
رواية في أدب الديستوبيا، مدن الفوضى والدمار والخراب، حين يبدو العالم بعيدا كل البعد عن قوانينه التي نعرفها، في الأقل حتى هذه اللحظة التي نحن أسرى قواعدها الصارمة تارة وشهودا على مسرح تخبطها وعشوائية تطبيقها تارة أخرى. تأخذنا هذه الرواية لبعدٍ آخر في دنيا الجنون والتطور إن جاز لنا القول، التطور المنفلت والذي لا تحده آمال أو أهداف، وأسوأ ما فيه أن يكون الإنسان هو المختبَر والمختبِر، أن يكون الضحية والجلاد، حين يتيه عليه اكتشاف موقعه من هذا التسارع الذي يقذف به إلى وجودٍ مملوء بمخاوفه التي تركها تهرب وتسيطر على كل الواقع الذي يعيشه. يفتقر أدبنا العربي إلى روايات الديستوبيا بوضوح، ويكاد المؤثر فيها والمشهور لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أذكر منهن روايتيّ الراحل أحمد خالد توفيق (في ممر الفئران ويوتوبيا) وروايتيّ عبد العزيز شكري (باب الخروج: رسالة علي المفعمة ببهجة غير متوقعة وأسفار الفراعين). تأتي هذه الرواية لتكون إضافة لا بدَّ منها، تُثري المكتبة العربية، ولمَ لا المكتبة العالمية، فهذا العالم في شبق دائم لعمل أدبي جديد يحمل بين صفحاته كل الجدة والإثارة والتميّز.
في زمان ومكان غير محددين، تدور أحداث رواية حرب الكلب الثانية، مع راشد الذي ربما في كثير من الأحيان يمثل شخصا منا ولو في أمر دون آخر وإن كان حينا من الزمن أو خلال حدث دون غيره، يُقرر أن يُغير اتجاه دفة سفينته وأن يكون شخصا منهم وجزءا من نظامهم، من هم؟ الآخر الذي يُدير شؤون حياة الآخرين. إن الانقلاب على الذات والمبادئ، هي الخطوة الأجرؤ وبعد أن يخطوها الإنسان يعلم أن لا مجال بعد للعودة إلى الخلف، ولا فرصة لإعادة الاختيار. ما الذي يدفع راشد أن يبدل كل مواقفه، وأن يُصبح منهم وجزءا من منظومتهم؟ يُجيب عليه راشد أو هكذا يوهم الكاتب قرّاءه، فهذه المعادلة تبقى صعبة الشرح والإيضاح. والجواب يبقى مهما تعددت الشروح حبيسا لراشد والكاتب، ولكل منا إجابته الخاصة، وفهمه للأمر وإدارته للصورة التي يراها تُلائم هذه المرحلة دون سواها، خاصة في عالم الديستوبيا حيث اللا أخلاقي هو الذي يُدير كل شيء. يبدأ الأمر مع راشد المغرم بجمال زوجته، ويبحث عن امرأة أو نسخة أخرى تحمل جمالها، ليجد الحل في ألـهناك حيث يُطور العلم آلة تعمل على نسخ وجوه من نحب في أجساد أخرى ترضى أن تلعب دور المسخ، أو الشبيه. وفي غمرة نجاحه، يبدأ راشد في لقاء شبيه له، ليتحول الأمر بعد ذلك إلى صداع يؤرقه، ويبحث عن طريقة للخلاص من هذا الشبيه. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد فظاهرة الشبيه له ولآخرين غيره تطفح إلى السطح وتكبر المشكلة، لتكون أزمة لافتعال حرب جديدة وبدايتها. الحرب التي تبدو كأنها حدث عابر تعود الناس عليه، ولا يلقون له أي تحفظ أو ردة فعل خاصة، وهنا تعريض واضح عمن يقصد الكاتب، هؤلاء الذين تعودوا على الحرب والموت والفوضى، وربما هي سمة الإنسان الجديد، الإنسان الذي اختلط أو نسى معنى العيش بسلام واستقرار. في المستقبل القادم الذي إن حالفنا الحظ ولم نعش في ظلاله فمن المستبعد أن ينجو اللاحقون منه.
يستخدم نصر الله ألقاب رمزية مثل الضابط أو هناك أو حضرته، ليضفي دلالة على أهمية هؤلاء ومناصبهم في هذا العالم المختلف. وهذا الفعل الذي يستخدمه الكثيرون ليصبغوه صبغة من السرية والمكانة لمن يخشون منهم، الرواية هي عالمنا العربي في كثير من أحداثها ورمزياتها وشخوصها، عالمنا المملوء بالفوضى والدمار والتخريب والموت والحرب، وأنظمة الموت العبثي. ومن صفات الإنسان الجديد هي الشهوانية والجنسانية التي أدت في آخر المطاف براشد إلى أن ينال جزاء شهوته المفرطة والمتحكمة في كثير من أفعاله، ولا تقتصر هذه الصفة على راشد دون الآخرين، فهم كذلك مصابون بهذا الداء الذي لم يبرز في الرواية بجلاء أكثر من كونه حالة عامة مرتبطة بانبهار الناس بجمال السكرتيرة، والذي اتضح فيما بعد أسباب هذا الانجذاب المفرط فيه. تأخذ الرواية نمطا تصاعديا وإن بدت بعض أحداثها مطولة أو فاقدة للروح أكثر من كونها ضرورة ووجدت لملء الصفحات، أحداث ثانوية وحوارات مملة متكلفة تدور بين الشخصيات، كأنها صراع لتحديد من الفائز في هذا النقاش ومن تكون له الجولة في الأخير. فكرة الرواية ليست جديدة أو إبداعية من قبل الكاتب، فلها فكرة مشابهة في فلم The Isalnd، الصادر سنة 2005، وحبكة قصته عن مصنع لصنع بشر لهم شكل ووجه نسخهم الأصلية من أجل الاستفادة من أعضائهم في معالجة وإطالة أعمار النسخ الأصلية، لكن ما يحسب للكاتب هو إعادة تشكيل الفكرة وتجديدها في رواية، وإدراجها في أدب الديستوبيا، وبناء قصة جديدة لها أرتباط بواقع الحياة التي نعيشها، كما كان الأمر مع رواية فرانكشتاين في بغداد، والتي لم تكن فكرة إبداعية، لكن قدرة الكاتب على إعادة تشكيلها وربطها بالواقع العراقي، وتطوير شخصية فرانكشتاين السبب في نيلها جائزة البوكر العربية. تبقى الرواية بفكرتها ومضمونها الأدبي والإنساني عملا مميزا ومبتكرا يُضاف إلى المكتبة العربية، لكن السؤال الذي أفكر فيه هل تستحق الرواية هذه نيل البوكر لهذه السنة؟ أرى أن مع كل جماليتها والإبداع الأدبي في الرواية أنها لا تستحق، والسبب أن الفكرة ليست إبداعية خالصة للكاتب، فما دام أن هذه الفكرة ظهرت في عمل سابق بل أنتجت في فلم سينمائي، فقد فقدت عنصرا مهما يجعلها الأفضل دون منازع. والأمر الآخر هو ألا يفتح الباب أمام تجميد الإبداع الفكري، وأن لا يستغل أحد في حالة فوز هذه الرواية أيضا تجديد أفكار الآخرين، فيتركز الإبداع على التجديد لا الابتكار.