التراث الآيسلنديالتراث الأدبي

سيرة الملك غوتريك Saga of King Gautrek

سيرة الملك غوتريك واحدة من الحكايات الشهيرة في التراث الآيسلندي، ومن أكثرها تداولا إذ وجد لها نحو خمس وخمسين مخطوطة يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، ويرجع تاريخ أقدم مخطوطة إلى سنة 1400 لكن بقي منها صفحة واحدة. تنقسم السيرة إلى ثلاث حكايات منفصلة ليس بينها رابط يجمعها عدا تكرر ظهور شخصية الملك غوتريك ابن الملك غوتري في حكايتين، لكنه ظهور لا يجعل الحكايتين نصا مترابطا. تبرز الحكاية الأولى وهي البخلاء الأغبياء، لا سيما أن شخصياتها غريبة وفريدة في الحكايات الآيسلنديّة إذ تعيش أسرة سكافنورتنغ في غابة بمعزلٍ عن سائر الناس، وتتكون من الأب والأم وستة أبناء، ثلاثة إخوة وثلاث أخوات، مع عبدٍ. يخرج الملك غوتري للطرد في الغابة ويلاحق طريدته حتى يصل من غير قصدٍ إلى منزل العائلة ويرغمهم على استضافته وإطعامه والمبيت عندهم تلك الليلة. يسيء الأب ذلك لشدة بخله، ولغرابة أن يزوره ملك بحاله السيئة تلك، ويقرر الانتحار من جرف العائلة، حيث كانوا يقفزون للموت، برفقة زوجته والعبد. في الصباح قسّم الأب الإرث ما بين أبنائه، فمنح لكل زوجين، أخ وأخت، نصيبا من الإرث. وذهب إلى الانتحار وفي ظّنه أنّهم سيلتحقون بعد الموت بأودين في فالهالا. تتجلّى السخرية ها هنا، إذ البخل الشديد للأب وأسرته جعله يرى في إطعام غريب واحدٍ سببا مفضيا إلى الخسارة والهلاك، ويتحتم عليه أن يموت اليوم قبل أن يداهمه الموت من الفاقة غدًا، وفي اعتقاده أنّه إذا انتحر من جرف العائلة سيلتحقون بأودين في قصر الصرعى، وهذا ما لا يكون لأن قصر أودين هو قصر الأبطال، ولا يدخله إلا المحاربون المختارون الذين قُتلوا في الميدان، ويختارهم أودين بأن يرسل محارباته الفالكيريات لرفعهم إلى قصره حيث يقضون أيامهم في الأكل والشراب والعراك حتى تأتي معركة نهاية العالم راغناروك. يغيب عن سكافنورتنغ ذلك، فضلا عن أن زوجته لن تدخل فالهالا لأنها مخصوصة بالرجال، أو أنّه لفساد عقله وغبائه يعتقد أنّ انتحاره سيوصله إلى أودين. غير أن غرابة هذه العائلة لا تنتهي في هذا الانتحار بل حين وزّع الإرث على أبنائه فخصّ لكل أخ وأخت بقسم من الإرث، وعاش كلُّ اثنين في مكان يرعيان حصّتهما من الإرث. وهذا التخصيص يوحي بسفاح قربى، وهذا ما تؤكده صيغة قديمة من الحكاية بأن الأب يوصي أن يتزوّج كل أخٍ أخته من أجل المحافظة على إرث العائلة وممتلكاتها، أما في الصيغة الأشهر من الحكاية فلا يطلب منهم ذلك لكنهم يلبسون ثيابا تستر كلّ أجسادهم ولا يلمس أحدهم جلد الآخر حتى يضمنوا ألا يزيد عددهم. فبحسبهم أن لمس جلد الآخر كفيل بحمل الأخت من أخيها، وينطوي الأمر على غباءٍ أو جهلٍ تامٍ بكيفية الحمل والولادة وأسبابها، وكذلك على سفاح قربى متأصل في العائلة قد يكون هو السبب في التخلّف العقلي الملازم للأبناء. نام الملك غوتري ليلته تلك مع الاب سنوترا وحبلت منه، ولما كبرت بطنها أرادت جعلَ أخيها غيلنغ يظن أنه هو سبب الحمل فكشفت عن جزء من جسدها وتناومت عند أخيها النائم، فلما استيقظ وتمطط مدّ يده ولمس وجهها عن غير قصد. ندم غيلنغ على فعلته تلك وظنّ أنه وقع في المحظور بأن جعل أخته تحبل منه وتزيد من عدد أفراد العائلة وما سيجرّه ذلك من فاقة. انتحر الإخوة الثلاثة واختان لأسباب مختلفة متعلّقة بالبخل والغباء قفزا من جرف العائلة، وبقيت سنوترا، العاقلة الوحيدة، وأخذت ابنها غوتريك إلى أبيه وصار الملكَ من بعده. 

كانت الحكاية الثانية، حكاية فيكار وستاركاد، ذات بنية تقليّدية عن الصراع بين الملوك والثأر وغزوات الفايكنغ، لكن يحضر فيها موضوع الانتحار مرّة أخرى وإنْ أخذ طابعا أسطوريًا وخادعًا في الآن نفسه. إذ ينطلق الملك فيكار ومستشاره ستاركاد في سفرٍ في البحر وضربت السفينة عاصفة هوجاء منعت مضيّهم إلى وجهتهم، وحين استخاروا بالنذور تبيّن لهم أنّ أودين يريد رجلا من الجمع ليشنق حتى تهبّ لهم رياح رخيّة تأخذهم إلى وجهتهم. اقترع الرجال على مَن يجب أن يشنق ووقع الاختيار على الملك فيكار، وعزموا على عقد اجتماع لاتخاذ القرار. ارتأى مجلس الاجتماع إقامة طقس انتحار تمثيليّ لكن اتّفقَ ستاركاد وغراني على خداع الملك فيكار وجعله ينتحر حقًا، فنُصبت المشنقة وصعد الملك فيكار على جذع مقطوع ووُضعَ في رقبته حبل مشنقة من أمعاء مربوطة بغصن متدلٍ من أعلى شجرة، حسب فيكار أنّ طقس الانتحار غير مؤذٍ لكنّها آمال واهنة، إذ ارتفع الغصن ساحبًا معه فيكار وطعنه ستاركاد برمحٍ مقدّما الملك قربانا لأودين. يظهر في حكاية طقس القربان البشري، وهو طقس غير موثوق من وقوعه في إسكندنافيا، وظهر غيرة مرة في الحكايات الآيسلنديّة كما في سيرة الملك هيدرك الحكيم لكن لم يُحقق تقديم ابن هديرك قربانا لتنكشف المجاعة عن مملكة ريدغوتلاند، واتُّخذ المسار الثاني في حرب هيدرك وحميه هارالد. لم يقتصر طقس الانتحار على فعل الانتحار نفسه إذ إن كيفية الانتحار تشبه انتحار أودين حين قدّم نفسه قربانا لنفسه، وانتحر مشنوقا على شجرة يغدراسيل تسع ليالٍ كاملة والرمح مغروز في خاصرته، من أجل الحصول على الأسرار Runes وهي الرموز (الحروف الجرمانيّة البدائيّة) التي فيها مجمع الحكمة والمعرفة والتعاويذ، ثم وهبها أودين للإنسان. يقول أودين في قصيدة أقوال العلي Hovamol، إحدى قصائد إيدا الشعري: 

أعلمُ أني عُلِّقتُ على الشجرة المعصوفة

مشنوقا هناك تسع ليالٍ كاملاتٍ 

مجروحًا بالرمح كُنتُ وضُحّيَ بي- 

إلى أودين، واهبًا نفسي لنفسي

على الشجرة التي لا يُعلمُ أبدًا 

ماذا يقبعُ تحت جذرها 

ارتبط الموت والانتحار شنقا بأودين وصار من أسمائه أبو المشنوقين، وانتحار فيكار صورة عن هذا المعتقد الذي اعتنقه الإسكندنافيّون والجرمانيون والطقوس التي مارسوها من أجل كشف الغمة وزوال المصائب عنهم وتحقيق مرادهم. 

أما حكاية اليارل نيري وهدايا ريف فهي حكاية ذات طابع هزليّ في جوهرها إذ كان ريف كسولا ساذجا أرغمه أبوه على الخروج إلى العالم ومجابهة الحياة فأخذ ثور أبيه المفضّل، وأغلى ما يملكه، وقصد اليارل نيري وأهداه الثور. كان نيري بخيلا جدا، البخل مرة أخرى في السيرة، ولا يقبل هديّة من أحد حتى لا يضطر إلى أن يهدي هدية في المقابل، وحكيما أيضا لا تخيب مشورته، لكن ريف أعلمه أنه لا يريد منه شيئًا بل أن يقبل منه الثور لا غير. لم يرغب نيري ألا يهدي ريف شيئًا فأهداه حجرَ شحذٍ ونصحه أن ينطلق إلى الملك غوتريك، الرابض عند ضريح زوجته وكان يرمي ما تناله يداه على بازيّه عند الغروب، وأن يجلس وراء كرسيّه وحين يمدّه الملكُ يده لتناول حجارة أن يعطيه حجرَ الشحذ. امتثل ريف لنصيحة اليارل نيري، وقصد الملك غوتريك فأهداه الملك خاتمًا ذهبًا مقابل الحجر، ثم رجع إلى نيري فأرسله إلى ملكٍ آخر، وهكذا تتكرر المسألة غير مرةٍ مع ملوك آخرين لتنتهي بزواجٍ ريف بابنة الملك غوتريك وينالَ حظوة عظيمة ويعيش حياة سعيدة. لا نُخطئ الحسّ الساخر والهزلي في الحكاية وتتابع تبادل الهدايا مع الملوك على نحوٍ ناجحٍ دائما يثمر عن نهاية سعيدة. وهو لا يفرق في بنيته عن حكاية الشيخ وجرّة السَّمن والعسل التراثية وكيف أنّه صار يحلمُ ببيعها ثم الربح ثم تكبر تجارته حتى يصير ثريًا لكنه يكسرها وهو غارق في أحلامه، أو كما فعلَ رابليه في كتاب غارغانتوا حين عرض أطماع بيكروتشول قبل أن يخوض معركته ضد غاراغانتوا، إذ أبصر نفسه بعد أن ينتصر يتسيّد البلاد ويفتحها حتى يصير أعظم ملكٍ في الدنيا لكنه يهزم ويخيب مسعاه. غير أن ما يميّز حكاية ريف أنّه لم يكن يحلم بما لم يقع في المستقبل كأنه واقعٌ سيعيشه بل تلعب بلاهته وامتثاله التام لمشورة نيري حاجزًا يمنع عنه الخطأ في الوقوع في المحظور بأن يحسب نفسه قد بلغ ما يريد قبل الوصول حقًا. تأخذه الهدية من ملكٍ إلى آخر حتى استطاع أن يقود جيشًا يخضع فيه الملك غوتريك لشروطه ويزوّجه ابنته. يبدأ من حجرٍ يمنحه للملك غوتريك لينتهي إلى الزواج بهيلغا وجعله في منصب اليارل. 

* اليارل منصب في ممالك إسكندنافيا يمنحه الملك لمن يريد، ويحكم اليارل أراضي ومقاطعات خارج المملكة يهبها له الملك. ومنصب اليارل يأتي بعد منصب الملك في الأهمية والقرار وقيادة الجيوش وتحشيد المقاتلين، وكان لبعض اليارلات في النرويج دورا بارزا في حكم البلاد والتحالفات والتآمر على الملوك وأحيانا يفوقون الملك نفسه في الأهمية. ويفرق منصب اليارل عن منصب الإيرل في كون الثاني دونه في الأهمية ويكون ضمن حدود المملكة لا خارجها. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى