النبيذة – إنعام كجه جي

في الطريق إلى باريس قررت على حين غرَّة قراءة رواية لإنعام كجه جي، لأني كنت على موعد لقاء مع كاتبتها لا سيما أني سبق لي قراءة روايتيها طشّاري والحفيدة الأمريكية، فوجدت الفرصة ملائمة لقراءة عمل لم أقرأه فاخترت النبيذة. وفي أثناء لقاء الكاتبة إذا بها تقترح عليّ قراءة النبيذة لأنها بذلت فيها جهدا بحثيا كبيرا في التاريخ، وهو جهد اعترفت أنها لن تعود لبذله في عمل آخر، فأخبرتها أني بدأت سلفا بقراءتها. كانت القراءة الأولى لإنعام كجه جي قبل عشر سنوات، وما احتفظت به ذاكرتي عن أدبها ليس إلا صور ولمحات ومواضيع، غير أني بقراءة النبيذة عرفت سرَّ إعجابي بعملها في قراءتي السابقة، وهو أنها حكَّاءة ماهرة، وتتلاعب باللغة بأسلوب حاذق تضخ الأمثال والألفاظ العراقية في نسيج اللغة فيأتي السرد ذكيًا لمّاحا، يأخذ بتلابيب القارئ. تقص الراوية على القارئ بما يجعله يرغب في سماع المزيد. يبقى القارئ يسأل ثم ماذا؟ فتجيبه أكمل القراءة. ثم ماذا؟ فتجيبه أكمل القراءة. وهكذا يبقى القارئ مشدودا للرواية حتى آخرها. ذكرني أسلوبها بأسلوب همنغوي، عملت إنعام كجه جي صحفية وهمنغوي صحفيا ومراسلا، وعُرِّف أسلوبه بأنه “أسلوب الإرشاد النجمي”، “يبدأ هذا الأسلوب ’استخدم الجمل القصيرة، استخدم فقرات افتتاحية قصيرة، استخدم لغة متينة، كن إيجابيا لا سلبيا‘”. لا يمكن للغة الكاتب أن تكون ذكية إن لم يكن إدراكه للّغة على مبلغ من الدقة والذكاء، فيطوّعها كيف يشاء في مرامي سرده للقصة وشخصياتها، حتى يكاد الكاتب يدخل في سباق مع نفسه في كلّ سطر ليستنزف اللغة ويستنفدها حتى آخر إمكانياتها، ومع إنعام كجه جي فإن الذكاء اللغوي هو في جعل اللهجة العراقية وعقلها حاضرا دون أن يكون مجلوبا قسرا، يوجد حيث يجب أن يوجد.
تروي النبيذة قصص ثلاث شخصيات، تاج الملوك ووديان الملاح ومنصور البادي، عراقيتان إحدهما من أبوين إيرانيين، وفلسطيني، وكلّ واحد منهم له حكاية وزمنه، فتاج الملوك الصحفية شخصية في عراق الملكية، ووديان شخصية في عراق البعث، ومنصور شخصية فلسطيني الشتات، تبلغ طرق هؤلاء بلاد كثيرة وتتقاطع في أخرى ما بين العراق وإيران وباكستان وفرنسا وفنزويلا، ولكل منهم مساحته ليسمعنا صوته ويشاركنا أفكاره وحياته، فضلا عن الراوي العليم الذي يسيطر على مساحة السرد الكبرى لهذه الشخصيات التي تؤول حيواتها إلى مصائر مختلفة. يكمن البحث التاريخي في الرواية في أن حياة الشخصية جزء من عالم أوسع يضمها فتاج الملوك في بيئة العراق الملكي وتختلط بالعائلة الملكية ونوري السعيد وشخصيات أخرى حتى ينتهي بها المطاف في فرنسا، ووديان في بيئة عراق البعث الذي تحكمه قبضة “الشيخ” و”ابن الشيخ” فهي إحدى ضحايا عدي الشاب المعتوه المتهتك وينتهي بها المطاف أيضا في فرنسا، ومنصور البادي فلسطيني يغادر بلاده وينزل في العراق ثم باكستان حتى ينتهي به المطاف في فنزويلا رفيقا لهوغو شافيز.