مقالات عامة

مصطفى صبري وخفايا إلغاء الخلافة الإسلامية

يُعد الشيخ مصطفى أحمد صبري صاحب آخر أعلى مركز ديني في الخلافة العثمانية، شهد في حياته تآمر أتاتورك وحزبه على الخلافة العثمانية، وما جرَّه ذلك من ويلات على الأمة الإسلامية جمعاء بإلغاء الخلافة العثمانية. كان الشيخ مصطفى الصوت الهادر والمناقش والمُفند لكل الإدّعاءات الباطلة، كاشفًا زيف وبطلان الاتحاديينحزب الاتحاد والترقيوالكماليينأتباع أتاتوركفي كتابالنكير على منكري النعمة من الخلافة والأمة والدين“. فما تعرّضت له الأمة بعد زوال الخلافة الإسلامية كان الضربة التي قصمت ظهرها فتشتت، وتمزّقت إلى دول ودويلات يقودها ملوك ورؤساء خضعوا للمستعمر الأجنبي

كان أول ما قام به أتاتورك أن عزل الخليفة عن السلطة حتى بدا واجهةً لا أكثر ليس له من الأمر شيءٌ، وهذا ما حذّر منه الشيخ مصطفى صبري وله موقف واضح وصريحإن إلغاء الخلافة هو مشروع لتهديم الأمة“. وهذا ما حصل، وما ألغوها إلا تنفيذًا لغاية الإنجليز وهذا ما كشفه اختلاف البرلمان البريطاني عندما قرر ألا يدعم اليونانيين في حربهم ضد العثمانيين، وانسحابهم معللين هذه الحركة بأن دولة تركيا الجديدة ليست كسابقتها. إن زوال الخليفة هو زوال القائد الموحد لهذه الأمة وهذا ما كان يحسب له الإنجليز حسابه، فلما ألغوا الخلافة شرّقت الأمة وغرّبت وضاعت بين أيدي المستعمرين وأضحت لقمة سائغة في أفواههم. أصاب الخلافة العثمانية في أواخر عهدها الضعف حتى بدت عليها أمارات الاحتضار فالمغرب العربي حكمه ضعيف وتتدخل فرنسا في شؤونه، واحتلت في نهاية القرن التاسع عشر الجزائر وتونس، والجزيرة العربية تشهد معارك بين القبائل، وقيام الدولتين السعودية الأولى والثانية حتى جاء عبد العزيز وأسس السعودية الحديثة، فسيطر على نجد وأصبح سلطانها ودخل في صراع مع أمير مكة الشريف حسين. وكان الاثنان على اتصال مستمر بالإنجليز الذين دعموهما، وهذه سياسة الإنجليز بجعل القبائل تتناحر فيما بينها، حتى رجحت كفة عبد العزيز فنال رضاهم لكن هذا لم يكن كافيا فقد استرضاهم الشريف حسين، وكما يصف الشيخ مصطفى صبري ما حدث من خيانة بعض العرب للخلافة العثمانيةالطعن من الداخل“، فكانت بحق طعنة من الداخل لجسد الأمة التي مزقتها شر ممزق، وليت الإنجليز أوفوا بعهدهم ووعودهم، لا، فاُحتل العراق والشام وبيعت فلسطين لليهود وبقي الشريف حسين بسواد فعلته يشهد التاريخ بسوئها يوم أطلق النار مشيرا لبداية الثورة!

ردع منصب الخليفة كل محاولة احتلال لأرض العرب أو قطع فلسطين وبيعها لليهود، يقول الشيخ مصطفىإلغاء الخلافة ونقل الحكم لمجلس الأمة هو الضوء الأخضر لدمار المسلمين وإن المسلمين بعد هذه الفعلة لن تقوم لهم قائمة“. فألغى أتاتورك المحاكم الدينية وأبعد الشريعة عن القانون واستبدلها بقوانين مدنية سويسرية، متحججا أن الشرع لا يتماشى مع التطور والحضارة، وما هذه الحركة إلا لإبعاد الإسلام وإقصائه من تركيا تدريجيا، وفتح طرق أخرى بإلغاء المدارس الدينية ومنع الحجاب ومنع لبس الطربوش، حتى وصلت لإعدام من لبس الطربوش ونشر الرذيلة وأُسس التحلل داخل المجتمع التركي المسلم، ومنع استخدام الحروف العربية في الكتابة وتبنّي الحروف اللاتينية، وبهذا جعل من سكان الأناضول شعبًا أُميًا بالكامل، ولم تعرف أمة في التاريخ مثل هذا الفعل. ومما بدأ يتفشى في هذه الأمة هي القومية فعزّز الإنجليز القوميات مستغلّين من خدعوهم من المسلمين؛ فدعموا الصراع القبائل في الجزيرة العربية ليشغلوهم بأنفسهم، ونادى حزب الاتحاد والترقي بالقومية التركية، والمصريون بالمصرية، فبعد أن كانت الأمة يجمعها الدين وتوحدها العقيدة أضحت القومية نداءها. وقد خُدع العرب بأتاتورك ونضموا فيه الشعر بل عدّوه من سيعود بالأمة إلى أمجادها التليدة لكن أنّى هذا. وبعد أن أُجبر مصطفى صبري على مغادرة تركيا وتوجه إلى الإسكندرية ولاقى من سوء الاستقبال ومهاجمة الصحف له، وعانى هذا بما يوضحه في كتابه النكيربأن ما حصل زاد من بؤسه وأن انخداع المصريين بأتاتورك لا مبرر له ولا عذر وكان لا بد لهم من أن يسمعوا من كان في ظل سلطته“. تعود أسباب هذا التوافق والانخداع بأتاتورك، هو ما قام به حزب أتاتورك من بث الأخبار الكاذبة والمزعومة عن الحكومة الجديدة والتطور الذي ستشهده تركيا حين تواكب عجلة التقدم والتطور الذي تشهده أوروبا، ومن الأسباب الأخرى هي الطفرة التي شهدتها مصر بعد استلام محمد علي وأولاده الحكم في مصر قرنا من الزمن، وما شهدته مصر من تطور وانفتاح على العالم والبعثات التي أرسلت إلى فرنسا، وتطور الحركة العلمية والأدبية وصدور الجرائد وانتشار الترجمة والتعريب والطباعة، كل هذا كان له دور بتأثر الطبقة المثقفة التي احتكت مع العالم الغربي، وابتعد الناس عن الدين وانتشر الإلحاد واللا دينية عند بعضهم، وهي مقومات جعلت التأثر سريع بأتاتورك لا سيما بعد استرداد أزمير التي احتلها اليونانيون على يد أتاتورك. وهنا يحلل الشيخ مصطفى صبري كيف أمكن الدولة البريطانية العظمى التي خرجت من منتصرة من الحرب العالمية الأولى أن تنسحب، وتُمنى بالهزيمة أمام أتاتورك، وتترك حليفتها اليونان! لكنه لا تغيب عنه أن تركيا أتاتورك ليست تركيا العثمانية، وهذه الهزيمة المفتعلة لها من النتائج أهم وأفضل من أزمير وهذا ما أثبته التاريخ بعدها باحتلال للعراق والشام بموجب الاتفاقية مع الفرنسيين (سايكسبيكو).

إن سقوط الخلافة العثمانية ليس محض انتهاء حقبة حكم بل سقوط للأمة في منحدر فبعد مئة عام ما زالت الأمة ضائعة في التيه، ولم تكن سياسة المستعمر سوى تفريق للجمع وتمزيق للأرض، مستغلًا العملاء وضعاف النفوس لتنفيذ مآربه، ويصف الشيخ مصطفى صبري موقفه من أتاتورك قائلامهما بلغت قوة حكومة أتاتورك فهذا لن يُفرحني لأنهم في مقام أعدائي“. تفرقت الأمة وعانت ما عانت على مدار قرن من الزمن منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى سبعينات القرن العشرين من حروب وثورات وصراعات، ليخرج اليوم من يقول أين نحن وأين الغرب غافلا وجاهلا أن اليوم هو ابن الأمس، وأن المستقبل هو وليد اليوم، فكيف تنهض أمة ضاع من يوحد أمرهاالخليفة“، فقوة المسلمين في خليفة يجمعهم ويستنهض بهم لأجل أن يكون لهم موقع في عالم اليوم في أرض واحدةأرض خلافة“، وهذا ما يخشاه أعداء الأمة وعملوا ضده. فهل كان الوضع أفضل قبل زوال الخلافة العثمانية أو بعدها؟ أضاعت فلسطين حين كان عبد الحميد سلطانًا أم بعد أن جاء الدونمي أتاتورك؟ ولا نغفل الدور اليهودي الذي كان واضحًا وجليًا في إنهاء الحكم العثماني فبعد محاولاتهم لشراء فلسطين بدفع ديون الدولة العثمانية إلا إن رفض عبد الحميد الثاني لعرضهم أغاض اليهود. وكان هرتزل يتحين الفرص لقاء عبد الحميد وتقديم العرض إليه لكن خابت مساعيه برفض عبد الحميد، فعملوا على تشويه سمعته ونشر الأكاذيب عنه واستخدام الشارع في الترويج لكل الأكاذيب ليحطوا من صورة الخليفة في نظر الأمة، متبعين ذات السياسة التي استخدموها في فرنسا وبريطانيا وضد أي شخصية ذات سلطة تقف في وجه رغباتهم. وظلم التاريخ شخص عبد الحميد وبالعودة لمذكراته تُبان كثيرٌ من الحقائق المخفية، ويكفي عبد الحميد أنه حين استلم الخلافة كانت الدولة مدينة بـ300 مليون جنيه فخفض الديون إلى 30 مليون جنيه فقط، وفي الجهة المقابلة ترك أتاتورك الدولة وعليها ديون تقدّر بـ400 مليون جنيه بعد أن استلم خلافة تمتد شرقًا وغربًا. وهنا يُعلق الشيخ مصطفى صبريإنه لم يكن ليمانع لو كان أتاتورك خليفة لكنه كان ملحدًا كافرًا بالأديان، ومن شدة سوئه إنه قبل أن يموت عرض رئاسة تركيا على السفير البريطاني في تركيا في حادثة لم يشهد التاريخ مثلها. ودار في خلده في حربه على الإسلام أن يحول ديانة تركيا الرسمية، كما تكشف بعض الاعترافات من مقربيه الذين رفضوا هذه الفكرة بما قد تجلبه من عواقب وخيمة تُودي بكل شيء. ومن مساوئ أتاتورك وحزبه الحاكم، يقول الأمير شكيب أرسلانولقد كانت في السلطة العثمانية الملايين من المسيحيين يعيشون وافرين مترفين كاسبين متمتعين بامتيازات كثيرة مدة عمل الأتراك بالشرع الإسلامي، فلما جاءت دولة تركيا الحاضرة وبطل العمل بالشرع وأخذ الترك بأوضاع الإفرنج وقلدوهم في كل شيء وتحولوا إلى سياسة التمغرب لم يبق في جميع الأناضول إلا فئة قليلة جدًا من المسيحيين“. ما جاء أتاتورك إلا ليخرب وما دعمه الإنجليز إلا لإنهاء الخلافة الإسلامية، والنتيجة ما نعيشه اليوم وعاشه من كان في الأمس القريب في تاريخنا المعاصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى