ترنيمة لنُنغال قصيدة سومرية، من قصائد تمجيد الآلهة، يرجع تاريخها تدوينها إلى الحقبة البابلية القديمة (2000-1600 ق.م.)، لكن من المحتمل أنّها دوِّنت في حقبة سلالة أور الثالثة (2047-1750 ق.م.)، في عهد الملكِ شولغي (2029-1982 ق.م.) الذي اهتمَّ بنشر التعليم، وتأتى من اهتمامه تأسيس مدارس تعليم الكتابة المسمارية، المعروفة باسم إدابا (بيت الألواح)، وأنتجت الكثير من الأعمال المكتوبة.
الإلهة نُنغال هي إلهة السجون وإعادة التأهيل في أساطير وادي الرافدين، وابنة إريشكيغال ملكة العالم السفليّ، ومعنى اسمها “الأميرة الكبرى”، ومُنحت أيضًا اسم “مانُنغال”. ظهرت عبادتها في عصر السلالات (2900-2334) لذا فقد تكون هذه الترنيمة أُبدعت في ذاك العصر. عُثرَ على الكثير من الألواح المسمارية لهذه الترنيمة في آثار مدينة نفَّر (وأماكن أخرى من العراق) منتصفَ القرنين التاسع عشر والعشرين.
تُصنَّف القصيدة ضمن النصوص العَشَريّة Decad، والنص العَشَريّ أحد نصوص المجموعة الأدبية، المكونة من عشَرة نصوص، استخدمت نصوصها في التعليم. يتكون النص العَشَريّ في الأقل من مئة سطر ولا يزيد على مئتي سطر، وتغيب عنه تقسيمات القصائد الشكليّة والعلامات الصنفيّة الموجود في صنف الترانيم. يوجد اليوم نحو ثمانين نسخة من كل مجموعة نصوص عشَرية.
يتوزع متن هذه القصيدة ما بين ذكر أوصافَ السجن الرهيبة، وما يقاسيه السجناء فيه، ومديح نُنغال لنفسها، وفي ذكر محاكمة المتَّهم، وكيف أنَّ هذا السجن في جزء منه لإصلاح السجين إذ بُنيت دار السجن على الرحمة والشفقة. إنَّ تصوير هذه الدار ومآسيها وحالها تصويرٌ عنيف ببؤسه وعذاباته، وتفاصيله تبعثُ بالرهبة والخوف، فهي دارٌ ينزلُ فيها الظلمة والمذنبون والجائرون لينالوا جزاءَ ظلمهم وآثامهم.
اعتمدت في ترجمة القصيدة والتقديم لها على موسوعة تاريخ العالم World History Encyclopedia وكتاب أدب سومر القديمة The Ancient Literature of Sumer.
ما بين [] هو إضافة مقترحة مني لأن الموضع في اللوح مخروم ويتعذَّر قراءته.
… هو نقص في اللوح ولا يمكن معرفة المكتوب.
؟ أي إنَّ المعنى المقصود في اللوح غير مفهومٍ على وجه الدقَّة.
ترجمة القصيدة:
أيا دارًا يضربُ عدوَّكِ عاصفُ الأرض والسماء، أيا سجنًا ومَحبسَ الآلهة، وطوقَ الأرض والسموات الجليل.
مدخلُكِ ضياءُ المساء، والغسقُ المالئُ الأفقَ الفسيح، تذيعُ هيبتُكِ الرعبَ في النفوس.
بحرٌ غاضبٌ وموجهُ كالأطواد، ومجهولٌة مواضعُ قصفهِ الهدَّار.
أيا دارًا هي الشَّرَكُ ينتظرُ الأشرار، ترتعدُ منكِ فَرَقًا مِن الظَّلَمةِ الأوصال.
أيا دارًا نُسجت خيوطُ شباكِكِ باقتدار، تجمعُ الناس جزاءً باغتنام.
أيا دارًا ترقبُ الصالحين والطالحين، ولا نجاة من قبضتها لأثيم.
أيا دارًا أنتِ نهرُ البلاء، يلفظُ الأخيارَ ويلتهم ذوي الأوزار.
أيا دارًا تعظَّمَ اسمُك العالمُ السفلي، جبلٌ منه يشرقُ أوتو، ومجهولٌ على البصائر مجازُه.
أيها البيت الكبير، أيا سجنًا، وموطنَ الكبائر وعقابها الأليم.
أيا دارًا يقطنها القاسطُ والمقسطُ، وعظَّمَ آنُ اسمَها العظيم.
أيا دارًا أسسُكِ مُرسَّخةٌ بالهيبةِ المَهيبة.
بوَّابتُكِ صفراءُ بضوء المساء؛ نَزُّها الإشعاع.
سلالمُها أفواه التنانين الفاغرة؛ تنتظرُ التهام الناس.
عضادتُها خنجرٌ قتَّال ذو رأسين [يطعن] المجرمين.
زُخرفُها عقربٌ سريع الاندفاع في التراب؛ غلَّابٌ لا يهاب.
عمادُها المتوَّج بالنتوء آسادٌ، تخافُ الأقدامُ من براثنها الاقتراب.
حافَّتُها ذات ألوان شُبِّعت بالفزع الكبير.
مفاصلُها عُقبانٌ؛ لا تُضيِّع فيها المخالبُ شيئا.
بابُها جبلٌ جبَّار مُوصدٌ للأشرار، ومُشرعٌ للأخيار، مَن جاء بلا حول أو معين.
دعائمُها أُسدُ الشَّرى مُفزِعةُ الصدور.
مزلاجُها ثُعبان، لسانُه مُدلعٌ وفي فحيح.
رتاجُها أفعًى قرناء، تزحفُ في العراء.
أيا دارًا تغطّي الأرض والسماء، وشباكًا مبسوطةً في كلِّ مكان؛
أنَّى لذوي شرٍّ منكِ الهروب ساعةَ يُجرُّون إليك!
نُنغال مولاةُ الدار، الإلهةُ القويّة، فيضُ هالتِها يكسي الأرضَ والسماء،
مقرُّها فوقَ المِنصَّة الجليلةُ العليّة، ومقعدُها في باحة الدار الأبيّة،
ومن ذيَّاكَ المكان لها السطلة على البلاد.
تُصغي إلى الملكِ في المَجمع، وتنقضُّ على أعدائه؛
يقظتها لا تأخذها سِنةٌ أو نوم.
أيها البيت الكبير، يا فخًا ينتظرُ الأعداء، وخيرَ ناصحٍ لأهل البلاد-
برهيبِ أمواجِ فيضانٍ هادرٍ يجتاحُ ضفافَ الأنهار.
ساعةَ يأتيه الناس فرادى فأنَّى لرجلٍ أن يقاومَ هالته.
يا أرضَ القضاء فيكَ يسجدُ آلهة الأرض والسماء.
تشغلُ نِنغالا1 عرشها العليّ فوقَ منصة اللازورد؛
تراقبُ الأحكام والقضاء، وتفرِّق بين المُحسن والمسيء.
شباكها مُتقنةُ النسج مبسوطةٌ فوقَ البلادِ لأجلها،
وليس لمجرمٍ ما اتَّبعَ صراطها نجاةٌ من بطشها.
إنْ يسخطْ إلهٌ على عبده يأتِ به إلى الدار الكبيرة؟،
هي العاصفةُ الهوجاء، وفيضانٌ يغمرُ الأنحاء،
يسلِّمه إلى أيدي الجليلة نُنغال، حامية السجون.
أواهٍ من مصابِه في قبضةٍ أليمة كأنَّه ثورٌ أرجلُه ممدودة؟.
يُقادُ إلى دارِ الأحزان، عارٍ يدورُ، الوجهُ يغطيه اللثام.
[يذرعُ] الطريق حافي القدمين، [يجول] في الشارع العريض.
تعرفه قرابتُه فلا تُحدثه ولا تدنو منه.
أيا دارًا لا يسعُ حتى الرجل الجبَّار فتحَ بوّابتك، ولا نفع من التعاويذ؟
بوَّابةٌ لا تُشرعُ إلا لمدينةٍ في خراب، وحلَّ بها الدمار.
نُزلاؤها كطيورٍ تهربُ من مخالبُ البومِ، ترى في شُروعها شروقَ الشمس.
يحسبُ الأخُ لأخيه أيام الشقاء، لكن هيهات! فحسابهما في ضلال.
لا يعرفُ الرجلُ أتباعه، منكرون همُ وغرباء.
لا يميزُ الرجلُ ما كان بينه وأتباعه من أسرار؛ قد تغيَّرت الوجوه.
أيا دارًا مدخلُ معبدكِ يثيرُ البكاء والرثاء والصراخ.
آجرُ جدرانكِ يمحقُ الأشرار ويلدِ من جديد الأخيار.
وتتركُ غضبةُ قلبكِ المرء يسلخُ أيامه في ندبٍ ونواح.
حين تأزفُ الساعةُ يتحضَّرُ السجنُ للاحتفال؛ تحضرُ الآلهة مقرَّ الحِساب،
عند نهرِ البلاء، تفصلُ بين الأخيار والفُجَّار، يُولد حينئذٍ كرَّةً أخرى الأخيار،
وتنقضُّ نُنغال على غريمها، ليس له من قبضتها مهربٌ أو خِيار.
تمتدحُ نفسها إثرها الإلهة القوية، السيدة الجذلى، نُنغال المقدَّسة:
’قرَّرَ آن لي المصير، أنا السيدة، أنا ابنةُ آن.
حباني إنليل خيرَ الأقدار، أنا حليلةُ ابنه.
وهبت لي الآلهة القوى السماويّة في الأرض والسماء.
منحتني أمي إريشكيغال قواها المهيبة.
نصبتُ منصةَ اللازورد الجليلة في العالمِ السُّفليّ، الجبلِ حيثُ يشرقُ أوتو.
أنا ربَّةُ البيتِ العظيم، المقرِّ الملكيّ المقدَّس.
حديثي بفخامة مع إنانا، أنا مهجةُ قلبِ إنانا.
أعينُ نِنتود2 عند الولادة؟ أجيدُ قطعَ حبلِ السُّرَّة وتقرير المصائرِ بعذبِ الكلام.
أنا المولاة، مُضيفةُ إنليلَ الحقُّ، مَن كدَّسَ لي الخيرات.
خزائني مملوءةٌ أبدًا ليس لها نفاد…
الرحمةُ لي والمغفرة لي، ولستُ أهابُ أحدا.
عيني على شعب الرؤوس السوداء3 يقظةٌ، أراقبهم أبدا.
بيدي لوحُ الحياة، أدوِّن فيه أسماءَ الصالحين،
وليس للأشرار من بطشي مهربٌ؛ أعلمُ ما يفعلون.
أنا الأمُ الإلهة وكلُّ البلاد إليَّ قاصدة،
أنا مُنزلةٌ العقاب الأليم، أنا الأمُّ الرؤوم.
أنا أسكتُ الغضبَ عن الفؤاد المكلوم،
وأنتزعُ الرجالَ من مخالبُ الهلاك.
داري على الرحمةِ مبنيّة، وأنا السيدة واهبةُ الحياة؟.
ظلُّها كظلِّ شجرِ سَرو ينمو في أرضٍ نقيّة.
بِرتوم4 الجبَّار زوجي، يقطنُ في الدار معي،
يشغلُ مقعده فوق المِنصة المهيبة العليّة، يفوه بأوامره القويّة.
حماة داري إلالهاتُ البهيَّات الحافظات…
قهرماني إيغ-أليم طوقٌ في يديَّ، رفعتُ شأنه ليتولى أمر بيتيَ
… رسولي لا ينسى شيئًا، فخرُ القصرِ.
سميُّ إنليلَ في المدينةِ، وأنا أفرقِ بين الحقِّ والباطل.
نِنخارانا تأتيني بالأخبار وتفردها بين يديَّ.
مُزيِّني الرئيس يُصفِّفُ فراشي في البيتِ المبطَّنِ بالرهبة.
نِزيلا تُنظِّم حفلاتِ المتعة؟.
حين يؤتى برجلٍ إلى قصر الملك، ويُتَّهم بارتكابِ كبيرةٍ؛
يمدُّ نائبي الرئيس، نِنديمغول، يده باتِّهام؟
يقضي على الرجلِ بالموت، لكن لا ينزل عليه الموت،
ينتزعُه من أنياب الهلاك، ويأتي به إلى دار الحياة ويحبسه.
لا أحدَ في بيتي المغبَّرِ لباسه نظيف؟
يتهاوى بيتي على الرجلِ كالمخمور،
ليس له أنيسٌ سوى فحيح الثعابين والعقارب في ظلمة الدار.
تلدُ داري الصالحَ وتفني الطالح.
في آجر جدارن داري شفقةٌ ودمعٌ، دارٌ على الرحمة مبنية.
تُهدِّئ من روع السجين، وتنعشُ روحه.
حين يرضي قلبُ الإله عن رجُلِه السجين،
وينظفُ مثل الفضَّة اللجين، ويلمعُ نقيًا من التراب،
ويُنفضُ عنه القذرُ والغبار، مثل الفضَّة اللجين…
سيُعهدَ به إلى إلهه المعطاء من جديد.
ليُشدْ بي بعدها إلهُ الرجل كما أستحقُ أبدا،
ليلهجْ بذكري الرجلُ مُمجِّدًا، ويفصحْ عن عظمتي!
ليُلهجْ بفضائلي في كلِّ البلاد وتُشكرْ.
ليأتني… بالزبد من زريبة الماشية، ليجلبْ إلي أفضله!
ليأتني بالخراف السمينة من الحظائر النقيّة، ليجلبْ إلي أسمنها!
لن أكلَّ ساعتئذ عن حفظه وأكون بالودِّ حاميته،
وأكون في القصر حارسته، عيني لأجله لا تغفل‘.
من أجلِ من كشفتْ عن عظمتها،
من أجلِ من أتاحتِ السجنَ، المحبسَ، مقرَّها الحبيب، ذا الرهبةَ المُشِعَّة-
لتسبَّحْ نُنغال، الإلهة القويّة، طوق الآلهة الأنوناكي،
من… لا علم لأحدٍ، المُتقدِّمةُ التي لا تُمسُّ قواها الإلهيّة.
1- إلهة من آلهة السومريين والأكديين، ومعنى اسمها سيدة القصر، وهي إلهة القصور، وعملها مقرون بنُنغال إلهة السجون.
2- إلهة لها دور في خلق البشر، وهي إلهة الإنجاب، لها أسماء أخرى مثل مامي، وهي في الغالب نينخورساج، قرينة أنكي.
3- شعب وادي الرافدين.
4- زوج نُنغال ومعنى اسمه قيد.