كنت قد تعرفت إلى صاحب هذا الكتاب الأستاذ جبرون في المقهى الأدبي الأورو-عربي حين استضافه ليلقي محاضرة تناول فيها بإيجاز فكرة هذا الكتاب داعيا فيه إلى تجديد فقه المعاملات والسياسة، لأحصل على نسخة من كتابه مع نية قراءته بأقرب فرصة، وهذا ما حدث، إذ كنت متحفزا لقرائته متنبها بجميع حواسي لما سأجده في هذا الكتاب لذا فقد كانت رحلة شائقة وشاقة، والكتاب في فصوله الخمسة تجاذبني ما بين القبول والرفض فيما طرحه، مما يجعل الحكم عليه من الصعوبة بمكان، فالكتاب في فصول منه هو طرح فقهي وبحث في مناهج الآخرين في التجديد الذي يبحث فيه الكاتب امحمد جبرون سواء من قالوا بالتجديد الفقهي أو من نادوا بالحاكمية (تحكيم النص)، وفي آخر بحث في قيم القرآن، لأجد نفسي ما بين إعجاب ونفور مما قرأته، لذا أرى ألا أتعمق كثيرا فيما سأكتبه لأسباب منها ألا حاجة أراها في جعل الكتاب مثار جدل وهو ما زال كما أراه في مرحلة البداية التي لم تنضج بعد فكثير من المحطات تحتاج تفصيل وتوضيح أكثر وغيرها تحتاج مراجعة حتى لا تبدو فضفاضة متروكة على الغارب، وأن يعود القارئ إلى الكتاب ليقرأه بنفسه ويبقى النقاش مع من قرأه مفتوحا. وسأقدم في السطور التالية قراءة عن هذا البحث الذي كان مهما في بعض ما أورده ورائعا لا سيما في فصله الأخير هدي القرآن في الحكم والسياسة.
الأستاذ امحمد جبرون، باحث مغربي يُعنى بقضايا التاريخ والفكر السياسي الإسلامي. والحاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ. وأستاذ في المركز الجهوي لمهن التربية الإسلامية والتكوين بطنجة. والحاصل على الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية في دورتها الأولى (2012) وعلى جائزة المغرب للكتاب (2016)، وله العديد من الكتب من ضمنها مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة؛ وآخرها كتابه في هدي القرآن في السياسة والحكم (أطروحة بناء فقه المعاملات السياسية على القيم). ولد في عام 1971 في شمال المغرب ويستقر في المغرب حاليا.
ينقسم بحثه في هذا الكتاب إلى خمسة فصول ومقدمة وخلاصة. فيقدم لبحثه من نواحي الفرضية والمنهج والمفاهيم والتصميم، وما يجدر نقله مما ورد في مقدمته عن علاقة القرآن والسياسة في المجال العربي والإسلامي قوله: “فإن كان المتقدمون قد استدلوا بنصوص القرآن وأحكامه على وجوب الرياسة والحاجة إليها، وهو ما أثمر تاريخيا ظهور الخلافة ونشوء فقه الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، فهذا الاستدلال، ومع مرور الزمن، ما عاد مقنعا، وأمسى في كثير تفصيلاته مُتجَاوزا”. فهو ينطلق من فكرة التجاوز الزمني والتاريخي ويضيف في موضع آخر: “… فأحكام “القرآن السياسي” التي تمثل المظهر الأساس لمفهوم الحاكمية السياسية -بحسب فرضيتنا- مُتجاوزة تاريخيا وسننيا كما يدل على ذلك الواقع من وجوه متعدد بعد أكثر من أربعة عشر قرنا”. فهو في فرضيته التي تنص على تجاوز التاريخ لبعض الأحكام السياسية -والتي كانت تحتاج إلى تفصيل أكبر وطرح مرضٍ وذكر بدائلَ- يدعو فيها كما يكتب: “قلب جذري للفقه التقليدي في مجال السياسة والحكم، حيث تتيح للفقيه تجديد أحكام القرآن وتوليد ما لا يتوقع من أحكام المعاملات السياسية بما يناسب العصر، وبصورة تحفظ الرسالة الأخلاقية للقرآن الكريم وتحقق هيمنته وتتيح تخليق المجالات السياسية الجديدة التي أحدثها التطور الاجتماعي والإنساني، والتي لا أحكام للقرآن فيها”. ويمكن إجمال رؤيته بكلماته إذ يقول: “هي السعي إلى بناء أخلاقية السياسة والحكم في المجال الإسلامي استنادا إلى القيم، بدلا من الأحكام، وذلك ببيان الوصف التاريخي لهذه الأحكام واتصالها الوثيق بظروف التنزيل من جهة، وبيان القيم/ الثوابت الأساسية مناط الأخلاقية المتعالية عن الزمان والمكان المنصوص عليها في كلّيات القرآن والكامنة أيضا وراء الأحكام/ الصور، من جهة ثانية” و”تؤسس لـ {أصول فقه جديدة} في مجال المعاملات السياسية”. و “صوغ نظرية توفيقية وتوافقية بين الإسلام والحداثة السياسية…”. جدير بالذكر بأن هذا البحث هو في تجديد الأحكام السياسية والمعاملاتية ولا تتجاوزها إلى الأحكام الاجتماعية والاقتصادية التي يرى أن البت فيها يحتاج إلى مزيد من الجهد والبحث.
يتناول الفصل الأول من الكتاب موضوع آيات القرآن ذات البعد السياسي في ضوء التاريخ وأسباب النزول، يقوم في هذا الفصل بنتبع آيات الحدود والعقوبات والولاء والبراء والبيعة والحكم بما أنزل الله والعلاقة مع المخالفين، في سعيه إلى لملمة أسبابها وتاريخ وفلسفة تشريعاتها التي وقع في تناقض واضح حين قال أن فلسفة الأحكام نابعة من فلسفة القبيلة ص 60، وعاد ليناقض هذا الرأي في تأكيده للحداثة السياسية لآيات القتال في “قانون التدافع” ص64-65، وفي قضية السلم التي اعترف فيها بـ”التفوق الأخلاقي للقرآن على الأحكام والأعراف التي كانت تؤطر للحرب والسلم لدى عرب الجاهلية”. ص81، وهذا يدل على أن للقرآن فلسفة إلهية في جميع أحكامه وإن حصل توافق ما بين حكم عرف العرب سابقا كالرجم والجلد وقطع يد السارق لا يعني هذا بالضرورة أنه جاء نابعا من فلسفتهم وهذا ما يثبت الواقع الاجتماعي والسياسي نقيضه في كثير من العادات التي كانت سائدة وأنهاها الإسلام ليؤكد على رؤية منهجية جديدة للعرب في عصر الإسلام. كانت غاية هذا الفصل البحث في آيات الحدود والمعاملات السياسية والحكم في ضوء تاريخ وأسباب النزول من أجل الوصول إلى فهم كامل وواضح دون أن تأخذ الآية مجردة من ظرفها الزمني وأسباب نزولها. ويمكن تلخيص النتيجة النهائية لهذا الفصل بـ(ص102):
– تجديد رسالة الإسلام الخالدة وتقديمها بأسلوب عقلاني ومقنع للعالمين!
– إن لم نستطع النفاذ إلى ما وراء النص/ الحكم، والفصل بين القيمة وظروف الحكم، وصورته، فإنه يصعب علينا إنتاج فقه جديد يساير وتيرة الحداثة المتسارعة التي تجتاح العالمين العربي والإسلامي.
– تسمح الدراسة المقارنة للأحكام السياسية في القرآن، والغوص في ظروف تنزيلها التاريخي، للفقيه فك الارتباط بين القيمة الأخلاقية ووعائها الشكلي-التاريخي، وإلا فإنه لن ينجح في رهان المعاصرة و#التجديد_الديني.
– جانب عظيم من المشكلة يقع على عاتق علم أصول الفقه الذي وثّق الصلة بين القيم الأخلاقية وهيئة الأحكام وصورها، ولم يتح الفرصة للتمييز بين الرهان القيمي للقرآن والتحققات التاريخية المحدودة لهذا الرهان.
كان الفصل الثاني من الكتاب في “أصول الفقه: من إشكالات الخطاب إلى إشكالات التاريخ في القرآن السياسي أنموذجا”. وينقسم إلى قسمين الأول هو أزمة فهم النص الشرعي في اللحظة المعاصرة والآخر منهم الفهم الأصولي من إشكالات الخطاب إلى إشكالات التاريخ في الأحكام السياسية.
هذا الفصل من أكثر الفصول التي أختلف فيها مع الكاتب سواء في منهجيته أو أحكامه أو ما ذكره وهي تحتاج إلى نقاش طويل وتحليل ونقد كل سطر كتب في هذا الفصل. فقد بحث في أزمة الفهم والتأصيل الفقهي والناسخ والمنسوخ والتعارض الظاهري ما بين بعض الآيات إلا أن أهم ما يجدر نقله عن الناسخ والمنسوخ وتجديد فهم آيات الأحكام هو ربطه ما بين تجديد آيات الأحكام وتجديد طاقتها الرسالية من جهة وتحرير الآيات من ثنائية “الناسخ والمنسوخ” من جهة ثانية، ويزيد قائلا ص 127 في منهجية يستند إليها مفادها: “إن أصول الفقه الجديدة التي نتطلع إليها، لا تهتم بمبحث الناسخ والمنسوخ، ولا تتبع أحكامه، لكنها تهتم بالقواعد الأخلاقية الثابتة التي يجري عليها وفوقها الأحكام ناسخها ومنسوخها ومهما اختلفت الأزمنة والظروف…” لعل هذا الكلام يحمل من الخطورة المنهجية والتجديدية نسف البحث كاملا عبر تجاوزه الناسخ والمنسوخ، وفي هذا تعارض للناسخ والمنسوخ المثبت في آيات الذكر الحكيم والأثر المتواتر عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإن كان هذا القول يشمل آيات منسوخة دون أخرى، فكان يجب عليه تهذيب الصياغة لا إطلاقها بلا حدود وقيود، وإلا فإنكار الناسخ والمنسوخ يدخل الباحث في مطبّات لا تنفع دعوته التجديدية التي كان مصيبا في كثير مما طرحه بل كان نابعا عن فهم عميق واستدلال قيّم. هذا الفصل في مجمله هو الأحكام السياسية الواردة في القرآن وإشكالية تطبيقها في الوقت الحالي في ظل الحداثة السياسية، إلا أن دعواه لم تقم -كما أراها- على أسس متينة في بعض جوانبها لا سيما في موضوع الحكم، وعلاقة الحاكم والمحكوم فلم يفرّق ما بين “وعاظ السلاطين” والطغاة الذين يستخدمون الدين لاكتساب الشرعية في الحكم من جهة، والقول الفصل في حكم الشرع الحق الذي نصت عليه آيات الذكر الحكيم وأقوال العلماء والفقهاء ذوي المكانة المعروفة الناهية عن الظلم والاستبداد والطغيان واغتصاب الحكم واستعباد الشعوب المسلمة.
تناول الفصل الثالث من الكتب المحاولات التجديدية في فقه النص السياسي، عبر ثلاثة فروع:
– المنهج المقاصدي: الداعي إلى تطبيق الشريعة آخذا فيها بعض الشخصيات المعاصرة مثل البوطي والقرضاوي والريسوني.
– المنهج اللغوي: الداعي إلى الغوص اللغوي في آيات القرآن وهو أشبه ما يكون بالتفسير الإشاري والتأويل اللغوي غير المقنع والشاذ آخذا ثلاثة من أعلام هذا المنهج هم محمود طه والحاج حمد ومحمد شحرور.
– المنهج التاريخي: الداعي إلى قراءة النص بصورة متحررة من الاتجاهات، والآيات محكومة بسياقات تاريخية محددة، وتحويله من مفهوم “النص الإلهي” إلى مفهوم “النص الإنساني”، وجوانب الإسلامي عرضية يمكن تجاوزها إلى عرضيات أخرى تتوافق مع ثوابث الإسلام، كما لدى آركون والجابري ونصر أبو زيد وسروش تواليا، الذين أخذهم في عرض منهجهم التجديدي.
بحث الفصل الرابع من الكتاب في هدي القرآن، ويخلص فيها إلى نتيجة القيم الأخلاقية والعدالة للنص القرآني يتحقق على أرض الواقع بحسب المتاح التاريخي وبإمكاناته، “الشيء الذي يجعل هذا التحقق نسبيا ومحدودا من جهة، ومفتوحا في المستقبل على آفاق للتحقق أرحب وأوسع من جهة ثانية” ص231 . إذ يرى أن الأحكام المنصوص عليها مرتبطة بظروف خاصة قد انتهت ولا مانع من التجديد فيها ما دام الجوهر الأخلاقي والعدالة الداعية لها ثابتة وموجودة وأن تطبيقها قائم على المتوفر والمنطقي للزمن الذي تطبق فيه وبما أن الزمن تجاوزها فهذا يوجب التجديد فيها ويأخذ من فقه عمر (رضي الله عنه) أدلة على التجديد الفقهي للأحكام، إلا أن تناوله لفقه عمر لم يكن دقيقا ولا مستفيضا بل هو أخذ لما وصل إليه عمر من نتائج دون توضيح المسار الذي مرَّ به فعمر لم يخرج على الأحكام الثابتة بالنص بل هو اجتهاد فيما لم يؤكد عليه بنص محكم من جهة، واجتهاد في تجديد الحكم انطلاقا من ظروف وحيثيات خاصة ومؤقتة دون التعارض مع النص وتغيير للأحكام المثبتة.
وتبقى دعوى التجديد في الأحكام لتصبح إمكانية تطبيقها واردة و”منطقية” لمن لا يقتنع بالمحكم المنزل أرى فيه تجديدا لا قيمة له وتأثيرًا في الوقت الحالي، فإن النص المحكم المأمور بتطبيقه والثابت بالتواتر عن النبي المرسل (صلى الله عليه وسلم) لن يتم تطبيقه سواء أكان “تراثيا” أو “ما بعد حداثي” فالعلة ليست في الأحكام بل في محاربة الدين ورفضه، ونحن نرى الكثير من الدول الإسلامية لا تطبق أحكام الشرع لا في الحدود ولا المعاملات ولا غيرها، سواء كانت -كما يراها البعض- بسبب الاستعمار والتأثير الغربي أو في “لا منطقية ومعقولية” تطبيقها، فهي كلها أسباب غير مقنعة أو كافية، فالشريعة معطّلة من الأساس، وتعطيلها نابع لا من المسلمين أو أصول الفقه أو “اللا معقولية” بل في السياسة الحاكمة وسدنة الحكم، حتى وإن كانت بعض أحكام الشريعة تطبق في دول معينة فهي عائدة إلى المجتمع لا الدولة وإن كانت كثير الدول تدّعي أن دينها الإسلام إلا أن هذا مجرد ادّعاء لا أساس قوي له في أرض الواقع، لذا فـ”التجديد” في بعض الأحكام والحدود التي يُدعو إليها بعضهم يمكن أن يلتفت إليه إذا كانت لدولة الإسلام والشريعة شوكتها أما أن تكون لا شوكة لها فأن تبقى معطّلة بالإجبار والتأثير الخارج عن سيطرة المسلم خير من دعوى تجديدها وتبديل الأحكام التي أنزلها الله وأمر بها نبيه، لا سيما وأن هذا التجديد لن يخرج من عالم التنظير والنظريات وسيبقى بعيدا عن التطبيق بعد المشرق عن المغرب، فكأن أصول الفقه اليوم تطبق ونحتاج إلى تخفيف بعض أحكامها أو أن في اللحظة التي سيجدد فيها الحكم الفقهي سيتم تطبيقه بلمح البصر! هذا خداع للنفس وتقصير في قراءة الواقع، فالمشكلة ليست في تطبيق الشرع ولا في وسائله ومعقوليته بل في أن كثير الدول بسلطتها ومجتمعها قد ابتعدت عن الدين والشرع حتى بدا لها أنه غريب وقميء ومتخلف ولا يناسب العصر الحالي مع الغزو الثقافي والاجتماعي والسياسي لذا فالأولى أن يتم قراءة الشريعة بطريقة معاصرة لأجل إخراج المفاهيم الحقة من قيود المفاهيم الخاطئة والفاسدة التي ألبسها إياها الجهلة والمتسلطون والمتاجرون بالدين ومن فوقهم من الطغاة لتبرر حكمهم. ويتوافق الفصل الأخير من الكتاب مع ذكرته في أهمية تجديد الفهم للشريعة لا تغيير أحكامها، وهو من الفصول المهمة من الكتاب أو أهمها الذي كان بعنوان “هدي القرآن في السياسة والحكم” فهو يقدم رؤية نقية عن القيم الهدي القرآني في إطار الحرية والمساواة، والعدل والمسؤولية، والمعاهدة والمعاقدة والمبايعة، والمصلحة والمعروف والخير، والكرامة، وهذا المبحث فيه قراءة واعية وتشخيص دقيق للقيم الجوهرية للإسلام والقرآن.
تصويبات:
– ذكر في الصفحة 79 أن “… سعد بن عبادة…” هو من حكم في يهود بني قريظة بعد خيانتهم النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين في غزوة الأحزاب (الخندق) سنة خمس للهجرة.
الصواب أن من حكم فيهم هو سعد بن معاذ (رضي الله عنه) بعد أن طلب اليهود منه أن يحكم فيهم وكان حليفا لهم في الجاهلية.
– ذكر في الصفحة 91 “… أخي المهلل الشاعر”. الصواب المهلهل ولقّب عدي بن ربيعة التغلبي بـ المهلهل لأنه أول من هلهل الشعرَ أي رققه.
– كتب في الصفحة 276 “… إما مملوكة تُباع وتُشرى…”. الصواب “تُباع وتشترى” أو “تُباع وتُبتاع”، لأن كلا باع وشرى يعنيان البيع وهذا ليس المقصود من حال المملوك الذي يباع ويشترى.