مقالاتمقالات عامة

كيف أضاع الأيوبيون هيبة بيت المقدس

وقع في التاسع عشر من شباط سنة ١٢٢٩ حدثٌ غريب تمثل بتسليم جزء كبير من مملكة بيت المقدس، التي حررها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام ١١٨٧، إلى الصليبيين، وفق معاهدة يافا التي عُقدت ما بين الملك الكامل ملك مصر والإمبراطور الألماني فريدريك الثاني الذي قاد الحملة الصليبية السادسة. وقبل الحديث عن هذا الحدث الجلل علينا أن نلقي نظرة سريعة على الأحداث التي جرت وقتها: تعد الحملة الصليبية السادسة بقيادة الإمبراطور الألماني فريديك الثاني من أغرب الحملات ويلخصها أ.د. محمد سهيل طقّوش بثلاث نقاط: ضآلة الأعداد المشاركة، إذ لم تتجاوز الستمئة جندي. وعدم تأييد البابوية. وساد أوساط الحملة الصليبية السادسة روح التسامح مع المسلمين عكس سابقاتها. 

استلم الملك الكامل حكم مصر بعد وفاة والده الملك العادل بن أيوب، وهو أخو صلاح الدين، وشارك أخاه تحرير بيت المقدس. وقاد الكامل جيش الدفاع ضد الصليبيين في الحملة الصليبية الخامسة (١٢١٧- ١٢٢١) م في مصر، وانتهت بجلاء الصليبيين الذين توجهوا أول مرة إلى مصر بعدِّها الحامية الحقيقية لبيت المقدس وسقوطها يعني سقوط بيت المقدس، وجدير بالذكر أنها حملة امتازات بدوافع اقتصادية أكثر مما هي دينية لذلك أدت إلى فشلها بطريقة قد كان سيُكتب لها النجاح في إسقاط مصر لو أنهم استغلوا الفرص التي أُتيحت لهم. وقد عرض الكامل في حصار دمياط الذي استمر أحد عشر شهرا الصلح على الصليبيين وتسليمهم جميع ما حرره صلاح الدين لكن عجرفتهم وغباؤهم منعهم من القبول، وتكرر العرض وللأسف أربع مرات! ولكنَّ الصليبيين رفضوه نظرا لثقتهم بانتصارهم التي خيبتها النتائج. 

وفي هذا الوقت قد بدأ جنكيز خان بحملاته ضد الشرق وغزوات المغول ضد الخوازرميين سنة (١٢١٩-١٢٥٨) م الذين كانوا لاعبا رئيسا في المنطقة الشرقية سيطرَ على الخليفة العباسي، مما جعل الكامل يفكر بالتهديد المغولي القادم من الشرق، وكذلك خلافه مع أخيه المعظم عيسى حاكم دمشق والأشرف موسى حاكم إقليم الجزيرة الفراتية. تزامن هذه الأوضاع جعلت الكامل يطلب من فريديك الثاني، الإمبراطور الألماني، القدوم وتسلميه ما حرره صلاح الدين شرط أن يسانده معه ضد المعظم عيسى. ويمكن القول إن هذه الصراعات الداخلية التي تلافاها أصحابها في الحرب الصليبية الخامسة عادت بعد انتهائها وهي من الأخطاء الإدارية التي ارتكبها صلاح الدين بتوزيع السلطات والإدارة على أفراد عائلته، لتثبت فشل الحكم الفيدرالي مع نزعة الأمراء على توسيع ما تحت أيديهم من ممتلكات. 

**

جاء فريديك الثاني ونزل في عكا، وطلب من الكامل إيفاءه العهد بتسليم بيت المقدس، لكن الكامل رفض، نظرا لوفاة أخيه المعظم عيسى، وطلب من سفيره فخر الدين يوسف بن الشيخ بإطالة أمد المفاوضات والمساومات، وقد أدى استلام الناصر داود بن المعظم عيسى الحكم في دمشق، ونية جلال الدين الخوارزمي التوسع في الغرب (بلاد الشام ومصر) ووجود الصليبيين بعد أن أتمَّ فريديك الثاني تحصيناته في يافا- إلى زيادة مخاوف الملك الكامل مما دفعه إلى توقيع اتفاقية يافا تضمن تسليم الإمبراطور الألماني: مدينة القدس وبيت ولحم وشريط ضيق من الأرض ينتهي إلى يافا، إضافة إلى مدينة الناصرة ومدن أخرى! مع مزايا إضافية. رُفِضتْ هذه الشروط من المسلمين والصليبيين على حد سواء، رفضها المسلمون إذ هي عار أن تسلم مدينة سفكت الدماء لأجلها بسهولة، ورفضها الصليبيون كون فريديك الثاني لم تؤيده البابوية ولأن المسلمون سيحتفظون بالمسجد الأقصى، إذ كانت المعاهدة تنص على اقتسام مملكة بيت المقدس بين الاثنين. دخل فريديك الثاني مدينة القدس في السابع عشر من آذار سنة ١٢٢٩م مدينة القدس مع عساكره من الألمان والإيطالين وبعض الأساقفة وتسلم مفاتيح المدينة من القاضي شمس الدين، قاضي نابلس، نيابة عن الملك الكامل، وكانت المدينة خالية من المسيحيين والمسلمين الذين هجروها، وتوج نفسه في موكب صغير في اليوم التالي ملكا بعد أن رفض القساوسة تتويج ملكٍ محرومٍ، نظرا لموقف البابا والكنيسة الرومانية منه. وزاد الكامل الطين بلة حين طلب عدم رفع الأذان في المدينة أثناء وجود الإمبراطور احتراما له! الأمر الذي أثار استياء المسلمين وحتى فريديك الثاني نفسه لسخرية القدر، إذ يروي المقريزي أن فريديك الثاني قال لشمس الدين: “أخطأ فيما فعل، والله إنه كان أكبر غرضي المبيت في القدس وأن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل”. غادر بعدها فريديك الثاني نحو قبرص نظرا للنزاعات التي حدثت في أوروبا وقتها. وبقيت مملكة بيت المقدس قانونيا في الأقل تابعة للإمبراطورية الرومانية إلى سنة ١٢٦٨م، لكنها لم تلقَ اهتمام الملوك ولم يمكث فيها أحدهم. استمرت الخلافات بين الأمراء الأيوبيين، فتحالف الصالح إسماعيل الذي كان يحكم دمشق مع الصليبيين سنة ١٢٣٩م، ووعدهم بإعطائهم بيت المقدس نتيجة لخلافه وخصومته مع الصالح أيوب الذي اعتلى عرش مصر بعد الكامل. لتستمر مسلسل وعود وتسليم بيت المقدس إلى الصليبيين في كل مرة يضيق فيها الخناق على الأيوبيين، واستمر الصراع بين الرجلين حتى وعدا بمنح السيطرة المطلقة على بيت المقدس بما فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة اللتين كانتا من ضمن حدود المسلمين في اتفاق يافا، فما فعله الأيوبي صلاح الدين وعمه أسد الدين شيركوه في جهاد الصليبيين ثم تأسيس الدولة الأيوبية شوههُ خلفاؤهم وخربوه. 

كان الخوارزميون (مسلمون) في الشرق قوة يمكن الاستعانة بها، ونتيجة لتحالف الصليبيين مع الصالح إسماعيل، دعا الصالح أيوب الخوازرميين وتحالف معهم وعبر عشرة آلاف مقاتل إلى بلاد الشام وتوجهوا إلى بيت المقدس فحرروه عام ١٢٤٤م وقتلوا الصليبيين وطاردوهم في الشوارع، وقُدِّر عدد من قتلوه قرابة ألفي مقاتل ونهبوا الدور المسيحية وهرب ثلاثمئة مقاتل إلى يافا، وبهذا ضم الصالح أيوب بيت المقدس لملكه وملك المسلمين من جديد، وبقي بيت المقدس تحت سيطرة المسلمون ولم يدخله جيش صليبيّ حتى عام ١٩١٤م إذ دخله الصليبيون الجدد (الجيش البريطاني). 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى