الحمار والرواية
للحمار دور محوري في كثير من الروايات والأدبيات العالمية، حيث يبرز صديق السفر وشريك العمل، وصاحب السر، ورفيق الترحال في هذه الحياة، ولا تقتصر قيمة الحمار على عالم الرواية، لكنه يدخل في الموروث الديني، وليكون له موقعٌ مميز يذكر في الكتب السماوية كالقرآن، كقصة العزير، بل وجعله آية من آيات الله في إحياء الموتى للعزير، وما يضربه الله مثلًا في القرآن فهو موجه للبشرية جمعاء. فمكانة الحمار الرفيق تخطت كل الحدود وحجزت مكانًا لها في كثير من المجالات، وحتى في الثقافات الاجتماعية، للحمار مكانته، ليضرب به المثل بالصبر والجَلد والتحمل فسُمي بـ(أبو صابر) لكثرة صبره على سوء المعاملة، أو قد يُوصف الإنسان الأبله بالحمار، فكل هذه الأمثلة هي عن قيمة الحمار ومكانته في المجتمع بكل مجالاته الأدبية أو الدينية أو الثقافية.
في عالم الرواية القديمة نقرأ لدى لوكيوس أبوليوس في رواية “الحمار الذهبي”، التي تعد أول وثيقة إنسانية في عالم الأدب والفكر في الرواية، كيف تحول شاب يهتم بالسحر عن طريق الخطأ إلى حمار بهيئته ويبقى محتفظًا بعقله، وتبدأ مغامرة هذا الحمار بعد اختطافه من قبل لصوص، ثم بعد هربه ويتلّقى معاملة سيئة. تُبرز هذه الرواية وأحداثها، حيث الحمار بطلها الرئيس وعنوانها، قيمة الحمار في عالم الأدب ليكون في الطليعة، ويبقى مادة دسمة لدى الكثير من الروائيين ليشركوه في رواياتهم.
ومن لوكيوس إلى سارڤانتس، كان لحمار مرافقة سانشو، دور في روايته الشهيرة دون كيخوته، ليمثل الحمار المطية التي امتطاها الفلاح سانشو عند مرافقته سيده الفارس كيشوت في مغامراته، وتعلّق سانشو بحماره، الذي كان بنظره لا يقل عن حصان سيده الفارس، رونسانيت، حصان الفارس، والحصان بالنسبة للفارس كسيفه وجزءٌ لا يتجزأ من الفارس في حربه وسلمه وحلِّه وترحاله، الحمار رفيق الفلاح وشريك عمله، ومن هذا المنطلق كان للحمار مكانة وحظوة لدى سانشو والذي ضرب به الأمثال فيقول (لم يخلق العسل لفم الحمار). لم تغب عن ثربانتيس أهمية الحمار فكان حاضرًا وبقوة في مغامرات الدون كيشوت دي لامانش.
ومن سارڤانتس إلى نيكوس كازانتزاكيس، مؤلف الرواية العالمية زوربا، في رواية المسيح يُصلب من جديد، كان للحمار دور جديد صاحبَ سر، ورفيق عيش، والصديق الوفي. ياناكوس أحد أبطال رواية نيكوس، والذي كان يرى حماره أحب أصدقائه لنفسه، ورفيق الدرب والشقاء، والذي سماه (يوسوفاكي) اسم دلع وحب، تيمنًا بيوسف فتى الآغى المدلل، فكان للحمار أهميته في حياة ياناكوس، بل كان يمثل له الحياة كلها، فكان يصارحه بمشاعره ويعلن له حبه، ويشاركه أسراره، ويخبره بكل أحداث القرية وما تجري فيها، ويقدم له الهدايا، وأطزج أنواع الطعام، حتى كان للحمار دور في تمثيلية آلام المسيح الذي يدخل أورشليم محمولا على ظهر يوسوفاكي، ويبشره بهذا الاختيار ياناكوس، يقول ياناكوس لحماره بسبب فرحه لهذا الاختيار لحماره “أود لو أن أقول لك ارسم علامة الصليب، لكنك لست مسيحيا وإنما أنت حمار”. إن القارئ لهذه الرواية سيرى قيمة الحمار في الرواية والمكانة التي احتلها في أحداثها.
وأخيرًا في الرواية العربية، لم تخلُ الرواية العربية من الحمار، وكان لها دورها ومكانتها، عبدالرحمن منيف مؤلف خماسية مدن الملح، في رواية الأشجار واغتيال مرزوق، كان الحمار رفيق الترحال، والصديق الوفي لـ إلياس تاجر الملابس القديمة والمهرب الذي تحتل قصته الجزء الأول من هذه الرواية، فبعد أن يخسر أشجاره وأرضه، يشتري حماره الذي سماه “سلطان” فكان شريك تجارته وعمله، وكان كثيرا ما يستشيره في أي الطرق نسلك، ويحاوره ويبث له همومه، ويناجيه، فلا عجب فهو الحمار الذكي العجيب، ويصفه إلياس فيقول “تولدت بيننا ألفة قلما تجتمع بين اثنين، كان حمارا عجيبا وذكيا، نعم أعجب حمارا رأته عيني، كان يفهم أكثر من البشر دون أن يقول كلمة واحدة، وصدقني إنه كان يشتري ويبيع للناس أكثر مما أفعل، وكان يقودني من قرية لأخرى”.
هذا دور الحمار في روائع الأدب العالمي والعربي، فمن يا تُرى سيحظى بهذه المكانة في الرواية كما حظي الحمار، وهل سنبقى نسخر من الحمار ونصف أصحاب الصفات السيئة أو من يقومون بعمل السيئ بأنهم حمير؟! نحتاج إلى وقفة فقيمة الحمار أهم مما تبدو عليه.
وكما يقول الشاعر مخاطبًا الحمار:
أنت الوحيد من الورى يهواه يحنو لانسجام
جرح الأحبة يا حماري فاق ضربا بالحسام