إن قارة أوروبا ومنذ غياب شمس الحضارة الإسلامية مع سقوط مملكة غرناطة عام 1492، تصدرت الساحة الفكرية والعلمية والمعرفية، واستمرت في تطورها المستمر حتى ملأ إنتاج الأوروبيون العالم في مجالات متعددة من العلوم والمعارف والفلسفة إلى الصناعة ونشأة المذاهب السياسية والمعتقدات الفكرية، وتزامن الأمر مع تطور الأدب وظهور المدارس الأدبية المختلفة، وتطور النثر والشعر ونشأة الرواية الحديثة، ولا نكاد نجانب الصواب إن قلنا أن ثمار التطور الإنساني الإغريقي ثم الإسلامي اجتمع في هذه القارة ليلتقي مع نتاج الفكر الأوروبي على مدى قرون ابتداءً من عصر النهضة في القرن الثالث عشر، فتمازج الكل على مدى القرون اللاحقة فكان لأوروبا الصدارة الفكرية والأدبية والسياسية والعسكرية على العالم وبلغت أوجها في نهاية القرن التاسع عشر حتى زالزال الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين التي أدّت لهجرة الكثير من العقول إلى أمريكا التي أخذت زمام عجلة التطور وتفوقت بها على أوروبا الخارجة من حربين فظيعتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين ما بين قتيل وجريح، وتغيّرت موازين القوى، ولم تعد أوروبا زعيمة للعالم وأخلت الكرسي لأمريكا لتستحوذ عليه إلا إن هذا لم يمنعها من تضميد جراحها ولملمة شتاتها والعودة مجددا باتحادها الأوروبي لكن ما زال هناك العم سام الذي لم يتخلَّ عما ناله بفضل نكبة أوروبا، في حين بقيت قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية خارج المعادلة الرئيسة التي تتلاعب وتتحكم في موازين القوى بشكل مباشر في عمومها وإن شذَّت الصين واليابان وبعض الدول الأسيوية الأخرى في ميادين التطور الاقتصادي والتكنولوجي، لكن كما يرى الجميع فإن الولايات المتحدة وأوربا (الاتحاد الأوروبي) لهم السبق والقيادة من بين الجميع. يبقى السؤال كيف وصلت أوروبا إلى وصلت عليه، وما المراحل التي خاضتها لتخرج بهذه العظمة التي مكّنتها من التصدّر في ميادين العلم والأدب والفلسفة والفكر في التاريخ الحديث، لهو مخاض عسير ومسيرة حياة طويلة عركت القارة العجوز عركا خلال قرون، أثمرت في النهاية وتأتت عنها الريادة في جوانب متعددة لا ينكرها إلا حاسد أو مغلق لعينه بكفه.
يتناول كتاب تاريخ الفكر الأوروبي الحديث بأسلوب رشيق ولغة سلسة هذا التاريخ الطويل ابتداءً من القرن الثالث عشر إلى النصف الثاني من القرن العشرين، عارضا جوانب متعددة من الفكر والأدب والفلسفة والدين والعلوم منذ عصر النهضة مرورا بالإصلاح الديني فالعصر الباروكي إلى النهضة العلمية والفكرية والفلسفية والسياسية إلى عصر التنوير فالثورة الفرنسية ومولد الأيديولوجيات كالاشتراكية والليبرالية والرأسمالية والمذاهب الأدبية والفكرية والعلمية كالرومانسية والماركسية والفرويدية وانتهاءً بالحربين العالميتين وما تبعتهما من نتائج. يتوزع هذا “الكتاب” الضخم بمادته المتنوعة والشاملة في أربعة عشر فصلا على جزأين، ويعد مرجعا لكل دارس، ولا يبخل “المؤلف” في عرضه وتناوله المراحل المهمة في التاريخ الأوروبي وترجمة سير حياة أعلامها في المجالات كافة، بلغة رشيقة وفكر ثاقب ونقد جلي، فلم يعرض الكاتب مادته ذاك العرض التاريخي البارد والجاف، بل في كثير من المواضيع والفصول كان الأسلوب واللغة جاذبا ومشوّقا لا تُمل قراءته. إن مادة الكتاب الثقيلة والزمن الذي تتبعه الكاتب بحاجة إلى جهد جهيد خاصة، ولأن الكتاب تناول الجوانب الفكرية التي تشمل الدين والفلسفة والعلم والأدب والسياسة، فكان الطرح طرح فاهم هاضم لما يكتب لا طرح ناقل جامع، سواء في تقديمه أو تناوله السياقات التاريخية وتطور الحركات الفكرية وبما تأثرت وبمن أثرت وما الروافد التي تفرعت عنها ومماذا تبرعمت. كانت هذه قراءتي الثانية للكتاب، وإني عائد لقرائته مرة ثالثة دون شك، فكتاب كهذا يغنيك ويمنحك ما لا تمنح عشرات الكتب مجتمعة، وتنوع مادته يضفي له شمولية وموسوعية ينتقل القارئ من التاريخ السياسي إلى الحركات الاجتماعية إلى الأدب والشعر والنقد إلى الحركات الدينية والفلسفية، كل هذا في قالب تتابعي متسلسل. وينهي الكتاب مستعرضا أهم المشاكل الفكرية والثقافية والعلمية في النصف الثاني من القرن العشرين.