يبقى الآخر في العمل الأدبي الروائي عنصرا مهما، ولا غنى عنه، بل لا يقوم العمل الروائي في الغالب دون هذا الآخر، مع التفاعل الاجتماعي معه، أو الصراع العرقي أو الأيديولوجي أو الطبقي، وبقى هذا الموضوع والصراع قائما في الرواية وتطورها بل أنه من العناصر المميزة في روايات ما بعد الحداثة، من خلال إزالة هذه الفوارق الطبقية أو ما سماه د.هـ. لورانس بالوعي الطبقي، حيث عمد روائيو ما بعد الحداثة على تقويض أي فوارق طبقية في الرواية، ويبقى الآخر في الرواية ذو آلية جدلية خاصةً إذا ما روفق بالعنصرية أو الاستعمارية. في بداية التسعينيات من القرن الماضي وكما يشير مترجم الكتاب محمد مشبال صدرت ثلاثة كتب تتناول علاقة السرد الروائي بالآخر الأجنبي أو المستعمر أو الزنجي، والتي سعت إلى هدف واحد تقريبا على الرغم من اختلاف وتباين في أدواتها المنهجية، هذا الهدف هو تحقيق التواصل ولم شمل الشعوب والأعراق بإعادة الفحص والقراءة لموروث ثقافي متورط في التجربة التاريخية الإمبريالية وفي النظرة الاقتصادية والدونية للسود والملونين. وهذه الكتب هي “الإمبريالية والثقافة” لإدوارد سعيد، و”بناء الصورة في الرواية الاستعمارية- صورة المغرب في الرواية الإسبانية” لمحمد أنقار، و”اللعب في الظلام: الأبيض والخيال الأدبي” لطوني موريسون الرواية الأمريكية ذات الأصول الإفريقية، وتُرجمَ إلى صورة الآخر في الخيال الأدبي، ولا أدري لماذا وضع عنوان كهذا مع إدراك المترجم أن هذه العنوان ليس العنوان الأصلي، وعنوان صورة الآخر في الخيال الأدبي يعطي انطباعا للقارئ أن الكتاب يتناول صورة الآخر في الرواية عموما، وليس السود في الرواية الأمريكية، كما حدث معي، على أي حال، فإن المترجم يقدّم كتاب موريسون وكتاب إدوارد وأنقار، ووضع القارئ في الصورة من أجل فهم أوسع وأكثر شمولا لموضوع كتاب موريسون، إذ يشير إلى دور إدوارد في إعادة تأويل الرواية وارتباطها بالتجربة التاريخية الآثمة للإمبراطوريات الغربية وأن أنقار قد أثبت الانصياع غير المحدود وغير المقيد بأصول الفن الروائي ومقتضياته للأطروحة الاستعمارية لا يمكن أن ينتج سوى أعمال رديئة، وأن ليس أمام الرواية الاستعمارية الجيدة والمقنعة سوى الانخراط في جدل حقيقي بين الأيديولوجيا وبين مستلزمات الفن. وما قامت به موريسون في كتابها -في طموحها لتوسيع دراسة الأدب الأمريكي- إعادة تأويل الرواية الأمريكية لتثبت حضور السود في الرواية وأهميته السردية والثقافية في تحديد هوية الذات الأمريكية البيضاء. تنقد موريسون في كتابها بعض الروايات الأمريكية والنظرة إلى الأسود “الزنجي” فيها، والدور الهامشي والإقصائي الذي مورس بحق من أسمته “الإفريقيانية” وتقول إنها لا تستخدم هذا اللفظ للدلالة على المعرفة الجامعة حول إفريقيا على نحو ما كان يقصد إلى ذلك الفيلسوف فالنتين موديمب، أو للدلالة على تنوع الشعوب الإفريقية وتركيباتها أو الإشارة إلى سلالتها التي استوطنت هذا البلد. إنني أستخدمه بعده لفظا يراد به السواد الدال والموحي الذي صارت تعنيه الشعوب الإفريقية، كما يراد به السلسلة التامة للرؤى والافتراضات والقراءات الخاطئة التي تصاحب معرفة المركزية الأوروبية بهذه الشعوب، وهو مثل المجاز في خضوع استعمالاته لبعض التقييد. لا تنطلق موريسون في كتابها هذا من منطلق ناقدة فقط بل كاتبة وقارئة أيضا، إذا تقول: “ليست الكتابة والقراءة ممارستين متميزتين بشكل واضح بالنسبة إلى الكاتب؛ فهما معا تقتضيان اليقظة والاستعداد لاحتواء الجمال غير القابل للتفسير، والتعقيد أو الأناقة اللذين يتسم بهما خيال الكاتب، والعالم الذي يستدعيه الخيال. كما تستوجبان الوعي بالمواضع التي يدمر فيها الخيال ذاته ويقفل أبوابه ويلوث رؤيته. تعني الكتابة والقراءة الوعي بمفاهيم الكاتب حول المخاطرة والسلامة والبلوغ الهادئ أو الصراع اللذيذ لأجل المعنى والقدرة على الاستجابة”.
الكتاب مقسم إلى ثلاث مقالات هي: قضايا سوداء، والظلام وسمات الرومانس، والممرضات المزعجات وطيبوبة سمك القرش. تقول في تناولها لموضوع الأسود في الرواية الأمريكية ومدى الإبعاد الذي تعرض له من قبل النقاد: “منذ مدة وأنا أفكر في صحة أو هشاشة جملة الافتراضات التي تعارف عليها مؤرخو الأدب ونقاده وراجت كما لو كانت “معرفة”. هذه المعرفة التي ترى أن الأدب الأمريكي التقليدي والمعترف به، لم يخضع في شكله وصياغته لتأثير الأفارقة الأوائل ثم بعد ذلك لتأثير الأفارقة الأمريكيين طوال الأربعمئة سنة التي وجدوا فيها بالولايات المتحدة. وهذا يفترض ذلك شكل الجسد السياسي للأمة الأمريكية ودستورها وتاريخ ثقافتها برمته، لم يحظَ بمكانة مهمة أو لم يكن له أي شأن في أصول الثقافة الأدبية وتطورها… ويبدو أن ثمة ما يشبه اتفاقا ضمنيا بين الدارسين للأدب الأمريكي ظل حكرا على نظرات الذكر الأبيض وعبقريته وقدرته، لا يمت بصلة إلى الحضور الساحق للسود في الولايات المتحدة”. وإرادة منها في إعادة قراءة الرواية الأمريكية وتصويرها للرجل الأسود صاحب التاريخ الطويل من المعاناة والعبودية تتناول بعض الروايات كرواية “سافيرا والأَمَة” لإيما كاتر، وهي الرواية التي تدور حول سافيرا المرأة العجوز التي تشك بزوجها في علاقة مع ابنة خادمتها العبدة نانسي، لتدبر محاولة اغتصابها من قريب لها، لكي تمنع زوجها من الاقتراب منها، لتهرب بعدها نانسي، تنقد موريسون هذه الرواية وإعادة ترتيب الاستراتيجية القصصية والاجتماعية مبينة نقاط ضعفها وتعاملها غير المنصف مع السود انطلاقا من كونهم عبيدا وخدما، والرؤية التي تتعامل معها سافيرا مع عبيدها، وتنظر إليهم بأنهم مخلوقات بطباع وسمات مختلفة ولا يمتون للأبيض بصلة. ومؤكدة على الحضور الأسود الإفريقاني في الرواية الأمريكية، بعد استعراض عدد من الروايات تضيف موريسون: “سواء كان صريحا أو ضمنيا، يشكل الحضور الإفريقاني بطرق مفروضة ولا مفر منها نسيج الأدب الأمريكي. إنه الحضور المظلم والثابت، ولأجل لذلك كان الخيال الأدبي قوة وسيطة مرئية وغير مرئية على السواء. وحتى عندما لا تقوم النصوص الأمريكية على الحضور الأفريقاني أو الشخصيات الأفريقانية أو السرد الأفريقاني أو اللهجة الأفريقانية، يخيم الظل في التضمين والإشارة وخط التميّز”. فترى الإفريقانية الأداة التي تُعرف بها الذات الأمريكية أنها غير مستبعدة بل حرة، غير منفرة بل محبوبة، ذات غير عاجزة بل قوية، وأنها ليس بلا تاريخ بل تاريخية، وغير لعينة بل بريئة، وليست حدثا تطوريا أعمى بل إنجازا متدرجا للمصير. تختم الكتاب بحديث عن الحضور الأسود الإفريقاني في روايات همنغواي، وأن تناولها لهذا العمل بأنه تأملات لا تدور حول مواقف الكاتب تجاه العرق؛ فهذه مسألة أخرى. على الرغم من أن الكاتبة أثارت موضوعا نقديا مهمة في تناولها للرواية الأمريكية والآخر الإفريقاني، فالكتاب يبقى قاصرا عن الإحاطة بكل ما أرادته الكاتبة، وهي لا تنكر هذا الأمر بل تعترف ضمنيا من خلال دعوتها للقيام بالبحوث النقدية والدراسات حول العنصر الإفريقاني في الرواية الأمريكية، طارحة عدة أسئلة وعناوين ينطلق منها من أراد أن يُكمل ما شرعت به في هذا الكتاب.
يبدو أن موضوع الفرد الأمريكي الأسود إزعاج يقض مضاجع الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، فرغم معاناتهم حتى حصولهم على كامل حرياتهم، فهم حتى اليوم يعانون من بعض الممارسات العنصرية والتصرفات التي لا تتلائم مع روح العصر أو في الأقل مع الدستور الأمريكي الذي ضمن لهم حقوقهم، وأن النظرة الدونية التي يمارسهم البعض ضدهم، تزيد الجرح إيلاما، والمبادرة التي قامت بها موريسون في هذا الكتاب، هي محاولة لتوسيع عملية التطهير لكل الترسبات الإقصائية والعنصرية وإعادة الاعتبار للفرد الأمريكي الإفريقاني في حقل الأدب بحسبه سجل الأمة، وله الأثر الأكبر في نفوس أهل الداخل الأمريكي والعالم الخارجي.