
صلاح الدين الأيوبي واحد من أشهر القادة المسلمين، وملأت شهرته التاريخ وبلغت مختلف الأمم، لعديد الصنائع والأعمال التي أنجزها كان على رأسها تحرير بيت المقدس بعد أن احتله الصليبيون مئة عام تقريبا، وإنهاء حكم الدولة العبيدية (الفاطمية) التي اعتلت سلطة مصر بعد أن دخلها المعز لدين الله الفاطمي1. ومما زاد على شهرته دماثة خلقه، وسماحته مع أعدائه وأبرزها تعامله مع المستسلمين من الصليبيين في بيت المقدس بعد هزيمتهم في معركة تحرير بيت المقدس، ضاربا أطيب الأمثلة على خُلق كريم على العكس من نظرائه من الصليبيين، وفي الأخص أولئك الذي دخلوا بيت المقدس عام 1099م وذبحوا أهله وخاضوا بدمائهم ولم يسلم منهم طفل أو امرأة، ومسلم أو يهودي. فضلا عن ذلك فإن سياسته الحكيمة ومقاومته الحملة الصليبية الثالثة، التي جاءت بعد تحرير بيت المقدس عام 1191م، أثبتتا مقدرة كبيرة وحنكة لا يستهان بها لهذا القائد الذي دعت له بالنصر والتمكين المنابر، ونُظمت في مدحه القصائد، وحكى عنه المعاصرون واللاحقون، وشهد له الأعداء قبل الأصدقاء المقربون، وبقي اسمه يمثل كابوسا وهاجسا لأعدائه. يذكر لنا التاريخ أن الجنرال الفرنسي غورو، بعد أن دخلت القوات الفرنسية دمشقَ في عشرينيات القرن الماضي، وقف على قبر صلاح الدين متحديا ومذكرا ومتوعدا وقال “ها قد عدنا يا صلاح الدين”. لهذا وأكثر فإن هذا القائد والملك والناصر لدين الله من أهم الشخصيات التي يجب الوقوف عندها، ودراسة حياتها والاستفادة مما أنجزته. ونحن بأمس الحاجة لمثل هذه الدراسات والوقفات لتَكَرُّرِ الحال وعودة عجلة التاريخ بخيبات الماضي وحسراته، وأخطائه وهفواته، إذ ألقى فوق صدورنا ثقل الأعداء وخيانة الأقرباء وفساد البلاد والعباد وانحرافهم عن الصراط القويم إلا من رحم الرب العليم، واحتلال الصليبيين من جديد أرض الآباء والأجداد، وعلى رأسها قيام المملكة الصليبية الجديدة متمثلة بكيان صهيوني يدعمه حلف الأغراب والمتخاذلون من الأعراب.
كتاب صلاح الدين الأيوبي للمؤرخ الليبي الدكتور علي الصلابي كتبه بنَفَس المؤرخ المجاهد الفقيه المثقف، فهو لم يجعله كتابا يقص علينا حكايا التاريخ والماضي ويذكر الحوادث والخطوب والمعاهدات والحروب، بل جعله دراسة تاريخية وثقافية، مستلخصا من كل حدث عبرا ودروسا، ونافحا القرّاء بالمواعظ والعبر، والأفكار والمناهج التي مضى عليها الأولون الذين أعادوا الحق لأهله، واتّبعوا أمر العلي القدير، فصدقوا الله وعده فصدقهم الله، وكان حقا على الله نصر المؤمنين. وقف الصلابي على أهم الأحداث في حياة صلاح الدين مدققا وموضحا وناقدا ومعللا كعلاقته مع الزنكيين وعلى رأسهم نور الدين، وحقيقة الخلاف والاختلاف بين الرجلين، ودوره في قيام دولة الأيوبيين بعد إنهاء حكم الفاطميين، وعن سياسته في مصر بعد دخولها مع عمه أسد الدين شيركوه.
يقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسة: الأول تقديم للحروب الصليبية والوقوف على أسبابها التي ابتدأت بدعوة البابا أوربان الثاني عام 1095م، وما لحقتها من حملة صليبية أولى انتهت باحتلال أراض كثيرة وإقامة مملكة بيت المقدس. بدأت بعدها مرحلة المناجزة والمقاومة التي اتخذت شكلا جديا ومؤثرا مع عماد الدين زنكي عام 1127م توّجها بفتح الرُّها عام 1144م، وعمل على توحيد البلاد تحت رايته فوحد الموصل والجزيرة الفراتية وحلب في دولته وبقي يجاهد الصليبيين ويوحد البلاد حتى اغتياله عام 1146م، ليخلفه ابنه نور الدين محمود وكان خير خلف لخير سلف. استمر نور الدين في جهاد الصليبيين وتوحيد البلاد حتى استطاع ضم دمشق، التي استعصت على والده ويتبعها بمصر، بعد أن أرسل قائده أسد الدين شيركوه ومساعده صلاح الدين الأيوبي في سني (1163-1169) فتمَّ ضّمُ مصر عام 1169م، وانطلقت بعدها مرحلة جديدة من الصراع الإسلامي – الصليبي. أما الفصل الثاني فهو عن الدولة الأيوبية حين خلف فيها صلاح الدين عمه شيركوه بعد وفاته في مصر، ولحقتها وفاة نور الدين محمود عام 1174م، ليؤسس صلاح الدين الدولة الأيوبية في (1174-1175) مع الاختلاف بين المؤرخين حول أي العامين هي البداية لدولة الأيوبيين. عمل صلاح الدين بكل جهد بعدها على الاستمرار في توحيد البلاد الإسلامية من الموصل والشام ومصر كما فعل سلفه نور الدين، لأجل هدف أسمى هو تحرير بيت المقدس وطرد الصليبيين. إن الفصل الثاني من الكتاب لهو عماد هذا الكتاب، إذ يقف فيه الصلابي على كل ما قام به صلاح الدين من جهود في إضعاف الفاطميين، ثم القضاء عليهم، من خلال عدة أعمال منها ما كان سياسيا كأخذ زمام السلطة وعزل المتعضد آخر الخلفاء الفاطميين وحبسه في بيته، ودينيا بوقف الخطبة للفاطميين وإعادتها للعباسيين والدعوة لهم والترضي على الصحابة، وعسكريا بعزل جميع من شك بولائهم للفاطميين كالسودان والأرمن، وتعليميا بإعادة تدريس المذهب الشافعي السني، وقضائيا بعزل القضاة الفاطميين وإبدالهم بقضاة من أهل السنة، لينهي بذلك حكما فاطميا استمر مئتين وتسعين سنة. يُلحق الفصل بكيفية تعامل صلاح الدين مع كل الحركات التي قام بها أتباع الفاطميين في مصر من أجل القضاء عليه، واستطاع إخمادها بالقوة والسياسة، ويشرع بعدها في مشروع إصلاحي نهضوي في مصر، وإعادتها إلى جادة الحق ونشر المذهب السني والقضاء على الترفض. دخلت مصر حينئذ عصرا شهد ازدهارا اقتصاديا ورزاعيا واجتماعيا وتعليميا ودينيا، إذ اهتمَّ صلاح الدين بالزراعة والصناعة وافتتاح المدارس الفقهية وإلغاء المكوس والاهتمام بالصناعة العسكرية، وتجهيز الجيش لمهمته الأسمى، إضافة لعمله على ضم بلاد الشام بعد أن أصاب الأسرة الزنكية التشتت وتم له الأمر في النهاية، وخلع عليه الخليفة العباسي المستضيء إمارة هذه البلاد. فبعد أن أضحى ملكا على بلاد الشام ومصر وأجزاءٍ من العراق في عام 1186م أصبحت المواجهة الكبيرة مع الصليبيين حتمية. هذا ما يتناوله الفصل الثالث، الأخير، من الكتاب، واشتمل على معركة حطين الخالدة والدور التخطيطي والإستراتيجي والسياسي والتعبوي والعسكري والإعلامي لصلاح الدين وأمرائه في جلب الصليبيين لمعركة مباشرة، بعد أن خرق رينولد شاتيون أمير الكرك الهدنة التي وُقِّعت بين الصليبيين وصلاح الدين ليستغل صلاح الدين هذه الفرصة وينتهزها في معركته الحاسمة التي انتهت بهزيمة نكراء وأسر لملك بيت المقدس لوزينان، وقتله لشاتيون بيديه. أبر صلاح الدين بقسمه نظرا لما ارتكبه هذا الصليبي المعروف بخبثه وجشعه ووحشيته وهمجيته، واستخفافه بالعهود ونقضه المواثيق، ومهاجمته قوافل المسلمين على الرغم من الهدنة، وإبحار أسطوله في البحر الأحمر لمهاجمة سفن المسلمين والحجاج ووصوله إلى موانئ مكة إذ كان يخطط لمهاجمة الكعبة ونبش قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، كل هذه الانتهاكات دفعت صلاح الدين أن يُقسم بقتله بيده إن مكنه الله منه، وكان له هذا بعد أسر شاتيون. توّجه صلاح الدين بعد معركة حطين إلى مملكة بيت المقدس ليحررها ويدخلها في السابع والعشرين من رجب سنة 583هـ، الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1187م. لحق فتح بيت المقدس قدوم الحملة الصليبية الثالثة، وأبرز ما فيها الصراع الثنائي ما بين صلاح الدين والملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، إذ كانت معاركهما سجالا، وشهدت هدنا توزعت على خمس مراحل انتهت بعقد صلح الرملة وفشل الحملة الصليبية الثالثة في تحقيق أهدافها. وكان لصلاح الدين بعد الله الفضل كله نظرا لسياسته الحكيمة لإدراة صراع سياسي وعسكري مع ريتشارد، الذي عُرف بدهائه وشجاعته، على الرغم من سقوط عكا بعد حصار استمر سنتين إلا أن مجمل الحملة الصليبية كان فاشلا نظرا لضئل النتائج قياسا بعظم التجهيزات واشتراك ثلاثة ملوك فيها. وفي عام 1193م، في ليلة السابع والعشرين من صفر سنة 589هـ، توفي صلاح الدين الأيوبي عن عمر يناهز السابعة والخمسين بعد أن مرض دام اثنتي عشرة ليلة، ويروي القاضي الفاضل أن الشيخ أبا جعفر كان يتلو القرآن لصلاح الدين فلما بلغ آية “لا إله إلا هو عليه توكلت” تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه لربه. لتطوى صفحة قائد عظيم كان له الفضل بعد الله في تحرير بيت المقدس وهزيمة الصليبيين والبدء في إجلائهم من أرض المسلمين.
ومن جميل مآثر هذا القائد العظيم وصيته لابنه الملك الظاهر: أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل خير وآمرك بما أمرك الله به، فإنه سبب نجاتك وأحذرك الدماء والدخول فيها والتقلد لها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم، فأنت أمين وأمين الناس عليهم وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء، وأرباب الدولة والأكابر، فما بلغت إلا بمداراة الناس ولا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يُغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه، فإنه كريم.
وقرّب إليه العلماء والقضاة وكان القاضي الفاضل صديقه ورفيقه يقول عنه: لا تظنوا أني فتحت الأرض بالسيوف إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل.
لم يترك في خزانته بعد موته سوى دينارا واحدا وسبعا وأربعين درهما، وقيل ستا وثلاثين درهما، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا أي شيء من الأملاك. وكتب العماد الأصفهاني في رثاء صلاح الدين قصيدة طويلة استهلها:
شَمْلُ الهدى والمُلْكِ عمَّ شتاته *** والدهر ساء وأقلعت حسناته
أين الذي مذ لم يزل مخشيّة *** مرجـــوّة هبّـــاته وهبــاته
أين الذي كانت له طاعاتنا *** مبذولةٌ ولربِّــــه طاعـــاته
بالله أين الناصر الملك الذي *** لله خالصة له نيَّــــاته
فرحم الله الناصر لدينه يوسف بن أيوب صلاح الدين الأيوبي وغفر له زلّاته وتجاوز عن سيئاته، وحشره وحشرنا في زمرة النبيين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.
1- عمل الفاطميون على تثبيت حكم دولتهم بنشر الترفض ومحاربة عقيدة أهل السنة، بل إنّ بعض حكامهم تخاذل في محاربة الصليبيين إذ ظنوا أنهم سيخلصونهم من أعدائهم السلاجقة، حتى وصلت بهم الحال، مثلما فعل الوزير شاور، إلى مراسلة الملك الصليبي عموري الأول، ملك بيت المقدس، وبذل له المال والوعود وتحالف معه ضد الزنكيين وقاتلهم كما حدث في معركة البابين.