أسرار البلاغة – عبد القاهر الجرجاني
لكتاب أسرار البلاغة وصاحبه أمام النحو والبلاغة عبد القادر الجرجاني السبق فيما يعرف اليوم بعلم البلاغة، لذا يعد الجرجاني مؤسس علم البلاغة المعروف اليوم كما يقول كثيرون منهم عبد العزيز عتيق واصفا إياه بالمؤسس الذي استفاد من سابقيه ونهل من علمهم وما كتبوه في وضع أسس هذا العلم. وبالإضافة إلى كتاب أسرار البلاغة، فإن للجرجاني كتاب آخر هو دلائل الإعجاز الذي أسس فيه لعلم المعاني.
عاش أبو بكر عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري (٤٠٠-٤٧١ هـ)، من أصل فارسي، وبدأ الضعف يدب في اللغة بعصره، كالوقوف على مدلول الألفاظ والجمل المركبة والانصراف عن معاني الأسلوب كما يذكر عبد العزيز عتيق في كتابه علم البيان. وشاع في عصره أيضا الانصراف إلى اللفظ دون الاهتمام بالمعنى، وهذا ما يقف منه الجرجاني موقف الضد، وضرورة أن تكون المعاني مكانتها فيصف من نصر اللفظ على المعنى “كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته”. ويسبقه القول بأن “الألفاظ خدم المعاني، والمصرفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة لسياستها”، ويختلف هنا مع الجاحظ الذي نصر اللفظ على المعنى وقال: “المعاني مطروحة يعرفها الأعجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من النسج، وجنس من التصوير”.ويدلل صاحب الطراز، سند بن عدنان الأزدي، على أن الألفاظ تابعة للمعاني، لا العكس، بثلاثة براهين: أولها: أن معنى، الفرس والأسير والإنسان، مفهومٌ لا يتغير والألفاظ الدالة عليه مختلفة على حسب اللغات. فلو كانت المعاني تابعة للألفاظ لاختلف لاختلاف الألفاظ. وثانيهما: أن من المعاني ما يكون واحدا وله ألفاظ كثيرة، ولو كان الأمر كما قالوا لزم من اختلاف الألفاظ اختلاف المعاني. وثالثهما: لو كانت المعاني تابعة للألفاظ للزم في كل معنى أن يكون له لفظ يدل عليه؛ وهذا باطل، فإن المعاني لا نهاية لها، والألفاظ متناهية. وما يكون بغير نهاية لا يكون تابعا لما له نهاية. ولا يُفهم من هذا أن الجرجاني رجّح المعنى على اللفظ أو العكس بل ما اشتمل على الاثنين لفظا ومعنى، لهذا فيعد الجرجاني كذلك ناقد أدبي جمع بديع اللفظ وموضعه السليم وجمال المعنى والغرض المراد منه ودقة الأسلوب وتمامه عكس سابقيه كالجاحظ وابن قتيبة وترجيح اللفظ أو المعنى عند كليهما تواليا. فنقرأ في كتاب أسرار البلاغة لناقد ألمعي وأديب عارف ونحوي، لذا فهو يطرح في كتابه مواضيع بلاغية يردفها بشواهد شعرية ناقدا وشارحا إياه مستخلصا المعنى والعِبر في سياقاتها البلاغية والتركيبية والمعنوية داخل المواضيع التي يبحث ويؤصل لها.
ينقسم كتاب أسرار البلاغة إلى عدة مواضيع تتركز في التجنيس الاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز العقلي والتخيلي ولا سيما الاستعارة والتشبيه والتمثيل اللاتي تنال مساحة شاسعة في فصوله وحديثه. لغة الكتاب يسيرة في فصول ومتقعرة في أخرى، والكتاب في مجمله متقدم في طرحه وأسلوبه ولا يناسب كل مستوى إلا أن القارئ مهما كان مستواه يحظى برحلة لغوية رائعة وبلاغية شائقة. ومما يؤخذ على تنضيد الكتاب وترتيبه أن يحصل تداخل في بعض فصوله في المواضيع، والأمر ناجم من سعة علم ومعرفة الجرجاني الذي يحاول أن يرص حديثه رصا ولا يترك فيه فجوة ويربطه مع ما يقاربه ويقابله من فنون بلاغية.