يتناول هذا الكتاب حياة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، أحد أهم الشعراء العرب في القرن العشرين، والذي يتصدر طليعة مؤسسي الشعر الحر في الوطن العربي رفقة نازك الملائكة، وبالرغم من أن الشعر الحر لم يبدأ معهما فقد سبقتهما محاولات لشعراء آخرين، فإن تأسيس هذا النوع الشعري المعروف بالشعر الحر لم يكن إلا على يدي هذين الشاعرين العراقيين. وتعد قصيدة السياب “هل كان حبا” أول قصيدة له في كتابة الشعر الحر، وكتبها في التاسع والعشرين من تشرين الثاني، سنة 1946، يقول في مطلعها:
هل تسمين الذي ألقى هياماً؟
أم جنونا بالأماني؟ أم غراما ؟
ما يكون الحب؟ نوحاً و ابتساما؟
أم خفوق الأضلع الحرى إذا حان التلاقي
بين عينينا فأطرقت فراراً باشتياقي
عن سماء ليس تسقيني إذا ما؟
جئتها مستسقياً إلا أواما
لكن قريحة الشاعر وموهبته الشعرية قد تفجرتا منذ الصغر في قريته جيكور الصغيرة -الواقعة بالقرب من أبي الخصيب إلى جنوب شرقي البصرة- حين كان لا يتجاوز الثانية عشرة، في مدرسته الابتدائية في أبي الخصيب، وهي المحاولات التي قال عنها بدر فيما بعد إنها كانت صحيحة من ناحية الوزن ولكنها كانت مليئة بالأخطاء النحوية.
ولد بدر شاكر السياب في عام 1926، وتاريخ ولادته الدقيق غير معروف، ووجدتُ بعض المقالات تضع له تاريخ الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، لأب كان يعمل في مساعدة والده في رعاية النخيل ويعمل كذلك في الدلالة موسمَ التمر. ولد الشاعر في حقبة حرجة من تاريخ العراق المعاصر الذي كان تحت سلطة الاحتلال الإنجليزي وبعد ست سنوات من ثورة العشرين ضد المحتل، وألقت الظروف السياسية بظلالها على كاهل بدر في مختلف مراحل حياته، فأثقلتهُ، وعانى ما عاناه سواء من السجن أو الرفض من العمل والطرد أو ملاحقة المخبرين أو الهرب إلى منفى اختياري في الكويت خشية الاعتقال، وكانت مادة دسمة لكثير من قصائده التي دوّن بها هذه الأحداث.
توفيت والدته عام 1932 ولم يتجاوز السادسة بعد، لتبدأ محنته العاطفية التي بقيت ملتهبة الجراح حتى بعد زواجه من إقبال، وبقي جريح الحب باحثا عمن تبادله الحب، فرغم علاقاته التي تنوعت ما بين حب المراهقة مع الراعية هالة، إلى لبيبة التي كبرته بسبع سنوات في دار المعلمين، إلى الشاعرة لميعة عباس التي كانت تصغره بثلاث سنوات ودرست معه في دار المعلمين لكن بمرحلة مختلفة وقسم آخر، وليلى الممرضة، والصحفية البلجيكية لوك التي كانت مهتمة بترجمة قصائده إلى الفرنسية وقد فعلت ذلك، إلا أنه لم يجد من تبادله هذا الحب الذي كان يحلم به أو يستحقه، الأمر الذي يعود لأسباب متعددة منها ما يخص هيئة السياب وشكله وهو ما أثر فيه نفسيا إذ كان يرى نفسه دميما، ومنها ما يعود إلى أسباب مادية وطبقية، وهو الذي عانى ما عاناه من الفاقة وقلة ذات اليد والشح أو أن مشاعر الحب كانت استجدائية كما في حالة لوك التي اعترفت له أنها تحب شخصا آخر.
تزوج والده شاكر أخرى بعد وفاة زوجته كريمة، وترك أولاده الثلاثة بدرا وعبد الله ومصطفى خلفه في رعاية والديه، وترعرع بدر في كنف جده وجدته، وبعد أن أنهى بدر الدراسة الابتدائية انتقل إلى الدراسة الثانوية في قطاع العشّار حيث سكن مع جدته لأمه، وفي عام 1941 بدأ شاكر الانتظام بكتابة الشعر، الذي التزم فيه بكتابة الشعر العروضي ومواضيعه الكلاسيكية وهو الذي تأثر بالشاعر أبي تمام، قبل أن يشهد شعره الثورة على الكلاسيكية واللحاق بالرومانطيقية والحداثة فيما بعد.
في عام 1943 التحق بدر بدار المعلمين في بغداد، واختار قسم اللغة العربية، وسكن القسم الداخلي، وتعد هذه المرحلة التي بزغ فيها نجم السياب الشعري، وكذلك أظهرت ميول السياب الشيوعية المعادية للرأسمالية، والتقى بعدد من الشخصيات التي سيكون لها الثقل في الوسط الأدبي أمثال بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس، وكذلك جبرا إبراهيم جبرا وفي وقت لاحق نازك الملائكة التي درست في دار المعلمين حيث كان بدر يدرس، وفي هذا المعهد وقع في شراك فتاة من طبقة الغنية وأحبها بدر إلا أنها كان يبدو أنها غير جادة في علاقتها ببدر بسبب فرق المكانة الاجتماعية بينهما إذ يقول:
بيني وبين الحب قفر بعيد *** من نعمة المال وجاه الأبِ
يا آهتي كفّي … ومت يا نشيد *** شتان بين الطين والكوكبِ
وبعد زواج هذه الفتاة ازداد كره السياب وعداؤه السياسي للطبقة الحاكمة، وهو الذي كان ضمن حزب التحرر الوطني، ومؤيدا للحركة اليسارية التقدمية في بداياته، ويقف بالضد من سياسات الحكومة العراقية الخانعة للغرب، وعلى الرغم من نتائجه الجيدة في الموسم الدراسي 1944-1945 فقد ترك السياب قسم اللغة العربية متحولا إلى قسم اللغة الإنجليزية اعتقادا منه أن قسم اللغة العربية لن يقدم له أكثر مما قدم وأن عليه البحث عن تجارب ومصادر جديدة ينهل منها، وكان له ما أراد فتعرف على الشعراء الإنجليز الرومانطيقين أمثال ورودزورث وكيتس، وتعرف على ت. س. إليوت الذي تأثر به وقصيدته الأرض اليباب، وساعدته الدراسة في قسم اللغة الإنجليزية العمل في الترجمة سواء في الصحف أو المجلات الأدبية. كان بدرا ممتلئا بحسه الوطني ومؤمنا بمستقبل وطن لا تحكمه حكومات عميلة للمستعمِر وغير كفوءة، وشارك في حزيران عام 1946 بمظاهرة في بغداد من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية وجلاء البريطانيين عن العراق، المشاركة التي أودت به إلى السجن الذي قضى فيه أسابيع قبل خروجه وذهابه إلى قريته. وفي عام 1947 طبع بدر ديوانه الأول “أزهار ذابلة” في مصر والذي وصله إلى بغداد في منتصف كانون الأول.
استمرت الأوضاع السياسية في العراق تلقي بظلالها على حياة السياب، فبعد أن هددت المعارضة مقاطعة الانتخابات في عام 1952، واجتاحت المظاهرات العاصمة الأمر الذي أدى لتدخل الجيش لإعادة الأمن، وكان بدر ضمن المشاركين في المظاهرات، التي لحقتها حملة اعتقالات، اعتقل فيها عدد من أصدقائه فخاف بدر أن يُعتقل أيضا فهرب عبر بعقوبة إلى إيران ومنها انتقل إلى المسيب، وأخذ القطار باتجاه البصرة بعد أن تنكر بلبس كوفية وعقال ودشداشة. فُصِل السيّاب من وظيفته في الخامس والعشرين من تشرين الثاني عام 1952 بعد أقل من سنة ونصف السنة من تعيينه في مديرية الأموال المستوردة العامة براتب قدره خمسة عشر دينارا شهريا. لم يستقر وضع بدر بعد أن قضى بعض الوقت في المحمّرة وسافر بجواز سفر إيراني، ساعدته بالحصول عليه علاقاته بحزب توده الشيوعي الإيراني، إلى الكويت. كان وضعه في الكويت سيئا إذ استحوذ عليه الحنين إلى العراق، وما أصابه من فاقة وانعدام المال، الحال الذي صوره أشجى تصويرا في قصيدته “غريب على الخليج”. عاد بعدها إلى العراق بعد سنة من التشرد وحياة لاجئ صعبة. وفي أيار عام 1953 ذهب إلى بغداد للبحث عن عمل.
شهدت المرحلة اللاحقة أو ما سماها عيسى بلاطه “مرحلة الاشتراكية الواقعية” التي جددت رؤاه، فلم تعد اهتماماته شخصية بالدرجة الأولى، ولا شيوعية وحزبية بطريقة تعصبية. كانت رؤاه تحاول أن تشمل الأمة العربية الفتية كلها، ومن خلال الإنسانية الجمعاء في أزمتها الحديثة. [ص74]. وفي نيسان عام 1954 نشر السياب أول قصيدة له في مجلة الأداب اللبنانية التي يحررها الأديب اللبناني الدكتور سهيل إدريس، وجذبت هذه المجلة عددا من الأقلام الشابة كان من بينهم بدر.
وما ترك وضع العراق السياسي لبدر حياةً هادئة يهنأ بها، ففي ظل حكومة نوري السعيد الثانية عشرة، التي تُوصف بأنها جعلت العراق سجنا كبيرا، والمخبرون يملأون كل مكان، كان السياب أحد هؤلاء الذين تعرضوا لملاحقة المخبرين ومضايقاتهم فكتب قصيدة “المخبر” عام 1954 وتقمّص فيها دور المخبر، ونشرت في مجلة “الآداب” اللبنانية وفي ديوان “أنشودة المطر”. يقول في مطلعها:
أنا ما تشاء أنا الحقير
صبّاغ أحذية الطغاة، وبائع الدم والضمير
للظالمين أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ. أنا الدمار، أنا الخراب!
“وشهدت هذه المرحلة أيضا انفصال بدر عن الشيوعيين وتشكيلاتهم إلا أن نشاطاته الأدبية ظلت ملتزمة”. [ص80]. واستخدام بدر للرمز والرمزية ولا سيما أسطورة أدونيس، التي ازدادت في قصائده مع السنين كما يذكر عيسى بلاطه في كتابه. كانت الظروف السياسية وملاحقات الحكومة والأوضاع المتقلبة قد دعت بدر أكثر من أي شيء آخر إلى استخدام الرمز والرمزية في شعره.
وفي عام 1955 تزوج بدر امرأة قريبة له، هي إقبال طه العبد الجليل، ولم يحمل هذا الزواج كثيرا مما توقعه وتمناه بدر في حياته، إذ ينصح بعد سنوات من زواجه صديقه مؤيد العبد الواحد قائلا: “يا مؤيد، نصيحتي إليك إذا ما أردت الإقدام على الزواج أن تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل للأدب على الأقل، لكي تفهم مشاعرك، وتشاركك إحساساتك. وإن لم تكن كذلك فحاول أن تحبب لها الدخول إلى هذا العالم الجميل، وكن لها الباب حتى تدخل إليه. حاول وحاول يا مؤيد ولا ترتكب الخطأ الذي وقعت فيه… إنها لم تفهمني ولم تحاول أن تشاركني إحساساتي ومشاعري. إنها تعيش في عالم غير العالم الذي أعيش فيه، لأنها تجهل ما هو الإنسان البائس الذي يحرق نفسه من أجل الغاية التي يطمح إلى تحقيقها هذا الإنسان الذي يسمونه الشاعر…”، لكن السياب لم يكن يكره زوجته رغم الفارق الفكري بينهما وانعزال عالميهما عن بعض إذ يذكر زوجته إقبال في قصائده الأخيرة ولا سيما قصيدته “وصية”. ورزق منها بغيداء وغيلان وآلاء.
بعد أشهر من زواجه أصدر بدر ترجماته الشعرية لمجموعة من الشعراء من لغات مختلفة عن اللغة الإنجليزية في كتاب بعنوان “قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث”، وهو كتاب يحتوي على عشرين قصيدة. ومثّل رسميا السيابُ العراقَ مع نازك الملائكة وبهجت الأُثري، في مؤتمر الأدباء العرب في عام 1956، وألقى السياب في هذا المؤتمر محاضرة، والتقى بعدة شخصيات أدبية عربية، وكوّن صداقات مع شخصيات من أمثال يوسف الخال.
لم تتحسن ظروف بدر المادية كثيرا، إذ اشتغل موظفا في مديرية الاستيراد والتصدير العامة، وكان راتبه، ابتداءً من تشرين الأول 1956، اثنين وعشرين دينارا عراقيا ونصف، وهو راتب لا يكفيه وهو المتزوج وأب لطفلة، وينتظر مولودا جديدا، إضافة إلى إعالته والده الذي كان يلاحقه طلبا للمساعدة. وخشية الفقر والجوع الذي عاناهما وضاق مرارتهما وخوفا على أسرته من مصير يخشاه، والظروف السياسية التي كانت تسمح للصحف الحكومية فقط بالعمل ونشر أعدادها، اضطر بدر إلى العمل إضافيا في جريدة “الشعب” عام 1957، وهي الجريدة المعروفة بتبعيتها للحكومة إلا أنه بقي بعيدا عما يوقعه في تناقض مع آراءه السياسية المعادية لتبعية الحكومة العراقية للغرب.
بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ونهاية الملكية على يد عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، التي كان بدر مؤيدا لها وطامحا لبداية عهد جديد في ظل الجمهورية، كتب قصيدة في تأييد الثورة “يوم ارتوى الثائر”، ومبررة لما نال العائلة ونوري السعيد بأنها جزاء لما جنت أيديهم والجزاء من جنس العمل، وهي قصيدة بلغية وجيّاشة بالوطنية والحب الصادق للثورة، ألقاها في ذكرى الثورة الثالثة بدعوة من مدير مصلحة الموانئ العراقية، إذ يقول في أبيات منها:
جيل من الأعين الغضبى وقافلة *** من غيض جيلين في ميعادك اجتمعا
وانحط منها على الباغي وزمرته *** ظلٌ تخطى إليه السور والقلعا
ويقول:
في موقف تنفس الشحاذ ذلتها *** فيه الأمير الذي من جوعها شبعا
زمرة من لصوص كل ما جمعت *** ما ردَّ عنها قضاء الشعب أو دفعا
ويقول:
لم يرتو الثار من جلا أمته *** حتى وإن جندلته النار وانصرعا
فاقتص من جيفة الجلاد مجتزيا *** منها عداد الضحايا من دم دفعا
هذا الذي كل ثكلى فهو مثكلها *** والمستحل الضحايا ليته ارتدعا
بالأمس كنّا سبايا دون سدته *** فاليوم نعطيه ما أعطى وما منعا
(هذه الأبيات في وصف الوصي عبد الإله).
وبالرغم من مديحه لعبد الكريم قاسم في بعض أبيات قصائده إلا أن موقفه لم يعرف بالضبط من عبد الكريم قاسم سواء أمؤيدا كان أو معارضا، لا سيما وأنه هجاه رمزيا كما في قصائد “مدينة السندباد” و”سربروس في بابل” و”المبغى”.
عمل بدر في كتابة مقالات في جريدة الحرية تحت عنوان “كنت شيوعا”، ونشرهن في منتصف آب عام 1959. كتب في هذه المقالات تجاربه مع الشيوعية عامدا إلى تضخيمها منفرا منها. ويصف عيسى بلاطه هذه المقالات بأنه لم يستطع أن يشابه ما كتبه ستيفن سبندر أو إيناسيو سيلوني في كتاب “الإله الفاشل” لأن اهتمامه بالمهاترة غلب على عاطفته، وأفقده القدرة على استبطان الذات لاستخراج التجربة العميقة والحكم الموزون. لم يتوقف بدر عن كتابة الشعر في كل المرحلة السابقة، بل كانت مرحلة فيّاضة بالشعر. وفاز ديوانه “أنشودة المطر” بمسابقة شعرية أقامتها مجلة “شعر” والذي نُشر في المجلة في وقت لاحق. ولم يكن بدر منفصلا عن ظروف البلدان العربية وثوراتها فقد آزرها بشعره فأثنى على عبد الناصر وثورته، وأثنى على الثورة الجزائرية كما في قصيدة رسالة من مقبرة (إلى ثوار الجزائر) وقصيدته إلى الثائرة وقتها جميلة بوحيرد.
المرحلة الأخيرة من حياته لا سيما السنوات الثلاث الأخيرة كانت من المراحل العصيبة والتعيسة لبدر، إذ كانت أعراض الشلل بادية عليه وأصبحت حركته صعبة، وبعد عدة فحوصات في بيروت ولندن وباريس أثبتت أن لديه مرض فسادي في جهازه العصبي، ولم تنجح المحاولات المتعددة لشفائه، وزامن هذا الوضع الصحي السيئ، الذي يتردّى يوما بعد آخر، مشاكلُ مادية، وتفكيره بزوجته وأبنائه الثلاثة (غيداء وغيلان وآلاء) مع الفاقة وقلة المال، ووصل الحال إلى أقصى درجات السوء في نيسان سنة 1964 إذ انتهت المدة المسموح بها من الإجازات المرضية والإجازات العادية، وكذلك الإجازات المرضية بنصف راتب التي يسمح بها قانون عمله في مصلحة الموانئ العراقية في البصرة. وبدأت بعدها إجازة من مئة وثمانين يوما بدون راتب. في هذه السنة وبترتيب من صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي، الذي نشر نداءً موجها إلى وزير الصحة الكويتي يناشده بمعالجة بدر في الكويت على حساب الحكومة الكويتية، وكان له ما أراد وسافر بدر إلى الكويت للمرة الثانية في تموز عام 1964، لكن مريضا يرجو الشفاء من مرض وصل لمرحلة خطرة جدا أعجزته عن الحركة لا لاجئا هاربا من الحكومة. ما تحسّنت حالته في هذا المشفى، وبالرغم من الضعف الذي أصابه فلم ينقطع عن كتابة الشعر، وبعض قصائده غلب عليها اليأس والانهزام تجاه المرض، وتمني الموت، وطلب الخلاص للتحرر من آلام جسده الذي أتبعته هذه السنون الماضية. فيقول في قصيدة “في غابة الظلام”:
أليس يكفي أيها الإله
أن الفناء غاية الحياه
فتصبغ الحياة بالقتام؟
تحيلني، بلا ردى، حطام
سفينة كسيرة تطفو على المياه؟
هات الردى، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثره
وراء ليل المقبره
رصاصة رحمة يا إله!
لكن رصاصة الرحمة لم تأتِ عاجلا، بل تأخرت حتى الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964، حيث أبرق علي السبتي إلى أسرته يبلغهم بوفاته، ونقل جثمانه إلى البصرة إلى بيته الذي كانت عائلة بدر قد أخرجت في ذات اليوم بقرار حكومي بعد انتهاء مدة المئة والثمانين يوما، وأخذ السبتي الجثمان إلى المسجد للصلاة عليه بعد أن أُخبر أن عائلة السياب تنتظره هناك، وبعد الصلاة عليه دفن في مقبرة الحسن البصري.
ينتهي كتاب عيسى بلاطه بفصل ختامي يتحدث فيه عن إسهامات بدر الشعر وآرائه الشعرية، وكيف كان دروه مهما وبارزا وطليعيا في الشعر العربي عبر ما أحدثه من أساليب ومواضيع شعرية جديدة متناسبة مع حياة العصر الجديدة, والتي أضحت متنافرة من الأسلوب الشعري الكلاسيكي ومواضيعه. وفي الكتاب ملحق من عشرين صفحة تقريبا تضم قصائد كاملة وأبيات من قصائد غير كاملة للسياب لم تنشر في حياته واحتفظ بها زوج أخته.
**
(في رثاء السياب)
المسيحُ وحده يزحفُ في الخليج
يجرُّ ساقين نام الدمُ فيهما
طوّحن به فوق سرير الألم
لا رفيق له سوى القلم
ويزيد من لعوته جثو الصليبِ
ينامُ ويصحو مناديا
يا موتُ هلمَّ
ما عدتُ أقوى الاحتمال
أتعبني بين المشافي الارتحال
يا موتُ هلمَّ فكلُّي انتظار!
لا تأخر لا، لا اعتذار
**
فأنا الطاعنُ بين بساتين جيكور
منذ مسح الزمان ظهرها بكف نور
وجالت الشمسُ في بُويب تدور
كضوءٍ تخنقه دمعة
تُدفئني بحضن تموز
والقمر الحليبيُ كل ليلة يزور
بيت جدي وشبابيك الأولياء
قبر أمي وأرض الأشقياء
مكملًا قصة حبٍ لم يكتمل
من هالة إلى وفيقهْ
من لميعة إلى لوك الصديقهْ
يا موتُ هلمَّ فقد ملّني جسدي
“ولستُ لو نجوتُ بالمخلّدِ”
***
غابَ البدرُ
يلحقُ عوليس في متاهاته
فما لهُ اليومَ بزوغ
غابَ البدرُ في رحلاته
خاتما مغامرةَ نبوغْ
**
يقف الشعر في جنازته المجازيهْ
ينشد كل قصائده الإنسانيهْ
ومن بحر أبياته-
هبَّ نسيمٌ عليلْ
يحاكي همسَ ليلِ النخيلْ
في عين ماء لفها قلبٌ عليلْ
شرب منها يوما سندبادْ
يوم جال يبحث عن ياسمينهْ
ياسمينة أين ياسمينهْ؟
– هي مع بدرٍ وقد مخرتْ السفينهْ