في الحقيقة أيضًا بمصيره بغض النظر عما سيؤول إليه.   

تصوِّر الرواية الحالة العقلية التي عرَّفها عالم الاجتماع، إيميلي دورخيم، بأنها استلاب [فقدان معايير أخلاقية أو اجتماعية]، بلادة، حال من الانسلاخ معدوم الشعور، يرى المرء نفسه مبتورًا بالكامل عن الآخرين ولا يستطيع إيجاد سبيلٍ ليشاركهم عواطفهم أو قيمهم.  أضحتْ قراءة الغريب زمنا طويلا طقس عبور وسط اليافعين الفرنسيين والآخرين من بلاد مختلفة- ولم تكن شعيرة تُطبَّق على أرض الواقع، لأن الكثير من مواضيعها الجليلة أول ما تُخاضُ في سن السابعة عشرة أو نحو ذلك. لم يتمكن بطل الغريب، ميرسو، من تقبُّل أيًّا من الأجوبة المعيَّاريّة عن الأشياء التي واجهته في الحياة وآلية ديمومتها. فهو يرى النفاق والعاطفيّة في كل مكان وليس بمقدوره أن يغضَّ الطرف عنها، امرؤ لا يقبل التوضيحات المعتادة التي تُقال لتفسير مجريات الحياة مثل نظام التعليم، محل العمل، روابط وآليات عمل الحكومة. يقف خارجَ حدود الحياة البرجوازية العاديّة، ناقدًا بشدَّة أخلاقيتها الهزيلة وشؤونها ضيِّقة الأفق بشأن المال والعائلة. وبعد أن كتب كامو كلمة ختاميّة على طبعة الكتاب الأمريكية ’لا ينخرط ميرسو في اللعبة… إنه يرفض الكذب… يقول ما هو عليه، يرفض أن يُخفي مشاعره، ويُحسُّ المجتمعُ فورًا بأنه مُهدَّد‘؛ انبثقت من الكتاب سمةٌ فاتنة فريدة من نوعها متأتَّيةً من الصوت البعيد  البارد الذي يتحدث به ميرسو إلينا، لقرَّائه. أما افتتاحية الرواية فهي واحدة من أكثر الافتتاحيات الأسطورية في أدب القرن العشرين ومُنشئة لنفسها مِزاجها الخاص ’اليوم ماتت أمي. أو ربما أمسِ، لا أدري‘. وجاءت النهاية حادَّة وجامحة. يُحكم على ميرسو بالموت لارتكابه جريمة قتل بدمٍ بارد تقريبًا، فمن المثير للاهتمام معرفة دوافعَ هذه الفعلة، يرفض ميرسو كل المواسات والتبريرات ويتقبَّل ببطولية لا مبالة الكون الكليّة تجاه الجنس البشري ’كانت آخر أمنية لي بأن يكون ثمة حشد من الحضور عند إعدامي وعليهم تحيَّتي بصرخات الكراهية‘. 

حتى لو لم نكن قتلة وسنكون أنفسنا في منتهى الحزن حين تموت أمهاتنا، فإن حالَ الغريب العقلية حالٌ نحن جميعًا عُرضة لخوض تجربته… حين نملك الحرية لإدراك أننا في قفص، لكن بلا حرية كافية للهروب منه… حين ينعدم مَن يبدوُ أنه يَفهم… ويبانُ كلُّ شيء بائسًا قليلًا… ربما في الصيف قبل الذهاب إلى الكليَّة. علاوة على الغريب، بقيتْ شهرة كامو بفضل مقالة نُشرت في سنة نشر الرواية بعنوان “أسطورة سيزيف”. لهذا الكتاب أيضًا افتتاحية قويّة ’ثمة مسألة فلسفيّة واحدة جديَّة بحق وحقيق وهي الانتحار. الحكم على الحياة فيما لو كانت جديرة بالعيش أو لا، هذا هو السؤال التأسيسيّ الفلسفي‘. والسبب الكامن وراء هذا الخيار الصارم، في نظر كامو، لأننا في الوقت الذي نبدأ بالتفكير جديًّا، كحال الفلاسفة، نُبصر الحياة بلا معنى، ولذا سنُرغَم على التساؤل فيما لو علينا إنهاء كُلِّ شيء أو لا. ولإسباغ عقلانية على هذا المطلب المتطرف تقريبًا وهذه الأطروحة، لا بد من أن نضع كامو ضمن موقعه من تاريخ الفكرة. يُقدَّم التصريح المثير بأن علينا التفكير بقتل أنفسنا لأن الحياة قد تكون بلا معنى- بناءً على أفكار سابقة عن أنَّ الحياة ذات قيمة بفضلِ معنى ربَّانيّ، المفهوم الذي يبدو بعيدًا عن إدراك الكثيرين منا اليوم. ومع ذلك، علينا ألا ننسى بأنه في آخر 2000 عام في الغرب، فإن السبب في كون الحياةِ ذات معنًى مُمنوحًا من مؤسسة واحدة تعلو ما سواها هي: الكنيسة المسيحيّة. 

يأخذ كامو مكانه في صف طويل من المفكِّرين من كريكغارد مرورًا بنيشته إلى هايدغر وسارتر، صارعوا الإدراك القارس بأنه في حقيقة الأمر ما من معنَّى مقدَّر في الحياة. وما نحن سوى مادة عضويّة ندور بلا إحساس فوق صخرة ضئيلة في زاوية كون لا أبالي. ولم نُوضعْ في هذا المكان بفضل قوة إلاهيّة خيِّرة ولم يُطلب منا أن نعمل من أجل الخلاص وفقًا للوصايا العشر أو إملاءات الأناجيل المقدَّسة. وما من خارطة طريق ولا غاية عُظمى. ويكمن هذا الإدراك في صميم الكثير من الأزمات التي درسها المفكِّرون الذين نُسمِّيهم “الوجوديون”. اتَّفق كامو، طفل الحداثة البائسة، على أن كل حيواتنا عبثية في المخطط الأعظم [الكون]، لكن -بخلافِ بعض الفلاسفة- فقد انتهى به المطافُ مقاومًا القنوطَ الكليَّ أو العدميّة. وجادل بخصوص وجوبِ العيش مع معرفة أنَّ جهودنا ستضيع سدًى في مُعظمها، وحيواتنا سُتنسى قريبا وجنسنا فاسد ولا يُرجى صلاحه وعنيف، ومع ذلك لا بدَّ أن نتحمَّل ونواصل العيش. وما نحن إلا شبه سيزيف، شخصية إغريقية حكمت عليها الآلهة دفع جلمود إلى قمة جبل ومراقبته يتدحرج نازلا مجددا مكررا ذلك إلى الأبد. لكن في آخر المطاف، اقترح كامو، أن علينا أن نتماشى بقدر ما نستطيع مع واجباتنا الحياتية. ويجب أن نُدرك الخلفيّة العبثيّة للوجود ثم ننتصر على احتمالية القنوط الدائمة. ويكتب في عبارته الشهيرة ’على المرء أن يتصوَّر سيزيف سعيدًا‘. 

سيزيف، تيتان 1548 

يجذبنا هذا القول إلى أكثر وجه إغراءٍ وفتنة لكامو: يرغب كامو أن يُذكِّر نفسه وإيانا بأسباب كون الحياة جديرةً بالتحمل، واتساقا مع هذا فإنه يكتب بوطأة فريدة وحكمة عن العلاقات الإنسانيّة، والطبيعة، والصيف، والطعام، والصداقة. وكامو دليلٌ مُبهجٌ نحو أسباب العيش. أهمل الكثير من الفلاسفة مظاهرهم وانفصلوا عن أجسادهم: فكِّر بالهزيل باسكال، والفاشل جنسيًا شوبنهاور، والعليل جدًا نيتشه. على النقيض من كامو فقد كان ذا مظهرٍ بهيّ ، وزير نساء، ففي آخر عقدٍ من حياته لم يرافقْ قط أقل من ثلاث عشيقات فضلًا عن الزوجات. وامتلكَ حسَّ أناقة كبير متأثرًا بجيمس دين وهامري بوغارت. لذا فليس من الغريب أن يُطلب منه أن يصوِّر الدعايات لمجلة فوغ الأمريكية. لم يكن كل هذا نزوات مظهريّة. فمن المحتمل أن تشعر ذات حين بأن الحياة عبثيّة، وأنك على شفا حفرة من اليأس ربما، لكنك أيضًا، مرغم أن تعيشَ حياتك بشدة أكبر. وفقًا لهذا، نشأ كامو مُلتزمًا، وبجديّة عميقة، بملذات الحياة الدنيويّة. قال إنه رأى الفلسفة ’دعوةً صريحة للعيش والإبداع في كَبِد الفيفاءِ‘. كان كامو بطل الحياة المألوفة الكبير -في وقتٍ كان من الصعب عموما إيجاد أبطال في الفلسفة- وبعد صفحة تلو أخرى من فلسفته المُتكاثفة، يرتاح المرءُ حين يكتب كامو مادحًا شروق الشمس، والتقبيل، والرقص. وهو أيضًا رياضيٌ مُذهل في شبابه؛ سُئل ذات مرة من صديقه تشارلز بونزي فيما لو كان يفضِّل كرة القدم أو المسرح، فأجاب كامو قائلًا: ’كرة القدم بلا تردد‘. لعب كامو حارسَ مرمى في فريق جزائريّ محليّ للناشئة، فريق جامعة الجزائر Racing Universitaire d’Alger (ربح الفريق بطولتي كأس أبطال شمال إفريقيا وكأس شمال إفريقيا في ثلاثينات القرن المنصرم). اجتذبت روحُ الفريق والإخوة والهدف المشترك كاموَ على نحوٍ هائل. وعندما طلبت مجلة رياضيّة من كامو في الخمسينات بعض كلمات الإشادة بفريق جامعة الجزائر قال: ’بعد مرور سنوات عديدة رأيتُ فيها أشياءَ كثيرة، فإن الشيء الذي أعرفه تمام المعرفة عن أخلاق الإنسان وواجبه أدين به إلى الرياضة‘. وإشارة كامو في قوله هذا إلى الأخلاق دافع عنها في مقالاته: ادعمْ أصدقاءك وثمِّن الشجاعة واللعب النظيف. كما أنه كان مدافعًا شرسًا عن الشمس. تحتفل مقالته “الصيف في الجزائر” بـ’حرارة الماء وسُمرة أجساد النساء‘ وكتب أيضًا: ’لأول مرة منذ 2000 عام تظهر الأجسادُ عارياتٍ على الشواطئ. لعشرين قرنًا، كافحَ الرجال ليخلعوا الاحتشام على اليونان والوقاحة والسذاجة، ويقللوا اللحمَ ويعقِّدوا اللباس. اليوم، يهرول الشبَّان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط مكررين وقفات رياضي ديلوز‘.         

تحدث كامو عن الوثنيّة الجديدة، والقائمة على ملذات الجسد الآنية: ’أتذكّر… صبية فارعة أخَّاذة الجمال رقصت الظهيرة بأكملها. كانت تضع إكليلَ ياسمين على ثوبها الأزرق المشدود، ومبللٌ بالعرق من بقعة صغيرة من ظهرها إلى ساقيها. لا تفارق الضحكة محياها وهي ترقص وتُميلُ رأسها إلى الوراء. تُخلِّف وراءها أثناء مرورها بالطاولات أريجًا بمزيجِ الزهر واللحم‘. أدان كامو من يرفض أشياء كهذه لأنها تافهة ويسمو نحو شيءٍ أجلَّ، وأفضل، وأنقى: “إن كان ثمة معصية بحق الحياة، فما هو في القنوط من الحياة ربما بقدر ما هو في الأمل بحياة أخرى، والتهرُّب من عظمة هذه الحياة”. وأشار في رسالة ’يجذبني الناس بقدر ولعهم بالحياة وتوقهم إلى السعادة…‘ ’ثمة ما يستحقُ الموتَ لأجله، لكن ما من شيء جديرٌ بالقتل لأجله‘. حقق كامو في حياته شهرة واسعة، بيد أن مجتمع النخبة الباريسيَّ تشكَّكَ بشأنه بشدَّة. ولم يكُ قطُ مثقَّفًا باريسيًّا، ومن الطبقة العاملة الهجينة pied-noir (تعني: القدم السوداء لأنه مولود في الجزائر لكنَّ أصوله أوروبيّة)، قد تُوفي والده متأثرًا بجراح الحرب العالمية حين كان كامو رضيعًا وأمه عاملة تنظيف. وليس من المصادفة بأن فيلسوف كامو المفضَّل هو مونتين- فرنسيّ آخر يتَّسم بالعمليّة الجادَّة، يحبه المرء لكتاباته بقدر حبِّه لما كان عليه.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى