مسابقة الزواج ومنافسة المرأة الباسلة
المرأة كائن الفتنة. وجائزة الرجل في الدنيا والآخرة. دائما ما طمحت أعين الرجال إلى النساء، فتنافسوا من أجل امرأة بعينها أحيانا، وتحاربوا عليها أحيانا، وليست هيلين اليونانيّة عنا بغريبة. يُخبرنا الأدب والأساطير أنَّ من بين النساء مختاراتٍ شغلنَ العقول واستوطنَ النفوس وجعلنَ السباق يحتدم لأجلهنَّ تارةً بالألباب وأخرى بالسيوف. قبل الخوض في غمار مقالتنا نجيب عن سؤال لماذا يتنافس الرجال على امرأة بعينها؟ لا يكون التنافسُ إلا على الثمين النادر، وفي شأن المرأة فإنَّ ندرتها تكمن في سماتها ومكانتها وحسبها، فالحُسن الباهر والمقام الرفيع والأرومة النبيلة محاسنُ لا تملكها أي امرأة، ولا يطمح بعينه إليها أيُّ رجل. توجب ندرة المرأة ألا يقترب منها إلا النادرُ من الرجال، وغالبا ما جذبت المرأة الفريدة رجالًا كُثرًا من أشراف القوم ومن هم دون، فالرجل بطبيعته لا ينظرُ إلى نفسه بل إلى ما يرومه، ويكفيه أحيانا شرفُ المنافسة وإنْ كان يعلمُ سلفًا أنَّه لن يفوز. لم تغب المنافسة على المرأة في عصرنا، وأخذت المرأة دورها أيضًا في عملية اختيار الشريك ذي القيمة العليا، وهو ما يُسمى في علم الاجتماع بالزواج أو الارتباط الفوقي Hypergamy. فالإنسان، رجلًا وامرأة، في سعي دائم إلى اختيار الشريك الأعلى، ويدخل من أجله في صراعٍ مع الآخر، وهو عند الرجل أشدُ وطأةً وقوة، وفي خالي الزمان أكثرُ خطرًا وعنفا. أخذ السباق على زواج المرأة صورًا كثيرة، فمنه أن يكون التنافس بين رجلين تُفاضل هي بينهم، ومنه أن يأخذها الفائز في السباق، ومنه أن تنافسه هي على نفسها، وهذا موضوع مقالتنا.
تبرز لنا في أدب وادي الرافدين القديم قصائدُ بيَّنت التنافس على المرأة بنحو مباشرٍ وغير مباشر. في قصيدة زواج مارتو، ويرجع تاريخها إلى سنة 1700 ق.م.، يدخل مارتو في مسابقات احتفالٍ في مدينة عيناب حضرَه الإله نوموشدا، تُرافقه زوجه الحسناء نامرات، وابنته العزيزة أدجار-كيدوغ. يغلبُ مارتو منافسيه في غير مسابقة، ولما يشدُّ الأنظار إليه ويهتف الجمهور باسمه؛ يطلبُ منه نوموشدا الصعود إلى المنصة، وحين سأله عما يريد من جائزة، بعد رفضه الذهب والفضة، أجاب بأنه يريد زواج أدجار-كيدوغ. قد لا يبدو غرض المباريات التي شارك فيها مارتو هو التنافس على المرأة، لكن حين نعلم أنّ بداية القصيدة تطرح سؤال الزواج على لسان مارتو، فما كان دخوله مدينة عيناب والاستمتاع بالاحتفال والمشاركة في المسابقات إلا تمهيدًا لزواج ابنة إله. اقترانٌ رفيع بامرأة جليلة النسب وسامية السمات، بلغها بانتصاره على منافسيه. وفي قصيدة الراعي والفلاح يبرز التنافس على إنانا أكثر وضوحًا. يعلم أوتو أنَّ أخته إنانا بلغت وحان أوان زواجها، فيقترحُ عليها زواج الراعي دموزي، لكن إنانا كانت تريد زواج الفلاح أنكيمدو. يسمع دموزي نقاش أوتو وإنانا فيدخل عليهما البيت، ويخاطبَ إنانا ’يا إنانا لمَ تمدحين الفلاح؟ قولي لماذا؟ إذا أعطاك الطحين الأسود سأعطيكِ الصوف الأسود، وإذا أعطاك الطحين الأبيض سأعطيك الصوف الأبيض، وإذا جاءكَ بالمِزرِ جئتُكِ بالحليب المحض، وإذا جاءك بالخبز جئتُكِ بالجبن المُعسَّل. وسأمنح الفلاح الباقي من الزبدة والحليب. لذا أتوسلُ إليكِ ألا يطرق اسمُه لسانكِ، وماذا يملكُ هذا أكثر مني؟‘. أجابت إنانا ’أيها الراعي ما أنت لولا أمي نِنغال، وبدونها لضاعت بك السبل، أو جدتي نِنغِكوغا فلولاها لضعت في السهوب، أو أبي نانا فمن دونه ستفترشُ العراء، أو أخي أوتو-‘. قاطعها دموزي ’أوه يا إنانا كفيّ عن هذا، ولا تفتعلي شجارًا. أرومتي لا تقلُّ عن أرومتكِ شيئًا، إذا كان أبوك نانا فأبي هو أنكي، وأمي سِرتور لا تقلُّ رفعةً عن أمكِ نِنغال، وأختي جيشتينانا كفؤك وصِنوكِ. يا ربَّة هذا البيت لنعرض عن هذا الحديث‘. كان لكلمات دموزي وقعها في نفس إنانا فاختارته على الفلاح أنكيمدو، وهذا الآخر أقرَّ بالفضلِ لدموزي قائلا ’دموزي لستُ نظيرًا لك حتى أنافسكَ على إنانا، وكلاكما يعلمُ ذلك. ما من داعٍ لتفتعلَ شجارًا معي. لترعَ ماشيتكَ في حقولي ومزارعي، وتشرب من ماء قنواتي. سيسعدني أن نبقى كما نحن صديقين، ولن تفرِّقَ بيننا امرأة‘.
بعيدا عن وادي الرافدين نتجه إلى جنوبي الشرقي حيث بلاد الهند. يقيم الملك دراوبدا في ملحمة الهند الكبرى، المهابهاراتا، مسابقة زواج لابنته دراوبدي. وهي بنت فائقة الحسن والجمال، فاتنة الأوصاف، باهرة القدِّ والقوام، سمات شبه متطابقة عند كلِّ النساء اللائي يجري التنافس عليهن. أقبل المتسابقون من كل بلاد الهند بعدما سمعوا بأمرِ المسابقة. أحضر الملكُ قوسًا وخمسةَ سهامٍ وهدفًا، مُعلمًا المتسابقين: من استطاع حمل القوس وإصابة الهدف بالسهام الخمسة صار زوجَ دراوبدي. كان من بين المتنافسين البطل أرجونا، بعد أن ظهر فياسا للإخوة باندو الخمسة ونصحهم بزواج دراوبدي. فاز أرجونا في المسابقة وأخذ الأميرة، لكنه عرضها على إخوته الأربعة ورفضوا الزواج بها لأنه من فاز في المسابقة، ثم اتفقوا على أن يتزوجوها جميعًا، تعدد أزواج Polyandry، فصارت من نصيب يوديشترا وبهيما وأرجونا وناكولا وسهديفا.
كانت المرأة في الأمثلة السابقة مسلوبة الإرادة في الاختيار إلى حدٍ ما، لكن ما استمرَّ الأمرُ على حاله، إذ تدخلُ المرأة منافسة على نفسها، فمن غلبَها تزوَّجها، ومن غلبته قتلته. والقتل هاهنا معادلٌ موضوعيّ لفضِّ البكارة، ففض البكارةِ قتلٌ معنوي للمرأة لا يعادله إلا قتل الرجل. وبعض النساء أرحم في التعامل مع المغلوب فهي تملكه أو تتركه يذهبُ إلى شأنه، لكن الرجال لا ينامون على ضيم، فتدخل الحيلة والخداع في غلبة المرأة في كثير من النماذج التنافسيّة بين الخاطب والمخطوبة. في حكاية ذات أصول هندية، ترد في كتاب مخاطبات الوزراء السبعة العربيّ، كانت الأميرة البريما حاكمة على نفسها أقسمت ألا تتزوج إلا من يقهرها في الميدان. يسمع بأمرها الأمير بهرام، وهو رجلٌ شجاع وفارس همام، فأقبل عليها وخطبها، وما كان له من خيار سوى منافستها في الميدان. كانت البريما امرأة شجاعة، ومقاتلة شديدة، لكنها حين نافست بهرام ورأت فيه بأسًا، وقوةً وأنها على غلبته عاجزة؛ أماطت اللثام عن وجهها فدوَّخ بهرام حسنُها وبهره نور وجهها وغلبته بعد أن سلبته بجمالها رباطة جأشه وعزمه. يعود بهرام ويُعمل الحيلةَ فيها ويتزوَّجها.
نصعد شمالا إلى اليونان لنلتقي أتلانتا ذات القدمين السريعتين. يتخلى عن أتلانتا الصغيرة أبوها، ويُلقيها رضيعة في الغابة إذ كان راغبًا في ولد، فأرضعتها الدبَّة، وهي من تمثَّلات إلهة الحرب أرتميس، ثم عثرَ عليها صيادو الغابة بعد ذلك، فخصُّوها بالعناية والرعاية، فترعرعت في الغابة وشبَّت سريعةَ القدمين مُتجنِّبةً الرجال ونذرت نفسها للصيد وللإلهة أرتميس. في كتاب التحولات لأوفيد فإنَّ عرَّافةً تُشيرُ على أتلانتا ألا تتزوج ففي زواجها دمارها، لذلك وبعد أن عثرَ عليها والدها فقد اقترحت ألا تتزوجَ إلا من يفوز عليها في سباق الجري وتقتلُ كلَّ من تغلبه، ولامتلاكها قدمين سريعتين لا يُقارعان فكانت تغلبُ كلَّ من سابقها ثم تقتله. بقي الأمرُ على هذا الحال حتى جاء هيبومينس الذي هوى في غرامها، وما كان له بدٌّ من زواجها فتضرَّع إلى أفروديت أن تُعينه في مسعاه فوهبت له ثلاث تفَّاحات ذهبيَّات لا يُقاوم سحرهن مخلوقٌ، وطلبتْ منه أن يُسقطَ تفاحةً إثر أخرى حين يتسابق معها، فامتثلَ هيبومينس لمشورة أفروديت، وبدأ السباق بينهما فأسقطَ الأولى فانجذبت إليها أتلانتا لتأخذها، وكذا الثانية فالثالثة، وفي غمرة انشغالها بالتقاط التفاح الذهبيّ كان هيبومينس قد بلغَ النهاية وغلبَ أتلانتا وظفرَ بها زوجًا. عاشَ الزوجان في وئام لكن هيبومينس ارتكبَ خطأً فادحًا حين نسي أن يُقدم قرابين الشكر لأفروديت. خرج الزوجان ذات يومٍ للصيد فلعنتهما أفروديت بالغُلمة فتجامعا في معبدٍ لزيوس أو الإلهة الأم ريا، فمُسخا عقوبةً على ذلك أسدين محرومين من جِماع مخلوق من فصيلتهما بل يُجامعان النمورَ لا غير. قيل إنَّ هذه العقوبة من أرتميس إذ ليس مقدَّرًا على أتلانتا أن تُجامعَ الرجل ولا أن تفقد عذريَّتها، وأن تبقى بكرًا خالصةً لأرتميس.
وفي إحدى حكاية كتاب “نزهة الأشواق في أخبار المتيَّمين والعشَّاق” فإنَّ منافسة المرأة على نفسها تكون بالإجابة عن الأسئلة. يسمع الغلام أحمد بن علاء الدين بابنة ملك ميّافارقين وأنها اشترطت على من يرغب في زواجها أن يجيبها عن عشرين مسألة مُشكلة، فمن أجابها تزوَّجها ومن لم يجبها ضربت عنقه وعلَّقته على برج القلعة. يجيبها الغلام عن مسائلها العشرين، ويسألها هو الآخر عن مسائل لكنها تطلب منه أن ينظرها في الجواب إلى الغد فكان لها ما أرادت. تدخل الحيلة هنا في مسألة الزواج لكنها من المرأة لا الرجل إذ تحتال عليه ابنة الملك ليلًا في هيئة جارية مغنيّة ثم تسكره وتعرف منه أجوبة مسائله، لكنها تنسى عنده قميصها، وفي الصباح حين يحضر عندها وتجيبه عن مسائله يتبيّن له خبيئة الجارية، فيكشف لأبيها عما جرى مُكنيًّا عن الخبر بقصة طائر أعجبه ونسي عنده قميصه. يفهم الملكُ كلامه ويزوِّجه ابنته.
ننطلق بعد هذا التطواف السريع على أمثلة من الأدب والأساطير إلى مثالين اثنين، عربيّ وجرمانيّ، عن منافسة المرأة الباسلة والزواج بها، لما بين هذين المثالين من تقاطعات وتشابهات يجعلهما متناظرين على الرغم من الاختلاف الثقافي الكبير بينهما، فأحدهما ينتمي إلى بلاد العرب الصحراويّة والآخر إلى بلاد الإسكندنافيّين الثلجيّة.
سيغفريد وبرُنهيلد، المقداد والميَّاسة
من خُلل العواصف الثلجية، والريح العاتية، والأجواء الباردة، خرج سيغورد الآيسلنديّ ابن سيغموند، واحدٌ من أبرز الشخصيات الأسطوريّة الشجاعة، وهو معادل لغلغامش السومريّ وهرقل اليونانيّ. تروي الأساطير الآيسلنديّة قصَّته مع برنهيلد، وكيف وصل إليها وهي نائمة في الكهف، وأيقظها وتعاهدا على الزواج، ثم يمضي إلى آل جوكي ويتزوَّج بالحيلة ابنتهم غدرون بسحرٍ من أمها غريمهيلد حتى ينسى برنهيلد، ويعود مسحورًا برفقة نسيبه غونار إلى قصر برنهيلد ويجتاز معبر جبل النار في صورة غونار، إذ استبدلا صورتيهما بالسحر، وهذا معبرٌ أقسمت عليه برنهيلد ألا يعبره رجل إلا سيغورد. خُدعت برنهيلد وتمَّ زواجها بغونار، لتكتشف بعد مدةً من زواجها الخديعة وتحض زوجها وأخيه على قتل سيغورد فقُتلَ غدرًا وانتحرت من بعده حزنًا عليه، ووُسّد جثمانهما وأحرقا معا في المِحرقة. انتقلت أساطير سيغورد وبرنهيلد إلى الجرمانيين، إلى الغرب من إسكندنافيا، وهي منطقة ذات بيئة ثقافية متقاربة، لتظهر هذه القصة في واحدة من الروائع الأدبيّة في ملحمة “نشيد النبيلونغ”، بأبطالها سيغفريد وكريمهيلد وبرنهيلد وغونتر وهاغن. يشبُ سيغفريد بطلا هماما، ويخوض مغامرات كثيرة، ويطوف في البلاد في رحلةٍ جعلت منه صنديدًا، زاد عليها أن قتلَ تنينًا واغتسل بدمه فأكسبَ جلده صلابة لا تخدشها النصال خلا موضعٍ في كتفه الأيسر. يسمع ذات يومٍ بجمال كريمهيلد وأرومتها الشريفة فيسافر مع فرقة مختارة من فرسانه إلى بلاد فورمز. تجري عدة وقائع حتى يجتمع سيغفريد بكريمهيلد لكن يشرط عليه أخوها أن يتزوج امرأة تُدعى برنهيلد، بعد أن سمع من أخبار جمالها ومفاتنها، فإذا ما تمَّ له الأمر بزواجها زوَّجه أخته. ينطلق غونتر مع رفيقيه هاغن ودانكوارت، بقيادة سيغفريد إلى آيسلندا حيث حكمت برنهيلد. لا يكشف النص الجرماني عن سرِّ المعرفة القديمة بين سيغفريد وبرنهيلد، لكننا نعرف عن هذه العلاقة القديمة لما بين يدينا من أخبارهما في الأساطير الآيسلنديّة، وإنْ لم يكن لهذا بالغ أهمية في حبكة نشيد النبيلونغ.
كانت برنهيلد امرأة باسلة شجاعة، وملكة بلادها، اشترطت على من يريد زواجها أن يغلبها في الميدان في ثلاث منافسات الأولى قذف الرمح وعلى المنافس صدِّه بالترس، والثانية رمي جلمود إلى أبعد مسافة ممكنة، والثالثة قفزة كبيرة تتبع الجلمود، ومن يغلبها في المسابقات الثلاث فاز بها زوجا، وبمملكتها، ومن هزمته خسرَ حياته إذ اشترطت على منافسها أن تقتله إذا هزمته. لزم غونتر دخول المنافسة لمواجهة برنهيلد لكن سرعان ما تبدَّى له فداحة مأزقه حين أبصر جسامتها وقوَّتها، إذ بلغ عرض تُرسها ثلاثة أشبار ناهيك بطوله ينأى بحمله ثلاثة من عُتاة الرجال، وكذا الحال مع رمحها بطول ثلاثة رماح بظبَّة صارمة، والجلمود الذي حمله إليها اثني عشر رجلًا متينًا. دوَّخ مرأى سلاحها هاغن وحسبَ ألا منجى له ولا فرصة للفوز. نتركُ الآن غونتر في حيرته مواجهًا برنهيلد ونسافر إلى بلاد العرب نلتقي الميَّاسة والمقداد ونرى كيف سيكون حالهما.
نقرأ خبر الميَّاسة والمقداد في كتاب الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة. رُزقَ ملك من ملوك العرب يقال له جابر بن الضحَّاك الكندي بابنة سمّاها الميّاسة، شبّت فيها جليل المحاسن زادتها بشجاعة وفروسيّة وقوَّة حتى طمحت إليها أعين أشراف العرب. صار الشجعان يتحدثون بأمرها ويتذاكرون أخبارها، وطرقت مسامع أبي جهل بن هشام فحضَّ الرجال على زواجها. عزمت جماعة من أشراف القوم على الذهاب إلى الملك جابر وزواج ابنته الميَّاسة. اجتمع أشراف قريش بأبي الميَّاسة وخطبوا إليه ابنته، وأعلموه بأنْ يتخيَّر منهم زوجًا يرتضيه لابنته. أطرقَ الملكُ ساعةً ثم أجاب “إنَّ من محبتي لابنتي جعلتها تحكم ألا يعلو صدرها إلا من قهرها في ميدان الحرب ومقام الطعن والضرب”. أعلم الملكُ ابنته بخبر خطَّابها فطلبت منه أن يخرجوا إلى الميدان بعدَّتهم وعددهم وخيلهم وسلاحهم فخرجوا إلى الميدان. أمرت الميَّاسة بجوادها ولأمة حربها فجاءوها “بجواد طويل العنق واسع الصدر مفروق الأذنين إن طلب لم يُلحق”، وأما رمحها فهو “رمح خطيّ طوله أربعة عشر ذراعا عليه سنان كأنه حيّة أو شعلة نار”. لا تصف الحكاية ضخامة الميَّاسة وقوَّتها لكن يسعنا إدراك جسامتها وقوَّتها من وصفِ خيلها وسلاحها، أشبه ما يكون الأمر مع برنهيلد وقوَّتها، ولا يختلف مأزق أشراف قريش عن مأزق غونتر في الميدان.
يفزُّ سيغفريد لمساعدة غونتر، يرتدي عباءة الإخفاء ويعود إلى صاحبه في الميدان. تحسب برنهيلد أنَّها تنافسُ غونتر لكنَّ سيغفريد في الخفاء هو منافسها. تبدأ برنهيلد المنافسة راميةً ترس غونتر برمحها، وبفضل سيغفريد وعباءته يثبت غونتر في الميدان، ويتظاهر أنَّه يمسك بالرمح الذي قبض عليه سيغفريد وطيَّره إلى برنهيلد مُحدِّثا نفسه ’لا أريدُ جرحَ الغادة الحسناء ولا قتلها‘ فكانت ضربته كافية لتحطيم ترسها وإسقاطها أرضًا لا أكثر.
وفي صحراء العرب حين كان أشراف قريش يتنافسون مع الميَّاسة في الميدان سمع بجلبتهم فتى يُقال له المقداد بن الأسود الكندي، ابنُ عمِّ الميَّاسة المُتوفَّى، ما كان من عليّة القوم ولا غنيًا، فطلب من أمّه أن تستعير له من امرأة خاله لأمة وفرسًا فجاءته بالسلاح وفرسا مقطوع الأذنين منتوف الذيل. امتطى المقداد فرسه ودخل الميدان راجزًا: ما بال قومي أظهروا السلاحا/ مجتمعين باكر الصباحا/ جاكم كريم فارس جحجاحا/ معود للضرب بالصفاحا/ فإن تروموا الطعن بالرماحا/ أرداكم في القاع والبطاحا. وزعقَ بالأبطال في الميدان زعقة منكرّة مدوِّية فغلبهم وقصد الميَّاسة فتقاتلا ساعة من زمن، وأوشكَ على غلبتها، فلمَّا لم يرد قتلها ضربها بعقب رمحه وأسقطها عن جوادها. فهو الآخر، كصاحبنا سيغفريد، لا يريد أذيَّة منافسته والزوجة المنشودة.
نعود إلى سيغفريد وغونتر بعد أن تركناهما ينافسان برنهيلد، تقذف الحسناء الباسلة بالجلمود وتقفز قفزة مهولة إثرها، قصد غونتر صخرةً وتظاهر بحملها، وبفضل عباءة سيغفريد التي زادته قوة على قوته، قذف بالصخرة، وحملَ غونتر ووثبَ وثبةً علَّمت هزيمة برنهيلد. خاطبت المهزومة قومها ’هلمُّوا يا أهلي ورجالي وبايعوا الملكَ غونتر‘. أما صاحبتنا المياسَّة فبعد أن أفاقت من سقطتها قالت “وحق اللات والعزى لقد قهرتني ولو مهرني غريب لقتلت روحي ولكن أنت بعلي وأنا أهلك وأوصيكَ بالصبر على شروط أبي”.
ما بدأ به سيغفريد حتى يصل إلى برنهيلد كان معكوسا مع المقدَّاد يبدأ من حيث انتهى، فرحلة البلوغ لا تتوَّج بالزواج بل إثبات الكفاية في النفس لهذا الزواج. يطلب عمُّه منه مهرًا كبيرًا مُعجزًا قوامه “مئة ناقة حمراء سود الأحداق طوال الأعناق، وخمسمئة رأس غنم، وعشرين رأسًا من الخيل، وعشر جوارٍ وعشرة عبيدٍ، وألف مثقال من الذهب وألف مثقال من الفضة، ومئة وقية من المسك الأذفر ومئة وقية من كافور وعشر قفاف “…” أخضر”. يسيحُ المقداد إثرها في الأرض ليجلب مهر الميّاسة، وهو عليه لقدير. تنتهي القصتان نهايتين مختلفتين، فسعادة المقداد يقابلها شقاء سيغفريد، ورضا الميَّاسة ببعلها تناقضه نقمة برنهيلد على كريمهيلد.