التراث الأدبيالتراث العربي

مخاطبات الوزراء السبعة 

مخطابات الوزراء أو سندبادنامة كتاب حكايات نُقل إلى العربية ما بين القرنين الثاني والثالث للهجرة، وهو كتاب غير موثوق على وجه اليقين من أصوله، إذ يذهب محققه سعد الغانمي إلى رجحان أن يكون أصل الكتاب في “نصٍ آراميّ، ربما تشكَّل في بيئة مانويّة كانت تغترف من التراث الآراميّ المطعَّم بعناصر هنديّة ويونانيّة”. ذاع صيت الكتاب إذ ترجم إلى اليونانيّة اعتمادًا على ترجمة سريانيّة في القرن الحادي عشر، ومخطوطة الترجمة السريانيّة الوحيدة معاصرة لمخطوطات الكتاب العربيّة المتبقيّة. وأشار ابن النديم في كتابه الفهرست إلى نسختين من الكتاب “كتاب السندباد الكبير، وكتاب السندباد الصغير”، وتعرف هاتان اليوم بالنسخة المعياريّة الكبرى والمعياريّة الصغرى. والنسخة المعياريّة الصغرى هي التي حققها الغانمي، ويذهب إلى أن المعياريّة الكبرى هي التي ابتلعها كتاب ألف ليلة وليلة من ضمن ما ابتلعه من كتب في لياليه. يقول الغانمي “وبحلول القرن الرابع كان الكتاب قد انشقَّ إلى كتاببين أو إلى نسختين صغرى وكبرى، كما قال ابن النديم. وقد حاولت النسخة الصغرى الاحتفاظ بالمادة الأولى للكتاب، بينما نمتِ النسخة الكبرى نموا مطّردا، وصارت على استعداد للتضخم بإضافة حكايات جديدة باستمرار. على أن كلتا النسختين بقيت شفويّة الطابع، ولم تحظ بالارتقاء إلى مرتبة المعياريّة، أي إقرار طبقة الأدباء المتعلّمين والاعتراف بها نصًا سرديًا يدخل في المدونة الأدبية العالمة لذلك العصر”. 

تقوم حبكة الكتاب على صراع ما بين جارية الملك، التي اتَّهمت ابن الملك الوحيد بأنَّه راودها عن نفسها وطلبت من الملكِ قتله، ووزَّته بحكاياتٍ في سبعة أيام تكشف عن غدر الرجال وخيانة الوزراء ودهائهم في الإيقاع بالناس، وبين وزراء الملكِ السبعة الذين يسعون أن يدفعوا الموت عن ابن الملك بالحكايات عن غدر النساء ومكرهن وحيلهن. صدامٌ ما بين الرجل والمرأة، سلاحُه الحكاية، الحكم فيه الملكُ وهو المُخاطب، والغاية هو الغلام ابن الملكِ ما بين موتٍ يطلبه من الجارية ونجاة تأتيه من الوزراء. 

تبتدئ الحكاية بخبر ملكٍ عقيم حُرم الولد حتى طلب من حكماء مملكته أن يعينوه على تحقيق مبتغاه، تعاهد الحكماء على مراقبة المقيات الذي يُمكِّن الملكِ من الإنجاب إذا قصد أهله، وتمَّ له في آخر الأمر ورزقَ ولدًا بعد طول انتظار. أحسنَ الملكُ تربية ابنه ورعايته وطمحَ أن يخلفه في الملك من بعده، لكنَّ الابن كان على غير ما يشتهي أبوه، وبدا أنَّ لديه ما يمنعه من التعلُّم فعهد به إلى حكيم في البلاد اسمه السندباد، ومن اسم هذا المُعلِّم جاء عنوان السندبادنامة. تمكَّن السندباد من تعليم ابن الملكِ سائر العلوم والفراسة والقياسة حتى جعله من أفضل أهل زمانه. ولما اطَّلع السندباد إلى مولد ابن الملك وحسب الأيام عرفَ أنَّ الموتَ كامن في قدر الصبي في سبعةِ أيامٍ إذا تحدَّث، وصادف أن استدعى الملكُ السندباد وابنَه ليقف على ما بلغه المعلم في تعليم ابنه. طلبَ السندباد من الابن ألا يتحدَّث إذا سأله أبوه حتى لا يموت. حضرَ الغلام بين يدي أبيه الملك، ولمَّا سأله ما أحار جوابه، فحار الوزراء في أمر سكوته، وتناوشتهم أسباب خبيئة الأمر حتى أشاروا على الملكِ أن يجعل ابنه مع الجواري حتى يزول عنه الحياء ثم يستدعيه ويختبره. في جناح الجواري استحسنت إحداهن ابن الملك وطمَّعته بنفسها وقتل الملكِ ليخلو الحكم له وحده. غضب الابن ونهرها فلمَّا خافت أن يفضح أمرها ادَّعت عليه عند أبيه بالخطيئة وطلبت أن يقتله لما تجرأ عليه من فعل حقير. برزَ أول الوزراء لمواجهة الملكِ ونصحه بألا يتعجَّل في أمره، ودعَّم محاججته بالحكايات والأخبار عن دهاء النساء وسوء عاقبة التعجُّل في الأمور والندم. فأخَّر الملكُ قتلَ ابنه، فعادت الجارية في اليوم الثاني تحاجج في أمرها وتحكي للملكِ حكاياتٍ عن خيانة الوزراء ودهاء الرجال، فيأمر الملكِ بقتل ابنه قبل أن يدخل الوزير الثاني شارعًا في مخاطبة الملك. بقي الحال على ما هو عليه سبعة أيام بين أخذ وردٍ ومجاذبة  وابن الملكِ ينتظرُ، والسندباد لا يتدخَّل في الأمر، حتى انقضت الأيام السبعة. علمَ السندباد أنَّ الغلام سلمَ وتجاوزه الخطر، ونصح الابن بالدخول على أبيه وإعلامه بخبيئة الأمر، فنجا وقُتلتْ الجارية على اتِّهامها الغلام باطلًا وخيانتها الملك.  

تبدو الحكاية متماسكةً في حبكتها جليّة في موضوعها بيد أنَّ ذلك يتلاشى إذا ما دقَّقنا في أمرها وقرأناها جيدًا، ونتبيَّن أن حبكتها سقطت حين نهرَ الابن الجارية قائلا “يا لعينة الأبوين، وخسيسة الجدَّين، سوف أجازيك عن هذا الكلام القبيح إن شاء الله تعالى”. وتكرر حديث الغلام في النسخة الواردة في ألف ليلة وليلة، ومئة ليلة وليلة. نطرحُ سؤالا أليس في مخاطبة الجارية انتهاكٌ لنصيحة السندباد حين حذَّر الغلام من الكلام إذ في الكلام هلاكه؟ الأمر كذلك، كما تبيَّن لي، ولا أدري كيف غاب هذا الإخلال في شرط الصمت الموجب للنجاة فيمن وضع الحكاية أو نسخها، بل حتى لم يشر إليها المحقق على ما له من نباهة وألمعية وإحاطة بكتب الأدب والتراث. لكن يسعنا التمحيص في قول السندباد للغلام وأمره إياه “ألا يتكلم حتى لو ضربه الملكِ بالسياط” أنَّ الأمر بالصمت خاصٌ بإجابته سؤال الملكِ لا عامة الكلام، وعلى ما لهذا القول من وجاهة فلا يكفي لجبر كسر شرط الصمت. ولعلَّ مخاطبته الجارية تُنبئ بأن مصيرَ الغلام سيكون على غير ما قرأه معلِّمه إذا ما التزم الصمت. يزداد الأمرُ ضبابيةً حين نسمع الجارية وهي تخاطب الملكُ “أيها الملكُ يزعم جلساؤك أن ولدك هذا أخرس لا يتكلم، وأنه قد راودني عن نفسي، فتمنَّعت عنه، وقد فعل بي ما ترى”. فما الجامع بين الخرس وعدم القدرة على المراودة الذي فاجئ الجارية كما يُفهم من كلامها؟ فكون الغلام أخرس لا يعني عجزه إلا إذا فُهم من قولها أنَّها جعلت الخرس أمارة ضعفٍ عقليّ عامٍ يُعيق صاحبه من القيام بكلِّ الأفعال البشريّة، ومن ضمنها الكلام والمراودة. 

الصمتُ شرط النجاة 

لا تكون النجاة أو تحقيق المطلوب في الحكايات والأساطير إلا بشرطٍ كأن أن يؤدي عملًا أو يُنجزَ مَهمَّة أو يلتزمَ بأمرٍ، فالشرطُ حاضرٌ دائمًا ليبلغَ الطالب مراده. كثيرا ما كان الكلام في الحكايات شرطا النجاة، كما في ألف ليلة وليلة، إذ تعملُ شهرزاد بحكاياتها، أي بالكلام، أن تدفعَ الموت عنها ولا يسعها الصمتُ إذ لا تملكُ ما تدافع به عن نفسها وبنات مملكتها في حضرة ملكٍ متعطشٍ لسفكِ دماء النساء. وفي حكاية ابن الملكِ والجارية يبرزُ لنا الصمت شرطًا للنجاة لكنه شرطٌ ناقصٌ إذ بالصمت ينجو الغلام من الموت القَدَريّ ولا ينجو من الموت من أبيه بحيلة الجارية، فصار واجبًا أن يدخلَ سبيلُ نجاةٍ آخر إذا ما لزم إنقاذ الغلام. حين نظرَ السندباد في مولد الغلام أبصر موته إذا ما تكلمَ؛ طلبَ منه التزام الصمت وعدم الكلام في حضرة أبيه حتى تمضي الأيام السبعة. علمَ الغلام منذ البداية أنَّ نجاته في صمته من هذا المصير المحتوم المتعلِّق بكلامه، فكان لزاما مهما جرى عليه أن يصمت. لكن خصمه الجارية تتكلم غير ممنوعة من الكلام. ولهي قسمة ضيزى أن يتنافسَ صامتٌ ومتكلم في ميدان الكلام، فيبرزُ من يقوم مقام الغلام في مواجهة الجارية وهم الوزراء السبعة. دافع الوزراء بالحكايات عن الغلام وهاجموا الجارية وأشاروا على الملك بالصبر والحذر من العجلة في الحكم كيلا يندم. انبثقَ شرطٌ جديدٌ لنجاة الفتى، غير متعلِّق به، وهو الكلام متمثلًا بحكايات الوزراء التي تجابه حكايات الجارية. يتقابل الشرطان في نجاة الغلام، فهو يصمتُ لينجو والوزراء يتكلمون لإنقاذه، ولا يسع الوزراء السكوت عن الجارية، فهم مُلزمون بالكلام وإخبار الملكِ حكاياتٍ عن حيل النساء ومكرهن. يعمل شرطا الصمت والكلام معًا في خدمة الغلام بإطالة أمد الصمت، أي إنَّ الكلام خادمٌ الصمت وسلاحه الذي يضرب به كلام الجارية ويفنِّد ادِّعاءاتها. والجارية أيضًا مُضطرة إلى الكلام لإقناع الملكِ بقتل ابنه قبل أن يستجدَّ شيء يكشف حقيقة خيانتها الملك ويجعلها تلقى حتفها. يتدافع الخصمان بالحكايات، كلٌّ يريدُ مصلحته فالجارية تحكي لتنجو والوزراء يحكون لينجو الغلام، الذي هو صامتٌ ينتظرُ فرجًا من الوزراء أو انقضاء الأيام السبعة. وهذا ما تحقَّقَ في آخر المطاف بصمته وكلام الوزراء.

نلاحظ في الكتاب مواجهات ثنائية، المواجهة الأولى بين الجارية والغلام، أي الأنثى والذكر، والمواجهة الثانية بين الجارية والوزراء، والمواجهة الثالثة بين الصمت والكلام، والمواجهة الرابعة بين مكر النساء ودهاء الرجال، والمواجهة الخامسة بين الجارية والوزراء من جهة والملكِ وتصديقه أيّ الفريقين من جهة أخرى. يعلِّم صراعُ الثنائيات في الحكاية طبيعة التدافع بين الخصوم، فكلُّهم في سعيّ من أجل نجاة من الموت وإيقاع الموت بالآخر، وليس لهم من سلاح سوى الحكاية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى