التراث الأدبيالتراث العربيالنقد الأدبي

الرواية العربية – فاروق خورشيد

(عصر التجميع) 

اهتم الباحثون والدارسون في الأدب العربي بالشعر دون سواه حتى كادوا يهملون النثر إلا في النزر اليسير الذي تناولوه في الدراسة كالسجع وخطب الكُهان والوصايا، حتى يكاد النثر العربي العربي القديم (قصة وأساطير) -ورغم قلة ما وصل- محروما من الذكر، ويتبادر إلى أذهان الجميع أن العرب ليس لديهم أي خزين قصص وأساطير قديمة، وأن ما ملكوه هو الشعر والشعر فقط، ولاهتمام العرب بالشعر لسهولة حفظه ولأنه كُتب بنظام شعري سهّل حفظه وما سعى إليه المستشرقون لنفي أي أصالة تخييلية للعربي قديما، والتزم بمنهجهم الإقصائي كثير من الدارسين، يقوم الكاتب المصري فاروق خورشيد سنة ١٩٥٩ بإصدار كتاب الرواية العربية في عصر التجميع، ممهدا لموضوع أكبر يُثبت فيه أن الرواية والقصة العربية لها جذورا عمقية وأصالة أدبية ورؤى ثقافية وعِبر أخلاقية وأهداف اجتماعية وطابع قيمي ورمزية استمدت من الصحراء وخصائصها والعيش فيها الكثير من الجوانب الفنية التي برزت في القصص، ويميل خورشيد مُرجحا أن الشعر كان يمثل لونا أدبيا واحدا عند العرب يخص مجموعة دون غيرها وأن النثر والقصة والأسطورة هي التي كانت تجري على لسان العامة، وأما الأساطير فكانت لملوك اليمن النصيب الأكبر حظا فيها، كملوك حمير. وبعد تمهيده لهذا الرأي حول قدم النثر والقصة، يشرع بعدها بطرح الأدلة القصصية حول وجود القصة والرواية في الأدب العربي قديما، وإن اختلفت عن معايير الرواية في العصور المتأخرة، وهذا هو حال الأدب في كل زمان إذ يخضع لحاجات العصر وتطوله التغييرات وهذا ما نجده في التيارات الأدبية المختلفة، لكن الأمر متعلق بإثبات القصة العربية القديمة وهو جوهر البحث، فيذكر قصة  الجرهمي التائه الحارث بن مضاض آخر ملوك حمير، الذي تاه لثلاثمئة عام في الجزيرة بعد أن أصاب قومه لعنة، والذي التقى إياد بن نزار، فقص عليه الحارث القصص، ويروي هذه القصص القاص وهب بن منبه، ويجمع ابن هشام هذه القصص في كتاب التيجان في ملوك حمير وهي تمثل حركة التجميع الأولى، وحركة التجميع الثانية وهي كانت مع عبيد بن شرية ومسامراته مع الخليفة الأموي معاوية بن ابي سفيان الذي اهتم بالقصص، وكتاب عبيد بن شرية في أخبار ملوك حمير، وتمتاز قصص عبيد بن شرية بردف القصص والأحداث  بالأبيات الشعرية، حتى بلغت قرابة سبعمئة بيت شعري في قصصه ويضيف فاروق خورشيد لأهمية الشعر في تعضيد صدق القصة ولدعم موقفها مع ما يمكن تشابهه مع قصص أخرى وأيضا لأن الشعر يعبر عن مكنونات الموقف ونفسيات الأبطال أكثر مما يجيده النثر أحيانا، وأما المرحلة الثالثة فتمثلت بكتب السيرة التي ابتدأت بسيرة ابن إسحاق التي تناول سيرة النبي وحال العرب قبله وبعده ومغازيه والحوادث التي حصلت له في حياته، وعلى الرغم مما تعرضت له سيرة ابن إسحاق للنقد ومن قبل كبار العلماء كالصحابي مالك بن أنس، لكن ما يطالب به فاروق خورشيد أن يتعامل مع سيرة ابن إسحاق لكتاب قصص قبل التعامل معه ككتاب سيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دون الاهتمام للجانب الآخر كصدق الأحداث أو كمرجع ديني وأرى أن رأيه يميل للصواب، خاصة وأن العرب عرفوا القصص والأساطير قبل النبي وكانت قصصهم تقوم على سرد حياة الأبطال وما يقومون به من أفعال خارقة وانتصارات وهذه التي تمثلت في شخصية النبي محمد كجوهر بعيدا عن أي أمور خارقة للعادة، حيث وجدوا فيه البطل يعوضون فيه قصصهم ونرى في ذلك اهتمام العرب بالمغازي واتصالا بإرثهم القصصي، لذلك  ركز ابن إسحاق على معارك النبي وأعطاها اهتماما خاصا دون غيرها من الأحداث. وفي هذا ترابط ما بين عناصر القصة ما قبل الإسلام وبعده، وهذا الترابط لم يكن ترابطا موضوعيا بل أخذ بُنية القصة وعناصرها الفنية، كالتركيز على الجانب البطولي وهزيمة الأعداء وامتلاك البطل لصفات خارقة وإمكانيات ليست لدى غيره.

للباحث الدكتور إبراهيم عبد الله كتاب بعنوان النثر العربي القديم وهو كتاب أكاديمي حول النثر والقصة وتناوله للنثر العربي وبداياته التي شرعت فيما بعد لظهور أنواع قصصية مختلفة كالمقامات والسير. 

**

تعرض أدب العرب قبل الإسلام لتجاهل الباحثين والدارسين، مما أدى إلى تجاهل وإقصاء الكثير من الأساطير والقصص ذات الدلالات المعرفية والإنسانية، التي تدل على عمق وأصالة العرب الفكرية والثقافية والاجتماعية. والعجيب أن نرى أساطير وقصصا لها ذات المدلول في الآداب الأوربية قد اشتهرت في الوقت التي واجهت هذه الآداب العربية تجاهلا غريبا وعجيبا.

من هذه القصص نجد قصة الجرهمي التائه آخر ملوك حمير، والذي تاه في الجزيرة العربية لمدة ثلاثمئة عام عقابا له في قصة طويلة جميلة يرويها ابن هشام في كتاب التيجان في ملوك حمير المكتوب في القرن الثامن الميلادي، والذي يرجع سنده لمنبه بن وهب وهو من القصاصين الكبار قبل وبعد الإسلام.

وهناك أساطير مشابهة لتيهان الملك الجرهمي، وهي قصة اليهودي التائه الذائعة الصيت التي تقول بأنه ضرب المسيح وهو يحمل صليبه وطلب منه أن يذهب إلى الموت بسرعة، فأجابه بأنه سيرتاح وسيبقى اليهودي تائها حتى يرجع المسيح، فبقي اليهودي تائها عقابا له. وأول ذكر لهذه الحكاية يعود للقرن الثالث عشر.

وكذلك قصة الهولندي الطائر وهي أسطورة شبح سفينة محكوم عليها بالإبحار في المحيطات دون أن ترسو في البحر ويرجع أول ذكر لها إلى القرن الثامن عشر، ولها حضور سينمائي كما في قراصنة البحر الكاريبي.

والقصة الأخرى التي نرى مثيلاتها في الآداب العالمية هي قصة مضاض ومي، وهي قصة حب وعاطفة ملتهبة وصادقة، كانت الوشاية والإيقاع بين الحبيبين مصيرا لنهاية تراجيدية انتهت بموت الاثنين عطشا إثباتا للحب الذي يكنانه لبعضهما وندما على ما حدث لهما، وهي الأخرى يرويها ابن هشام في كتاب التيجان، عن وهب بن منبه يرويها عن إياد بن نزار الذي التقى الملك الجرهمي التائه الذي قص عليه القصص. ومن مثيلات هذه القصة نرى قصة روميو وجوليت للإنجليزي شكسبير.

فالقصة العربية قبل الإسلام غنية بالأساطير والحكايا والعبر، وما لنا منه بد إلا إعادة النظر في تاريخنا الأدبي والوقوف على ما لم يقف عليه أغلب الباحثين، الذي كأنهم اتفقوا اتفاقا غير معلن على تجاهل أي آداب عدا الشعر، وللإستاذ فاروق خورشيد كتاب بعنوان الرواية العربية في عصر التجميع وهو كتاب قيّم يفتح آفاق جديدة للباحثين والراغبين بمعرفة انطلاقة الأدب العربي الحقيقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى