التراث الآيسلنديالتراث الأدبي

كتاب إيدا الشعري Poetic Edda

يشغل كتاب إيدا الشعري مقاما رفيعا في الأدب الآيسلندي التراثي، ولقصائده الدور الأبرز في حفظ الأساطير الإسكندنافيّة وقصص الأبطال الأسطوريين، فضلا عن حفظها أوزان الشعر وفنه. ثم رسّخ المؤرخ والأديب سنوري ستورلوسن (1179-1241) في كتابه إيدا النثري أهمية هذا الكتاب باقتباسه الكثير من قصائده في روايته أساطير الأقوام الإسكندنافية الوثنيّة وحكاياتهم وأخبار عالم الآلهة. يتألف كتاب إيدا الشعري من خمس وثلاثين قصيدة (تسع وعشرون قصيدة من جزء واحد، وخبران مكتوبان نثرا)، نصفها عن الآلهة لا سيما أودين وثور ولوكي، ونصفها عن الأبطال لا سيما سيغورد وغدرون وبرنهيلد وغونار وهوغني وأتلي. فمتى بدأت حكاية هذه القصائد؟ استوطنت القبائل الجرمانية والإسكندنافية شمالَ أوروبا، واشتهرت منذ مطلع الألفية الأولى سلالات تاريخية وشبه تاريخية وأسطورية حكمت وتحاربت في الدنمرك والنرويج والسويد، وكان لها غزوات عابرة البحر فحملت بفضل ذلك لقب الفايكنغ (أقرب معنى هو القرصان أو البحّار الغازي) وسميت الحقبة ما بين سني 800-1050 بعصر الفايكنغ. تحدثت القبائل في إسكندنافيا النورديّة البدائية ومرت بمراحل تطوريّة حتى الوصول إلى النوردية القديمة، وكتبت بالأبجدية الإسكندنافية Futhark (الأحرف الستة الأولى من الأبجدية الإسكندنافية)، إحدى فروع الأبجدية الجرمانية Runic Alphabet (وRune بمعنى سرّ واستخدمت هذه الأبجدية في التعاويذ والرقى. ووفقا للأساطير فهي هبة أودين للإنسان كما تنص قصيدة أقوال العلي Hovamol، إحدى قصائد  إيدا) التي كتبت بها كل اللغات الجرمانية القديمة. عثر على نقوش صخرية كُتب عليها بالأبجدية الإسكندنافية منها قول أحدهم على صخرة “وفاة الأم أقسى ما يعانيه الابن”1. بيد أن هذه الأبجدية لم تستخدم في تدوين الأدب وبقي الإسكندنافيون يتناقلون الشعر والحكايات شفويًا. وباتساع البقعة الجغرافية وهجرات القبائل في إسكندنافيا انقسمت اللغة النورديّة القديمة -كما أمكن اللغويون المعاصرون التمييز بينهما ابتداء من القرن الحادي عشر- إلى النوردية الشرقيّة، لغة الدنمرك والسويد، والنورديّة الغربيّة، لغة النرويج وامتداداتها في آيسلندا وغرينلاند وأيرلندا وجزر بريطانيا الغربيّة. دامت الحال في إسكندنافيا على ما هي عليه من صراعات واقتتال داخلي بين القبائل وحكم زعماء متقلّب، وقامت ممالك في بعض مناطق السويد والدنمرك، واستطاع هارالد الأشقر السيطرة على النرويج إثر معركة هفارسفيورد سنة 872 بدد إثرها شمل النبلاء النرويجيّين، وصار أول ملوك النرويج. ووفقا للحكايات الأسطوريّة وشبه التاريخية فهو من سلالة راغنار من زوجته آسلاوغ ابنة سيغورد قاتل التنين، ويرجع نسبه الأعلى إلى أودين، الإله الإسكندنافي الأسطوري، الذي كان إنسانا أسس ملكه في إسكندنافيا ووهبه لأبنائه، وفق رواية سنوري ستورلوسن. أنسل هارالد الأشقر أبناء  كثرا، وخلفه في المُلك ابناه إيريك فأس الدم (لقبه Bloodaxe) وهاكون الأول (هاكون الطيب). تسبب انتصار هارالد بهجرة الكثير من قبائل النرويج إلى خارج إسكندنافيا فعبرَ بعضهم إلى أيرلندا حيث ابتنت من قبل القبائل النرويجية مدينة دبلن، وبعضهم إلى شمال فرنسا، حيث أسسوا منطقة النورماندي، وبعضهم إلى جزيرة آيسلندا. كانت بداية استيطان القبائل ذات الأصول النرويجية جزيرة آيسلندا ما بين 870-930 فبنوا المستوطنات وأسسوا حضارة، وتنصروا رسميا في اجتماع المجلس التشريعي Althing سنة 1000، وتبنّوا الأبجدية الرومانيّة (اللاتينية)، ولم يعرفوا حكم الملوك بل حكمتهم العوائل، واتخذوا قوانين النرويج مُحتكمين إلى مجلس حُكم تشريعي، أشبه ما يكون النظام البرلماني في عصرنا. ازدهر في آيسلندا الأدب الشفوي ما بين سني 875-1100، وبعد سنة 1100 ظهر الأدب المكتوب على أيدي كتّاب جمعوا المرويات الشفوية لأسلافهم، وكتبوها ناقليها من طورها الشفوي إلى الكتابي، فبرزت السير الملحميّة النثرية التي عُرفت باسم Saga -الخلاف قائم عن أصول السير الملحمية ومنابعها- وكُتبت عن حيوات الملوك والقادة والأساقفة والمستوطنين الأوائل. حلّ بعدها عصر ازدهار الكتابة منذ 1150 حتى 1250، فكتب في الأدب وتاريخ آيسلندا والمستوطنات والدين والأساطير، ثم بدأت تضعف بعد أن فقدت آيسلندا استقلالها وصارت تابعة إلى مملكة النرويج في عهد الملك هاكون الرابع (ت: 1263)2. لكن بقي الأدب محتفظا بمقامه ونشاطه في القرنين التاليين فأبدعت أنواعا جديدة مثل الشعر القصصي Rimur (أي القوافي ويمكن القول إنه الشعر المقفّى)، بعد انحسار السير الملحمية في آخر القرن الرابع عشر، وساد في القرون الخمسة اللاحقة، وكثيرا ما اعتمد فيه الشعراء على إعادة رواية السير الملحمية في قصائدهم. 

كان اهتمام الآيسلنديين في تدوين أساطيرهم وحكايات أسلافهم وسير ملوكهم وقادتهم وتاريخهم بارزا ولا غنى عنه إذ حفظ إرث الأقوام الإسكندنافيّة، وتفرّدوا بأدبٍ ميّزهم عن بقية أوروبا. يقول أودونغي في كتابه Old Norse-Icelandic Literature “لم ينحصر الإرث الأدبي على الجديد المكتوب فلا ريب من وجود إرث غني من الثقافة الأدبية الذي لا تسع العقول تصوره من أساطير، وبطولات أسطوريّة، وحكايات خرافية، وتاريخ مُتخيَّل، وتاريخ حقيقي، وحكايات من كل الأنواع. تحول هذا الكنز على أيدي المتعلّمين، ابتداء من القرن الثاني عشر وبدخول القرن الثالث عشر، من الطور الشفوي إلى الطور الكتابيّ، فدوِّن، وجُمع، وصُنِّف، وشُرح، وكُتبت عليه الحواشي، وتُدوول، وصِيغ في قالب جديد، ووسِّع، وطُوِّر، وُجُوِّد. شملَ هذا النثر والشعر، واستعملت فيه الأشكال التقليديّة بل حتى المهجورة، لكن في ثوب قشيب، وحتى فريد مثل سيرة العائلة الملحميّة. ولا يخفى على دارسي القرون الوسطى بأن النصوص الشفوية لم تترك دون أن يطالها التغيير حين قُيّدت في الصحف، لا سيما على أيدي أولئك النصارى الذين لم يخالج نفوسهم استعداد لتبنيّ أيّ معرفة تنافي المعتقد النصراني، أو في الأقل لا تقوّضه. لكن الحال على النقيض في آيسلندا، واحدة من أبعد المناطق في دول الغرب النصراني، إذ بدت عملية نقل الإرث المعرفي من الشفوي إلى الكتابي أقل تدخّلا في تغيير المحتوى خلافا لبقية أوروبا تقريبا. نظرا الآيسلنديّون بعين الإجلال إلى إرثهم الأدبي، وتاريخهم، ولغتهم، وحتى أسلافهم الوثنيين، ولم تحتكر الكنيسة السلطة الثقافية، وما كان لها اليد الطولى في آيسلندا كما الحال في سائر البلاد الأخرى. أثمر كلّ ذلك بقاء قدر كبير من الأدب ما قبل النصرانيّ، والتطور المتنامي للأشكال الأدبية المحليّة، والمواضيع، والأساليب”.3 زاد على ذلك أن الآيسلنديين، وبفضل عيشهم في جزيرة منعزلة تقريبا عن باقي إسكندنافيا، حافظوا على لغتهم، التي صار اسمها اللغة الآيسلنديّة، دون أن يمسّها تغيّر كبير طوال قرون، وحتى اليوم لا تفرق اللغة الآيسلندية إلا قليلا عن لغة الأدب الآيسلندي التراثي. لذا استمرّ أدبهم في التداول والتطور دون تغيّر لغوي يعيق ديمومته كما الحال في الأدب الإنجليزي وتطوّر اللغة الإنجليزية من الإنجليزية القديمة لغة بيوولف إلى الإنجليزية الوسطى لغة تشوسر حتى الإنجليزية المعاصرة4.

دوّن الأدب الآيسلندي التراثي نثرا وشعرا، وضمَّ كل جنس أدبي أنواعا مختلفة، يختلف الدارسون في تصنيفها، لكن يمكن حصر النثر في: كتاب إيدا النثري Prose Edda، والسيرة الملحمية Saga مثل سير الملوك والأساقفة والفرسان والأبطال الأسطوريين، وكتب التاريخ مثل تاريخ المستوطنات الأولى والمستوطنين الأوائل وتاريخ المسيحية. أما الشعر ففي: كتاب إيدا الشعري Poetic Edda، والشعر النوردي Skaldic Poetry وهي مجموعة كبيرة من القصائد متنوعة المواضيع كالحب والمديح والرثاء والدين والدنيا، وتتناثر قصائد الشعر النوردي في كتب سير الآيسلنديّين الملحمية، والشعر القصصي Rimur الذي برز مع مطلع القرن الخامس عشر بعد انسلاخ السير الملحميّة. 

كان كتاب إيدا الشعري من أبرز إبداعات الآيسلنديّين، إن لم يكن أهمها لأقدميته الزمنية، ومواضيعه الخرافيّة والبطولية، وذكره طائفة من أخبار آلهة الإسكندنافيين الأسطورية، ونظامه الشعريّ، أو كما يوصف بأنه “مستودع الأساطير الجرمانية”، وتأثيره في الأدب الآيسلندي اللاحق. غير أننا لا نعلم شيئا عن هذه القصائد، مثل من نظمها، وأين، ومتى، ومن أنشدها، ومن دوّنها وجمعها، وأين، ومتى، وهل ما بلغنا هو عددها الكامل، وهل القصائد نفسها كاملة أو شابها النقص، ومن علّق عليها أو قدّم لها نثرا كما في مستهل بعضها. بل يزيد الأمر التباسا أنّ معنى Edda، الذي عُنون به كتابا القصائد وكتاب سنوري، غير متأكد منه ولا متفق عليه حتى اليوم ما بين النسبة إلى مستوطنة أودي Oddi التي تقع في جنوب شرق آيسلندا، وهي مسكن سنوري ستورلوسن عدة أعوام، وسايموند العالم، أو من كلمة Edo اللاتينية التي تعني أنا “أولف”. ويُرجع الدارسون تاريخ بعض القصائد إلى سنة 1100، ومعظمها في الأقل إلى سنة 900، ومن الراجح أن قصائد إيدا أخذت شكلها النهائي ما بين سني 850-1050، أي في عصر الفايكنغ، كما يذهب مترجمها هنري بيلوز. حفظت أغلب قصائد إيدا في مخطوطة عرفت باسم “مخطوطة الملك Codex Reguis” لأنها أهديت إلى الملك وحلّيت بالجواهر، واكتشفت في القرن السابع عشر في آيسلندا حين كانت جزءا من مملكة الدنمرك. وبعد أن استقلّت آيسلندا عن الدنمارك،  أعادت الحكومة الدنماركية في عام 1971 نحو ثماني عشرة مخطوطة، من ضمنها مخطوطة الملك، إلى آيسلندا وسُلّمت إلى جامعة آيسلندا (صارت آيسلندا تابعة للتاج الدنمركي في القرن السادس عشر، بعد أن حكم النرويج ملك دنمركي). نُسخت المخطوطة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر بالاعتماد على مخطوطات أقدم مفقودة يرجع تاريخها إلى سني 1200-1240. ومنحت هذه المخطوطة في القرن السابع عشر عنوان إيدا Edda على أيدي الدارسين الذين ربطوها بكتاب لسنوري ستورلوسن المعروف باسم Edda، الذي عرف بالإنجليزية باسم إيدا النثري Prose Edda. أما كتاب الشعر فعرف باسم إيدا الشعري Poetic Edda.  تحتوي مخطوطة الملك تسعا وعشرين قصيدة، ما بين كاملة ومقتطفة، ويشك أنها من عمل سايموند العالم بعد أن عثر أسقف سكالهولت، برينيولفر سفينسون، على المخطوطة في عام 1643، وعنوّنت منذ حينها بـ إيدا سايموند، وإيلدر إيدا، وإيدا الشعرية5. لكن نسبتها إلى سايموند خاطئة، وهو ما حاد عنه الدارسون المعاصرون. وتكملة قصائد إيدا مأخوذة من الشعر النورديّ القديم6. 

لقصائد إيدا ثلاثة أوزان شعرية منها اثنان رئيسان هما الوزن الملحميّ القديم Fornyrthislag، والوزن الأنشوديّ Ljóthaháttr، والثالث الثانوي هو الوزن الخطابيّ Málaháttr. (يقتصر بعضهم على أول وزنين حسب). واستُخدم في القصائد ألفاظا مهجورةً لأغراض شعرية، والكنايات. وتنوعت مواضيع القصائد ما بين الشعر الأسطوري، والشعر التعليمي، الشعر البطولي. تروي القصائد أخبارا عن أودين وسائر آلهة الإسكندنافيين الأسطورية، وحكايات عن ملوك وشخصيات ما بين تاريخي وأسطوري وتاريخي أسطوري. تضيف بعض المخطوطات إلى قصائد إيدا نشيد غروتي Grottasongr، وهو نشيد عن ملكٍ يشتري عبدتين عملاقتين ليعملا له على طاحونة صخريّة سحرية عملاقة، لكن بسبب جشعه تودي به إلى نهايته.

قصائد إيدا

يستهل كتاب إيدا الشعري بقصيدة فولوسبا، نبوءة العرافة، وهي واحدة من أهم النصوص الأدبية الآيسلنديّة، وأبرز قصائد إيدا. إذ تقصّ العرّافة على أودين، الساعي دوما إلى المعرفة، أخبارا عن بداية الكون وخلق السموات والأرض والإنسان، ثم تشرعُ في ذكر أخبار الآلهة، وتنتهي بذكر وقائع أهم حادثة في الأساطير الإسكندنافية، وهي معركة راغناروك. تمثل راغناروك ذروة الفكر الإسكندنافي، الديني والفلسفي، وآخر فصول الحياة قبل تجدّدها. فأودين أبو الجميع، وقائد حزب الآلهة، يسكن في فالهالا، أي قاعة القتلى، وكان يؤتى إليه بأبطال المحاربين المصروعين في الميدان، فيقضون معه حياة ما بعد الموت استعدادا للمعركة الفاصلة حين يهجم على موطن الآلهة آلهة العالم السفلي والعمالقة والذئب فينرير والثعبان العظيم ميثغارثسورم، وتجري بينهم موقعة تنتهي بدمار الكون، وموت عديد الآلهة وأعدائها، وعودة كل شيء إلى ما كان عليه قبل بدء الخلق، ثم تعود الحياة من جديد لتبدأ دورتها. يتكرر موضوع هذه القصيدة في قصيدة أحلام بالدر، إذ تبدأ بخبر أحلام بالدر، الإله الجميل الطيّب، فأرّقت أحلامه الآلهة لأنها كانت نذير شؤم بموته فانطلق أودين إلى عالم الأموات، هيل، وبعث بالعرّافة الحكيمة من مرقدها دون أن يعرّفها بحقيقته، فأجابت عن أسئلته وفيها أخبار عن الخلق والحياة، كما في فولوسبا، لكنها تعود إلى عالم الأموات حين تعرف بأن السائل أودين. هذه القصيدة أحد أمثلة موضوع النزول إلى عالم الأموات في الأدب، والوحيدة من بين قصائد إيدا في ذكر ذلك. أما ثاني أبرز قصائد الكتاب فهي أقوال العليّ Hovamol، وهو نص طويل يضم إرشادات ونصائح وحكما متنوعة يهبها أودين للإنسان، ومستودع للحكمة الإسكندنافيّة، وإنْ كانت في كثير من توصياتها تحمل صفة العالميّة والفطريّة التي لا تختلف بين الأمم والثقافات. وفيها من أخبار أودين التي يقصّها على الإنسان. يرتحل أودين في نشيد العملاق الحكيم إلى ڤافثرثنر، العملاق المعروف بحكمته، فيختبره ومعرفته. أجاب ڤافثرثنر عن كل أسئلة أودين عن عالم الآلهة. وفي سعيه لإثبات أنّه أكثر كائن حكيم في الحياة يسأله أودين سؤالا يعجزه، وهو ما الذي قاله أودين في أذن جثمان ابنه بالدر قبل حرقه؟ سؤال لا يعرف جوابه إلا أودين. يكمل نشيد غرينمر رواية أساطير الإسكندنافيّين على لسان أودين الذي ارتحل متنكرا إلى ملك اسمه غيرروث، فأخذه الملك وشرع في تعذيبه بوضعه بين نارين، وفي أثناء ذلك كان أودين يقص من أخبار الآلهة على أغنار ابن الملك، الذي انتهى به المطاف أن تعثّر وسقط على سيفه حين أعلمه أودين بحقيقته. تنتقل القصائد الأخرى إلى ذكر أخبار آلهة آخرين، فيروي نشيد سكرنر حبَّ فرير للحسناء غيرث ابنة العملاق غيمر، ويبعث بخادمه سكرنر رسولا إليها لخطبتها، فتودَّد سكرنر إليها بالوعود فلما رفضت شرع في تهديدها إن لم تأتِ معه لفرير، فوعدته بالقدوم بعد تسع ليالٍ. وفي نشيد هيندلا تستدعي فريا، أخت فرير وهما ابنا نيورد، العرّافة هيندلا وتسألها الذهاب إلى مسكن الآلهة لإخبارهم عن سلالة حبيبها أوتر، وهو ملك سويدي شبه أسطوري. تبدو هذه القصيدة منظومة لغاية إبراز نسب الملك الذي يرجع إلى الآلهة، ومن دون هذا النسب المنتهي بأودين فلا حق للملوك في الملك. وتنتقل القصيدة إلى ذكر هيندلا أخبارا عن الآلهة قبيل بلوغ معركة نهاية العالم. يحضر ثور، أحد الآلهة الرئيسة في أساطير الإسكندنافيين في أربع قصائد أولها نشيد ثريم، وهي حكاية عن سرقة العملاق ثريم مطرقته، ثم رفضه إعادتها حتى يُزوّج فريّا، فيحتال عليه لوكي وثور حتى استرجعاها وقتله ثور. وفي نشيد ألڤيس يأتي القزم ألڤيس إلى ثور ويسأله أن يحقق وعد الآلهة بأن يزوّجه ابنته، ويحتال عليه ثور بأن يزوّجه ابنته إذا أجاب عن أسئلته، لكن النهار يطلع قبل أن ينفّذ وعده ويهرب القزم خوفا من الموت بنور الشمس. ويتنافس ثور والملاح هاربارث في نشيد هاربارث إذ يعترض طريق ثور العائد من رحلة الشرق مضيق مائي لا يمكنه عبوره إلا بقارب الملاح. يشرع الاثنان بذكر مآثرهما، وتنتهي بسلوك ثور درب آخر. وفي نشيد هيمر حكاية ثور وتير ورحلتهما إلى العملاق هيمر من أجل أن يجلبا الإبريق الكبير لسقي الآلهة. أما الإله اللوذعي والماكر لوكي فيبرز في قصيدة ردود لوكي، وهي قصيدة مبنية بأسلوب تبادل المثالب والشتائم، أو ما يسمّى سينا، وهو أن يهجو كلّ خصم خصمه ويتفاخر بنفسه. يرد لوكي على كل إله وإلهة في المجمع، بعد أن طلبوا منه الخروج إثر قتله أحد السقاة، فيذكر مثالبهم ومساوئهم ويكبتهم عاجزين عن الردّ. يبرز نشيد ريغ واحدا من القصائد المهمة في الكتاب بذكر دوره في إنجاب بني الإنسان، والتنظيم الطبقي في المجتمع. يرتحل ريغ في البلاد فيلتقي أول زوجين وينام معهما في فراش واحد، وكانا هذان الزوجان آباء العبيد، ويتكرر الأمر مع ثاني زوجين فكانا آباء الفلاحين، وآخر زوجين كان آباء الزعماء. وريغ الوارد في القصيدة هو هيمدال نفسه، لكن يرى بعض الدارسين أنّ مدوّن القصيدة أخطأ في ذكر الإله هيمدال إنما هو في أودين. ينتهي قسم قصائد الآلهة بنشيد سفيبداغ، إذ تروي القصيدة حكاية سفيبداغ ورحلته إلى الربة مينغلوث ليتزوّجها، وتبدو قصيدة رمزية عن مشاق الحب وصعابه.

يبدأ القسم الثاني من قصائد إيدا، وهي قصائد الأبطال، بنشيد ڤولند. تشرع القصيدة في خبر ڤولند وأخويه الذين يتزوجون ثلاث نساء من الفالكيريات، المحاربات، واللائي يملكن ثيابا من ريش تمكنهنَّ من الطيران. يعيش الإخوة الثلاثة مع أزواجهم سبع سنوات، وفي السنة الثامنة تطير الفالكيريات ويتركنهم. ينطلق كلا أخويه، إيغل وسلاغفيث، بحثا عن زوجيهما ويبقى ڤولند في مسكنه، مع كنوزه. حين يعلم الملك نيثوث بهذا الخبر يقبل مع رجاله على ڤولند ويسرقون منه خاتم ذهب من كنزه، ثم يمسكونه ويأخذونه معهم إلى جزيرتهم، وحين تراه زوجة الملك تنصحه بأن يعطب ساقه ليصبح أعرج ولا يستطيع الهرب. عمل ڤولند حدادا للملك نيثوث الذي كان له ابنة وابنان صغيران. استطاع ڤولند أن يخدع الصغيرين ويقتلهما ويصنع من جسديهما جواهر وحلي لبراعته في الحدادة ويرسلها إلى أبويهما. وأغوى ابنة الملك بثوڤيلد وغلبها على نفسها فحبلت منه. وكان قد صنع لنفسه ثيابا تجعله يطير ليفرّ من جزيرة نيثوث لكنه إمعانا في الانتقام يعلم خصمه بكل فعائله وهو طائر في السماء. لا تبدو حقيقة ڤولند جليّة فهل هو من الإنس أو العفاريت إذ يوصف بأنه سيد العفاريت، وكيف تمكّن من صنع الثياب العجيبة، فلا إجابة عن ذلك. ويبدو أنّ محلّ هذه القصيدة مع القسم الأول لا الثاني، إذ بقية قصائد الأبطال ذات وحدة موضوعية متعددة الفصول لشخصياتها الرئيسة، سواء في أناشيد هيلغي الثلاثة، أو الأناشيد الستة عشر الأخرى عن سيغورد وغدرون وغونار وهوغني وأتلي، وارتباط هذه الأناشيد بسيرة آل فولسونغ الملحمية والبطل سيغورد قاتل التنين.

اعتمد كاتب، أو كتّاب، سيرة آل فولسونغ الملحميّة على قصائد الأبطال في إيدا الشعري في كتابة هذه السيرة الملحميّة الأسطوريّة، واحدة من أبرز السير الآيسلنديّة، وأكثرها شهرة، لا سيما وأنها تروي حكاية سيغورد (سيغورث) قاتل التنين، البطل الأسطوريّ الذي انتقل خبره من ألمانيا، حيث نشأت القصة بعد القرن الخامس، إلى إسكندنافيا حيث ذكر أول مرة في القرن السابع في النرويج. تروي سيرة آل فولسونغ قصة السلالة من الجد سيغي وحتى سيغورد الذي يجتمع ببرنهيلد ثم آل غيوكي حين يتزوج ابنتهم غدرون، وتنتقل السيرة لتكمل قصة زوجته غدرون، وتنتهي بموت بنيها هامثير وسورلي على أيدي رجال الملك يورمونريك. ترد هذه السيرة في قصائد إيدا في حلقات منفصلة متعاقبة، يكمل بعضها بعضها، وامتازت بخصائصها الأسلوبيّة والفنيّة والموضوعيّة التي تغيّرت عند تحولها إلى قصة مسرودة. تروي قصيدة هيلغي ابن الملك هيورفارث الأولى فصولا من حياة هذا البطل والملك الأسطوري حتى وفاته، والوعد بعودته إلى الحياة برفقة زوجته سڤاڤا. يصبح هيلغي في سيرة آل فولسونغ ابنَ سغموند، ومن سلالة فولسونغ، ويظهر في قصيدتين هما نشيدا هيلغي هلاك هوندنغ الأول والثاني، يقاتل في النشيد الأول عشيرة هوندنغ ويقتل الملك هورثبرود. ويكمل النشيد الثاني حكايته حتى مقتله على يد أخي زوجته داغ، الذي نجا من الهلاك بعد أن أقسم على الولاء لآل فولسونغ إثر قتل هيلغي لكل عشيرته وحلفائها في المعركة. تبني له بعد موته زوجته سيغرن نصبا تذكاريا فوق تلة، وفي إحدى المرات تأتيها جاريتها لتعلمها برؤية هيلغي عند التلة مع فيلق من الفرسان، وتلتقي سيغرن بعدها زوجها الميت هيلغي عند التلة. تموت بعدها سيغرن حزنا على فراق زوجها. يبدو النشيد الثاني متشابها وقصة سيغورد وغدرون في سيرة آل فولسونغ في حبكة قتل هيلغي على يد من أقسم له بالولاء، كما تآمر هوغن وغونار على قتل سيغورد بعد أن أقسموا قسم الأخوّة. أما عودة هوغني من عالم الأموات ولقاء سيغرن يشبه بندب غدرون زوجها قبل وفاتها حين تقول “أتذكرُ يا سيغوردُ حديثنا حين جمعنا فراشٌ واحدٌ؟ قلتَ لي بأنكَ من هيل ستزورني، وإنَّك من هناكَ ستنتظرني”. لم يعد سيغورد لكن هيلغي عاد للقاء زوجته. تروي بعد ذلك القصائد قصة سيغورد قاتل التنين في أناشيد ريغن، وفافنر، وجالبة النصر، وسيغورد، ثم تروي القصائد الأخرى قصة غدرون زوجة سيغورد وإخويها غونار وهوغني، وزوجها الثاني أتلي وانتقامها منه لقتله أخويها، وقصتها مع زوجها الثالث يورمونريك وخبره مع ابنتها وأبنائها- في أناشيد غدرون الأول والثاني والثالث، ونشيدي أتلي الأول والثاني، وتحريض غدرون، ونشيد هامثير. تتفرّد قصائد إيدا بذكر أحداث لم ترد في سيرة آل فولسونغ كما في نشيد رحلة برنهيلد إلى هيل، تروي هذه القصيدة القصيرة رحلة برنهيلد بعد موتها على عربة إلى عالم الأموات، هيل، وتلتقي عملاقة ويجري بينهما حوار تتحدث فيه برنهيلد عن بعض ما جرى لها وسيغورد. ويروي نشيد غدرون الثالث خبر اتهام هيركيا، عشيقة أتلي، غدرون بخيانة زوجها مع ثيوثريك، لكن اختبار وضع اليد في إبريق الماء المغلي يكشف براءة غدرون وكذب هيريكا وخداعها. وتروي مرثية أودورن خبر أودرون -أخت أتلي- وغونار. لا تظهر شخصية أودرون في سيرة آل فولسونغ، وإن أشارت برنهيلد على الفراش الموت إلى العلاقة التي ستجمع غونار بها لكن أتلي سيمنع زواجهما.

الهوامش: 

1- Introduction to Norse-Icelandic Literature – Heather O’Donogue.

2- Poetic Edda by Henry Adams Bellows.

3- Introduction to Norse-Icelandic Literature – Heather O’Donogue.

4- Early Germanic Literature and Culture.

5- A history of Icelandic Literature.

6- Introduction to Norse-Icelandic Literature – Heather O’Donogue.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى