دور القصة في ألف ليلة وليلة والديكاميرون
كانت القصة والقص وسيلةً ومنهجًا في عملين أدبيين مهمين في النثر الأدبي العالمي، وهما ألف ليلة وليلة العربية المشرقية والديكاميرون الإيطالية الغربيّة. لا يُبعدنا الاختلاف بين غرض استخدام هذه الوسيلة القصصية والمنهاج المُتَّبع عن حقيقة الإيمان بدور القصة في حياة الإنسان وكيف أنها يُمكن أن تؤدي دورًا منوطًا بها أكثر مما يُمكن أن نتخيل. تواجه القصص الموت في ألف ليلة وليلة، وتكون الدرعَ الوحيد للذود عن شهرزاد وشخصياتها قبل أن تتحول إلى سلاح هجوم فتَّاك حمل في طيَّات ضرباته علاجًا لشهريار الملكُ الموتور والمجنون بشهوة الدم الأنثوي. لكن بعيدًا عن قصة شهريار وشهرزاد بذاتها وقصص شخصيات شهرزاد التي تسعى خلف النجاة وتأخير الأجل إلى أبعد وقت ممكن فإننا نقف قُبالة جوهر الكتاب وكثير من قصصه المتمثل في “القصص في مواجهة الموت”. ترتقي بنا هذه الفكرة إلى بُعدٍ عالٍ وتأخذنا إلى تخوم بعيدة نحلُّق مسافرين لا نرى شيئًا سوى التدافع والصراع القائم ما بين نزول الموت المحتَّم الذي لا فرار منه الملاحقِ للشخصيات وفي مقدمتهم شهرزاد وبين دفع هذا الموت وتأخيره أو حتى تأجيله إلى أجل غير معلوم، لتستحوذ هذه القصة على أساس هذا الكتاب، وبغض النظر عما يحتويه الكتاب من قصص وأخبار وحوادث مختلفة وأقدار عسيرة يواجهها أصحابها لكن تبقى القصة هي المنفذ التي يسعى من خلال صاحب القصة أو القاص أن ينقذ نفسه وينجو.
إنَّ القصص هنا ليست محض منفذ وحصن أخير يلجأ إليه الإنسان بل هي كذلك إعلاء لقيمة المجهول الذي يُمكن أن يُكشف وقيمته في نفوس من يريدون معرفته أو مستعدين لمعرفته، فهي مواجهة ما بين العلم والجهل. يأخذ العلم ثوب القصة وتلبَّس الموت قبله الجهل، ولزامًا على العلم والجهل أن يتمثلا في شيء محدد فتمثل العلم بالقصة الغربية والخبر العجيب والحدث غير الطبيعي (أو فوق الطبيعي) وتمثَّل الجهل بشيء واحدٍ فحسب وهو الموت، أما أداتهما فهو الإنسان بما أنه المخلوق الذي كان ينتظر الموت في معظم القصص فكان الإنسان هو المحور الذي يتنازعه الموت والحياة والعلم والجهل. حدَّدَ معيار غرابة الخبر وجودته في أحيان أخرى استحقاق صاحبه النجاة من الموت، ويبدو الموت في أحيان ثانية مجرد تهديد أو مُحفِّز للاتيان بقصص مثيرة وعجيبة لم يسمعها صاحبُ الموت. تتوسع المسألة إذًا من دفع الموت النازل على أصحابه بالقصص وتحوله إلى أداة مُستخدمة تجبر المقضي عليه أن يأتي بجديد يُشنِّف فيه أذن المستمع أو يثير أحاسيسه بهذه العجائب وصنائع الدهر في بني الإنسان. إنَّ القصص لا تواجه الموت فقط بل تواجه رغبة إدهاش الإنسان وإمتاعه وتسليته في أوقات ملله، وهنا تتضح معالم مختلفة في قيمة القصة فهي تقف في صراع مباشر مع الموت والجهل والإدهاش والإمتاع والتسلية- تقف في مواجهة الإنسان نفسه وكل ما فيه من رغبات وتناقضات وفضائل ورذائل وحسنات وسيئات، تقف القصة وحيدة أمام كل هذا لا تملك شيئًا سوى الكلمات المنطوقة (أو المكتوبة في مكان آخر) لتؤدي غرضًا محددًا لا تعود فائدته على فرد واحد بل تعود على الجميع الرواي والمروي له. فهي تجمع في الوقت الذي يبدو أنها بفشلها ستفرِّق وتُنقذ حين يكون الهلاك في انتظار صاحبها.
لذا فإن رغم تعدد مواضيع ألف ليلة وليلة تبقى مواجهة الموت ودفعه بالقصص هي المستند الرئيس والقاعدة الأساسية التي تنطلق منها كل الأحداث فبدونها لن يحصل أيَّ تطور وتقدُّم فإذا ما نجحت القصة في الإدهاش والإمتاع وإثارة النفوس فقد كُتب لصاحبها عُمر جديد وأُزيحَ عنه ظلُّ كاهل الموت الذي ينتظر أن يجثو عليه، وتبدأ بعدها مغامرة أخرى وقصة أخرى وإنسان آخر ينجو عن طريق القص والقصص من موت يلاحقه أو قدر بمصيبة يطلبه.
في خضمِّ هذا التدافع ما بين الموت والحياة لا تغفل شهرزاد عن حقيقة أنها تواجه شخصًا مريضًا فالقصة قد تُنجيها هي وحدها، لكنها لم تكُ تطمح أن تنقذ نفسها دون أن تنقذ الآخر المستمع، أن تنقذ شهريار معها، لتكتمل ثمار القصة ويجني الطرفان فائدة القصة. لذا فقد كان القص علاجًا أيضًا لدى شهرزاد.
أما بوكاشيو فقد أراد قصصه في غاية أخرى متمثلةً في تعزية قارئاته اللائي لا يجدن متنفسًا خلا القراءة، ولأنه اختارَ حدثًا متمثِّلًا بالطاعون الذي يضرب مدينة فلورنسا فلا بد أن تكون قصصه وسيلة لإبداع هدف يتجلَّى في كونها واجهة للحياة. يهرب الشبَّان والفتيات العشرة بعيدًا عن الموت طالبين الحياة والنجاة والتسرية عن النفس في الريف في منأى عن الطاعون، ولا يجدون متعة رئيسة يتفقون عليها سوى قضاء الوقت بما يُذكِّرهم بذواتهم وطبيعتها البشرية وسماتها وخصائصها ونوازعها ورغباتها وخيرها وشرها وصلاحها وفسادها، أن يُذكِّرهم من هم حقًا في هذه الحياة. تجلَّى ذلك في موافقتهم على مقترح رواية القصص متبادلين بها خبراتِ الحياة وتجاربها وأفراحها وأتراحها، وما مواضيع قصصهم إلا تأكيدًا على استمرارية الحياة في مواجهة الموت أو الابتعاد عنه جسديًا وعقليًا برواية أخبار الناس في أحوال مختلفة عبر الزمان. إنَّ الحكي جزء من الطبيعة البشرية ووسيلة التواصل فيما بينهم ولا يمكن الاستغناء عنه بأي شكل من الأشكال لا سيما وأنه مرتبط باللغة، وهي أداة التواصل البشرية التي تجمع وتفرِّق وتقرِّب وتُبعد، ولا يمكن لأي جماعة أن تكون جماعة واحدة دون لغة مشتركة توحِّدها، فإذا ما تحققت الوحدة فيما بينها أضحت القصة أداة جديدة بفضل اللغة في مد الأواصر وتوثيق الروابط بينهم. نرى ذلك جليًا في شبَّان بوكاشيو وفتياته الذين لجأوا إلى رواية قصص لا غنى لهم عنها ولا بدٌّ لهم منها، فشكَّلتْ صورةَ الحياة التي بعثرها الموت الأسود، وأعادت الألوان الزاهية إلى عالمٍ خفتت أنواره، وأحيت الآمال لقادم الأيام عبر القصص، فهم لا يروونها لتمضية الوقت بل لإحياء ما مات وإبقاء الكائن فيهم حيًّا فالإنسان في آخر المطاف يحيا ويتقوَّى بالأمل، وإذا ما قنُطَ ويئسَ تبددت رغبة الحياة من داخله ومات قبل أجله، وهذا ما لم يرغب به الأبطال العشرة لأن الجذوة في داخلهم مشتعلة وزادوها بالتصبُّر والتذكُّر والقصص. تبرزُ لنا قيمة القصة هنا واجهة للحياة فهم لا يهربون من عدو بشري، كما كانت شهرزاد وشخصياتها يفرُّون من الموت بالقصص، بل يهربون من عدو لا يُقهر وما يُشيعه من رعب وخوف كفيل بأن يُطفئ جذوة الحياة في النفوس، فانتصبت القصة درعًا في وجهه وحفظت الواقفين خلفها من الاستسلام للموت الجائح بأخبار الحياة بكل تفاصيلها الغريبة والمآلوفة، المعتادة والنادرة، المُبهجة والمُكدرة، الخيِّرة والشريرة، المُفرحة والمُحزنة، ومُشيرة إلى بصيص الأمل الذي يبعثُ في النفوس المقاومة والاستمرارية ويدعوهم إلى مواصلة الكفاح في هذه الحياة دون الخضوع والانكسار والتوقف عن مزاولة العيش تحت وطأة تقلبات الزمان. لا تختلف غاية بوكاشيو في تدوينه قصصه عن غاية شخصياته في روايتها، فهو يكتب ليواسي ويروِّح عن قارئاته اللائي لا يجدن مهربًا من لواعج النفس ورغباتها مع ضيق الحال وعجز المقدرة وهم يروون ليتصبَّروا ويتذكَّروا دون الوقوع في شَرَك القنوط والهزيمة وانطفاء مشعلِ الأمل الذي يُنير لهم الدرب. وكلا الفريقين راغبٌ بمدِّ يد المعونة لنفسه أو للآخر ليواصل ويتجاوز الحواجز ويتغلب على العقبات عبر القصة وبفضلها، فهي تنقل الإنسان من ضيق الواقع إلى سعة الخيال ومن مرارة الحياة المعاشة إلى حلاوة الحياة القادمة. لكنها لا تُخدِّر ولا تربت على كتفٍ منهار ليبقى في موضعه لأن وظيفتها تكمن في المحافظة على الذات حيّة بإسماعها ما يُنسيها واقعها وتستنهضُها لتغييره إلى الأفضل أو في الأقل ألا تنكسر حين تجتاحها أهوالها ومصائبها ومصاعبها.