أضحت رواية فيليت بعد نشرها في عام 1853 واحدة من أهم أعمال شارلوت برونتي وتلي رواية “جين إير” في الأهمية، وجعلت من مدرسة البنات الداخلية في بروكسل، شارع إيزابيلا، محجًّا للقراء لا سيما الأمريكيين في وقتها. ارتبطت تجربة التعليم والعمل في بروكسل ارتباطا وثيقًا بحياة شارلوت على المستويين الحياتي والعاطفي وبقيت تعتلج في صدرها مشاعر وتختمر مخيلتها بالحكايات والأفكار حتى نتجَ عنها في النهاية هذه الرواية التي كانت آخر ما كتبت ونُشر في حياتها.
في شباط/ فبراير من عام 1842 حطَّت شارلوت برونتي مع أختها الرحال في بروكسل قادمةً من قريتها، هاورث، من أجل دراسة اللغة الفرنسية والألمانية والأدب والموسيقى بعد أن خططت مع أختيها فتح مدرسة داخلية للبنات في منزلهن والبدء بمشروع حياتيّ. انتهت هذه المرحلة سريعًا بوفاة خالتهن إليزابيث برانويل بعد نحو ثمانية أشهر، وفي بداية السنة الجديدة 1843 عادت شارلوت وَحْدها إلى بروكسل لإكمال دراستها ولتعمل مُعلمة للّغة الإنجليزية لكنَّ هذه المرحلة الثانية لم تكن كسابقتها لأسباب متعددة منها أنها جاءت وحدها دون أختها ووفاة صديقتها مارثا، التي كانت تدرس في بروكسل رفقة أختها ماريا وهي صديقة شارلوت أيضا، ثم انتقال معارف لها عن بروكسل فشعرت بوحدة مضاعفة زاد غلّتها الحنين إلى الوطن، والأهم من كل هذا، وهو الدافع الأول والرئيس لتُشرع بعدها بالكتابة بانتظام وتأخذها على محمل الجد، كان المشاعر المتنامية تجاه المسيو هيغر، أستاذ الأدب وزوج ناظرة مدرسة البنات الداخلية، المدام هيغر (زوي كلاير). من الجليّ أن أهم سبب لعودة شارلوت إلى بروكسل في عام 1843 كان مطاردة هذه المشاعر ومغامرة الحب بكل ما تحملها من مخاطر ومغبَّة قد لا تُحمد عُقباها وهذا ما كان فعلا. استشعرت المدام هيغر من نمو هذه العاطفة من الطالبة والمعلمة شارلوت تجاه زوجها فعلمت على إبعاد زوجها -كان قد بدء يأخذ دروسا مع شارلوت لتعلمه الإنجليزية- عن شارلوت وتقليص عدد لقاءاتهما إلى أقل حدٍ ممكن. ولم تتوقف أسباب المدام هيغر هنا، إذ لعب الخلاف المذهبي بينها، وهي الكاثوليكيّة الرومانيّة التقيّة -على حد وصف إليزابيث غاسكل- وشارلوت البروتسانتية دورًا في تكبير الفجوة وتعميقها. كانت النهاية لكل هذا هو قرار شارلوت إنهاء هذه المغامرة والعودة إلى هاورث في بداية عام 1844. تحكي أسطورةٌ عن العَلاقة بين المرأتين أن المدام هيغر رافقت شارلوت إلى مدينة أوستندة الساحلية حيث ارتحلت من هنالك عبر بحر الشمال إلى جزيرة بريطانيا، وقبل أن تمخر السفينة بركابها أخبرت شارلوتُ المدام هيغر أنها ستثأر. استغرق الثأر قرابة عشر سنوات حتى تمَّ لكنه جاء على شكل رواية فيليت. تقدِّم شارلوت في هذه الرواية حكاية متخيّلة عن شابة فتيّة، لوسي سناو، ترحل إلى مدينة فيليت حيث انضمَّت إلى مدرسة بنات داخليّة تديرها المدام بيك، وتبدأ بعدها سلسلة طويلة من الوقائع الروائية وتتهاطل الشخصيات واحدةً تلو الأخرى وفي خضمِّ هذه الحياة تطرح الرواية الكثير من المواضيع الاجتماعية والفكرية والدينية والإنسانية في قالب تحليليّ عبر الساردة الأولى وشخصية الرواية الرئيسة، لوسي سناو، التي لعبت لوسي دور المراقبة في كثير من أجزاء الرواية فتسرد في حضورٍ خفيّ أو وجودٍ غائب ولا تظهر إلا بقدر ما يفرضه عليه دورها أو مساهمتها فيما يحدث أو يتعلَّق بها. بيد أنَّ أهم ما قامت به شارلوت في الرواية هو الدور التوثيقيّ-التخيّلي، فألبست الكثير من الرجال والنساء الذين التقتهم في بروكسل أو عرفتهم في حياتها في ثوب شخصياتها المتخيّلة، ولم يقتصر هذا على الأشخاص بل امتدَّ ليطال الأماكن أيضًا فهي لم تصرِّح علانيةً بالأسماء إذ غيَّرتها أو قنَّعتها بأسماء أخرى لكن الأوصاف والسمات التي خلعتها على مكان وزمان وشخصيات الرواية جعلت من الربط ما بين تجربة بروكسل الحقيقية وتجربة فيليت المتخيّلة أمرًا سهلًا ومعرفة المتخيَّل وأصله ممكنا. فمدينة فيليت هي بروكسل، ولاباسيكور هي بلجيكا، وشارع فوسيت هو شارع إيزبيلا حيث كانت مدرسة البنات الداخلية، والمدام بيك هي المدام هيغر، والمسيو قسطنطين هيغر هو المسيو بول إيمانويل. وهذه أبرز التشابهات في الرواية لكن ليست الوحيدة.
كان انتقام شارلوت فريدًا من نوعه فقد انتصرت لذاتها عبر شخصية لوسي سناو فقدَّمت قصة لم تمتز بالحبكة المثيرة أو الأحداث المهتاجة لكنها عرضت حياة كاملة بكل ما فيها من فضائل ومعائب في سرد ثابث راسخ فلا يجد القارئ الباحث عن المتعة القصصية في على الكثير الذي يأمله لكنها كانت وفيّة لأسلوبها السردي والفكري الروائي في روايتها السابقة، فشارلوت كما تقول بنفسها عن هذه الرواية في رسالتها إلى ناشرها سميث: ’سترى بأن “فيليت” لا تُلامس القضايا ذات الاهتمام العام؛ لا يمكنني كتابة كتب عن مواضيع الحياة اليوميّة ولا فائدة من المحاولة، كما لا يمكنني تأليف كتابٍ من أجل غايته الأخلاقية، ولا أستطيع أيضًا التعامل مع مواضيع السعي نحو خير البشرية رغم تبجيلي لها إذ سيغطي حجاب التلقائية والإخلاص وجهي قُبالة موضوع مهم كالذي كتبت فيه الآنسة بيتشر في روايتها “كوخ العم توم”. فمن أجل هذه المواضيع لا بد من دراستها مطوّلًا نظريًا وعمليًا، فتُعرف حُمولاتها بصدقٍ محض، وتُحسُّ شرورها بحقٍ وحقيق، ولا يجب أن يحمل امرؤ على عاتقه هذه المواضيع في عمل ربحيّ أو يفكِّر فيها تجاريًا‘.
تكشف هذه الأسطر عن عجز شارلوت الولوج في عالم الكتابة لأجل قضايا إنسانية وأهداف عالميّة لأنها تفتقر إلى تلك المقدرة وتعبِّر عن عجزها عن الخوض فيها لكنها في ذات الوقت واستنادًا إلى حياتها الشخصية كتبت عن المرأة ودورها في المجتمع وعملها واستقلاليتها في شخصيّة لوسي سناو، الشبيهة كثيرًا بشخصية جين إير وكلاهما نظائر لشارلوت، برجاحة عقلها ومنطقيتها في التعامل ورواقيتها في مواجهة مصاعب الحياة، ويبرز قيمة الشخصيات النسائية المكتوبة في روايات الأخوات برونتي في عالمنا المعاصر، وكيف أنهن قدمن مواضيع اجتماعية نسويّة حُصدت ثمارها في تغيير النظرة العامة تجاه عمل المرأة واستقلاليتها المالية. هذا المزيج ما بين الحقيقي والمتخيّل وما بين الذاتي والموضوعي والشخصيّ والعمومي في رواية فيليت أو رواياتها الأخرى، يعرض لنا الإنسان الفرد العادي من عامة الناس الذي يرتكز على ذاته وأفكاره ويحكِّم عقله في قراراته في مواجهة مطبَّات الحياة وبذل ما يمكن بذله لتجاوز عقباتها وحواجزها المُعترضة طريقه.
تطغى التحليلية من الساردة لوسي على رواية فيليت مما يستدعي الغوص في التفاصيل لكل ما يَرِدْ لكنها بذات الوقت تعرض نفسها بدرجة ثابتة من الوعي والفكر والتطور فهي تبدأ ناضجة وتصرفاتها محسوبة وموزونة فهي تكاد لا تُخطئ تقريبًا وتُضعف هذه المثالية في بناء شخصية لوسي، وإن كانت هي التي تبني نفسها عبر عرضها لحياتها الخاصة في المدرسة الداخلية لكن شارلوت الكاتبة هي المسؤولة عن هذا الضعف الفني في بناء شخصيتها الرئيسة على عكس ما نراه مثلًا في شخصية جين إير. تكتب الساردة موجِّهة كلامها للقراء وتُخاطبهم مباشرة أحيانا مما يفرض حتمًا أنَّها تقص ما حدث في الماضي لذلك فهي تكتب بعقليّة ومنطقيّة اليوم ما حدث في الأمس البعيد لذلك غاب الإحساس بتنامي شخصيتها وتقدمها رغم تقدمها على المستوى العمليّ الذي انتهى بها لتفتح مدرسة داخلية بمعونة المسيو باول إيمانويل. ارتكزت الرواية في شقِّها الفنيّ على بناء الشخصيات وتقديمها ظاهريا وسلوكيًا مع تفسير لهما، فشارلوت أستاذة في بناء الشخصيات وعرضها سواء من الجانب الداخلي وما يضم من عواطف وأفكار ودوافع أو الجانب الخارجي بسلوكياته وتصرفاته وسماته الجسمانية لكنه غالبًا ما يُقرن أو يُجرُّ إلى حقل التشريح النفسيّ والفعليّ. وقد مكَّنَ عمل شارلوت سواء في وظيفة التعليم أو مربيّة من ممارسة المراقبة الاجتماعية فلديها عين مُدركة ترسم صورة بانورامية شاملة لما تراه فنقلت هذه الرؤية البانورامية للشخصيّة في روايتها، إنَّ التعقيد الذي تبني فيه شخصياتها سهلٌ ممتنع فما تكتبه في رسم الشخصية المتناولة حقيقيّ بقوَّة، وإنَّ جاز لي ذلك فهي روائية مُشرِّحَة تخلق إنسانًا كاملًا بالكلمات، وتُنزله إلى أرض الصفحات البيضاء.
نُشرت الترجمة الفرنسية من الرواية بعد سنتين من نشر الطبعة الإنجليزية إثر وفاة شارلوت. شعرت المدام هيغر بالغيض والحنق والامتعاض من رؤية مَدرستها مكتوبة في رواية يقرأها الجميع وأخذت الرواية على محمل شخصيّ ورفضت الالتقاء بمعجبي برونتي القادمين إلى مدرستها، كما رفضت رؤية إليزابيث غاسكل، صديقة برونتي، حين جاءت إلى بروكسيل لجمع مادة كتاب السيرة الذاتية عن شارولت. وتباينت آراء عائلة هيغر حول الرواية، فقد رأى الابن بول بأنَّ الرواية متخيَّلة، أما هيغر نفسه فقد كان يفاجئ بعض زوار المدرسة قائلًا أنا بول إيمانويل.
ختامًا لا يمكن قراءة أي عمل من أعمال الأخوات برونتي وفهمه فهمًا تامًا دون تسليط الضوء على حياتهن الخاصة والوقوف مُتأملين مليًا ما بين كتبهن وحياتهن؛ يساعدنا هذا على الغوص إلى أعماق ما كتبنه ويعيننا على فهم تصرفات وسلوكيات الأفراد وأسبابها، وكيف ارتكز أدبهن على تجاربهن الشخصيّة، لينطلق من الذات إلى العالم ومن الداخل إلى الخارج في رحلة بدأت بالشقاء وانتهت أسطورةً خالدة.