مقالات

تاريخ صناعة الورق: من الأصول الأولى وحتى يومنا الحاضر 

سارة كانتافالي 

ترجمة: مؤمن الوزان

ارتبطت صناعة الورق ارتباطًا وثيقًا بثقافة الأمم وعلومها، وكان لشرارة اختراع الورق رغم ضآلتها أهمية كبرى. احتاجتِ البشرية منذ العصور الأولى حاجةً ملحةً إلى أن تنقل المعلومات المهمة بين أفرادها مكتوبةً على مادةٍ ما، لذا فقد بحثت عما ينقل المكتوب ويمتاز بالخفة والديمومة ليسهل نقله من مكان إلى آخر. أدى اختراع الورق إلى استبداله بالبردي والرَّق (جلد الحيوانات)، فهو مادة سهلة الصنع ورخيصة ودفعت نحو تقنيات إنتاج جديدة. ولمن الملاحظ أنَّ قدوم التقنية الرقميّة غطَّى نوعا ما على دور الورق التأسيسي في نشر المعرفة، لكن لا يجب أن نغفل بأي شكل من الأشكال عن حقيقة أنَّ الورق، وحتى زمن قريب، ضروريٌ جدًا لنشر أي فكرة. تُعرِّف موسوعة تريكاني الإيطالية الورق بأنه ’مادة ضرورية لإذاعة الأفكار في الحياة اليومية، وساهم الورق عبر العصور على نحوٍ مهول في تقدم الإنسان، من تمكينه المواطنين المشاركة في الحياة الديمقراطية إلى الارتقاء بمستويات التعليم والمعرفة‘. عكس تاريخ الورق تطوَّر المجتمع البشري عبر الأزمان فكان المادة المستخدمة في نشر المعرفة العلمية والفلسفيّة وتوسيع رقعة التعليم إلى إبداع نوع من الوعي التاريخي والسياسيّ الذي تأتَّت منه الدولة الحديثة. 

البدايات الأولى: الصين 

تعزو المصادر التاريخية اختراع الورق لساي لون Cai Lun، أحد أعيان الخدمة في البلاط الإمبراطوري الصيني، الذي بدأ في عام 105م بصناعة الورق من الستائر العتيقة البالية، ولحاء الشجر، وشبكات صيد السمك. احتكر الصينيون سر صناعة الورق زمنا طويلا حتى القرن السادس الميلاد، حين نُقلَ الاختراع إلى اليابان بفضل الراهب البوذيّ دام جِنغ Dam Jing. سرعان ما تعلم اليابانيون تقنيات صناعة الورق وبدأوا باستخدام لبٍّ مُستخرجٍ من لحاء شجر التوت في صناعة ورقٍ رقيق لكتاباتهم.

أقدم بقايا ورقة عُثر عليها في عام 1986 في منطقة فانغماتان، شمال شرقي الصين، ويتَّضحُ أنها جزء من خريطة. 

صناعة الورق تصل إلى العالم العربي 

اكتشفَ العالم العربي أسرار صناعة الورق في عام 751 حين فتح أميرُ الخليفة العبَّاسي سمرقند وأسرَ اثنين من صانعي الورق الصينيين، وبمساعدتهما ابتنى مصنع ورقٍ في مدينة أوزبك. منذ حينها انتشرت صناعة الورق عبر آسيا لا سيما في بغداد ودمشق، وساهم في وفرة هذه الصناعة نباتا القنَّب والكتَّان لجودتهما الفائقة. صنعَ العربُ الورقَ كما تعلَّموا بتنقيع خرق الكتَّان والقنَّب للحصول على لبٍّ متجانس القوام، ثم يُنخل لفصل الأليفاف المنقوعة عن الماء، لتُضغط هذه الصحف الناتجة بعدها ثُم تُجفف وتُغطى في نهاية المطاف بطبقة من نشا الرز لجعلها أجودَ في امتصاصِ للحبر. وفي ذات المدة الزمنية بدأ الناس في مصر وشمال إفريقيا بصناعة الورق مستخدمين التقنيات نفسها في المشرق العربي. وما يعيب على هذه الصناعة أنَّ نشا الرز غذاء جاذب للحشرات مما يسبب إتلاف الورق فلا تدوم طويلا.    

صناعة الورق في أوروبا

وصل الورق إلى أوروبا في القرن الحادي عشر بفضل فتح العرب لصقلية والأندلس. بيد أنَّ الورقَ لم يلقَ ترحيبًا ونُظر إليه مادةً أقل جودة للكتابة مقابلة بالرَّق حتى إنَّ الإمبراطور الروماني المقدَّس، فريدريك الثاني، حرَّم استخدام الورق في الوثائق العامة في عام 1221. شهد تاريخُ الورق طفرة كبيرة يعود الفضل فيها إلى صنَّاع الورق في بلدة فابريانو في إقليم مارتشي الإيطالي، حيث بدأت في القرن الثاني عشر صناعة الورق من الكتَّان والقنَّب باستخدام تقنيات ومعدَّات جديدة، وساهم صنَّاع الورق في فابريانو باختراعات بالغة الأهمية: 

– فتتوا الخِرق باستخدام طواحين تعمل بالقوّة المائية واختصروا وقتًا كثيرًا في إنتاج اللبِّ.

– غطوا اللبَّ بمادة الجيلاتين، وهي مادة طاردة للحشرات. 

– صنعوا أنواعًا وأشكالًا مختلفة من الورق.   

– اخترعوا العلامة المائية. 

استُخدم في صناعة العلامة المائية أسلاك معدنيّة لإضافة الزخرفات على الورق لتكون مرئية حين يُنظر إلى الورقة في الضوء، فأتاح ذلك إضافة العلامات والتواقيع والرموز الكنسيّة وما شابه على الورق.     

ورق فابريانو 

انتشرت صناعة الورق منذ القرن الرابع عشر على نحو واسعٍ في البلدان الأوروبية، وفي نهاية القرن الخامس عشر مع اختراع طابعة الورق المتنقِّلة بدأ الإنتاج الحقيقيّ للورق. نقل اكتشافُ أمريكا والاستعمار الأوروبي صناعةَ الورق إلى العالم الجديد [القارتان الأمريكيتان]. يذكر مارك كورلنسكي حكاية طريفة في كتاب “الورق: تصفُّح عبر التاريخ”: حين تمردت المستعمرات الأمريكية قاطعتْ كل المنتوجات البريطانية باستثناء الورق الجيّد المُنتج في مصانع ورق لندن. 

أهمية الورق في التواصل الإنساني 

كان القرن التاسع عشر بداية إنتاج الورق في المصانع مع اتساع نطاق قراءة الصحف والروايات ذات المبيعات العالية، فتطلَّب ذلك كميات مهولة من مادة السليولوز الرخيصة. اخترع لويس نيكولاس روبرت1 في عام 1797 ماكينة فوردرينر الأولى، التي بمقدورها إنتاج ورقة بطول 60 سم. وبازدياد الطلب على الورق نفدت المواد الأولية مما أوجبَ البحث عن مواد بديلة، مثل لبِّ الخشب. بيد أن الضربة التجارية في صناعة الورق أتت بسبب تطور التقنيات الجديدة في استخراج الألياف من الأشجار، لتنخفضَ أسعار الورق على نحو كارثيّ، وسرعان ما أصبحَ الورق منتجًا للاستهلاك اليومي. ففي بريطانيا وحدها ارتفع إنتاج الورق من 96000 طن في سنة 1861 إلى 648000 طن في سنة 1900. تداخل مجددًا تاريخُ صناعة الورق بتاريخِ الإنسان على نحوٍ متشابكٍ جدًا، وأتاح انتشار الورق الرخيص وصولَ الكتب والصحف إلى الجميع وازدياد التعليم على نحوٍ مهول بين طبقات المجتمع الوسطى. ولم يُوظَّف الورق في استخدامات أخرى غير الكتب والصحف حتى مطلع القرن العشرين إذ بدء استخدامه في صناعة ورق المرحاض والتغليف، والألعاب والتزيين. 

ماكينة فوردرينر 

الورق والبيئة 

يستهلك إنتاج الورق كميات كبيرة من المصادر الطبيعية، فلإنتاج واحد طن من الورق نحن بحاجة إلى 2-2.5 طن من الخشب، و30-40 م٣ من الماء. وعلى صعيد آخر فإن مكائن المصانع بحاجة إلى الطاقة المتولدة من الكهرباء وغاز الميثان لاستخدامها في شتّى مفاصل صناعة الورق -وفقا لنوع الورق- فتسبب تلوثا بيئيا ببعث المواد الكيميائية في الجو. لذا حينما تُتاح لنا الفرصة فمن الأفضل اختيار الورق المُستدام أو المُدوَّر لتقليل تأثير صناعة الورق في البيئة. يُصنعُ الورق المُستدام من سليولوز الخشب المُنبت من غابات مُعتمدة من مجلس رعاية الغابات2، حيث تُطبَّق معايير صارمة بحق البيئة والمجتمع والاقتصاد. أما الورَّق المُدوَّر (أو المعاد تدويره) فيُنتج من الورق التالف المُعالج، ويُستخدم الكلور في تبييضه بالإضافة إلى إضافاتٍ كيميائية أخرى، وهذا يعني أنَّ الورَّق المُدوَّر في الغالب ليس صديقًا للبيئة كما هو شائع. ولتتأكد من اختيار مُنتجٍ صديقٍ للنظام البيئي حقًا فلا بد من وجود طابع ترخيص بالنظام البيئي، ويضع النظام البيئي الأوروبي طابعًا على المنتجات البيئية المستدامة.  

بطاقة من ورق مُدوَّر. 

بدائل الورق 

ثمة أنواعٍ بديلة للورق التقليدي منها الورق المسحوق Crush paper المُنتج من شركة صناعة الورق الإيطالية فافيني Favini. يُصنع هذا الورق من الفواكه والخضار، تقلل هذه الصناعة من انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 20% وتستهلك سليولوز أقل بنسبة 15% من الورق التقليدي، وهذا الورق مناسب لاستخدامات مختلفة من طوابع الطعام والشراب إلى بطاقات الدعوة فائقة الجودة، ودفاتر اللوائح، وورق الإعلانات. أما آخر ابتكارات شركة فافني هو الورق المُكرر Remake، المصنوع من 25% جلد و40% سليولوز مُدوَّر و35% ألياف سليولوز عذراء مُعتمدة من م. ر. غ. يمتاز هذا الورق بالجودة العالية لتدويره، واستخدامه سمادًا، إضافة إلى أنه مثالي لطباعة المجلات الثقافية والتغليف الراقي. من البدائل العظيمة الأخرى هو القنَّب، مادة ثمينة استخدمت لصناعة الورق منذ غابر العصور ابتداءً من الصنيين حتى العرب. ولا تتطلب زراعة هذا النبات مبيدات الحشرات ويُزوِّد بكميات من الألياف في الهيكتور الواحد تعادل 3-4 أضعاف من الغابات التقليدية. أما مشكلة صناعته الوحيدة فهي إنَّ كلفة معالجة لبِّه أغلى بكثير من استخراج السليولوز التقليدي.

ورق مسحوق مصنوع من شركة فافيني من منتجات الصناعات الزراعية. 

إلى هنا تنتهي مقالتنا عن تاريخ الورق لكن بالتأكيد وبفضل الابتكار التقني المستمر فثمة المزيدُ ليفاجئنا في قادم المحطات. وتاريخ صناعة الورق أبعد من أن ينتهي وستبقى هذه المادة المُذهلة والمفيدة معنا حتى سنواتٍ قابلة.  

 

1- لويس نيكولاس روبرت جندي ومهندس فرنسي ولدَ في باريس عام 1761 وتُوفي عام 1828 وإليه تُعزى براءة اختراع صناعة الورق الآلية.

2- مجلس رعاية الغابات م. ر. غ. Forest Stewardship Council – FSC: منظمة غير ربحية تحث على إدارة الغابات على نحوٍ منتظم ومسؤول، وتعرِّف بعمليات البيع والشراء واستخدام الخشب والورق ومُنتجات الغابة المصنوعة من مواد غابات مُعتنًى بها أو من مصادر مُدوَّرة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى