انتهجَ الحريري نهج أستاذه الهمذاني في فن المقامة، وسار على خطاه في كتابة مقاماته، وتقلَّب في مقاماته ما بين التقليد والتجديد، فهي السمة البارزة في مقاماته إذا ما قُوبلت بمقامات الهمذاني. كان الحريري على إدراكٍ تامٍ ومعرفة شاملة ومتغلغلةٍ بمقامات الهمذاني ومواضيعها وبُنيتها وشخصياتها، وهذا ما تكشفه مقاماته ولا يعني ذلك أنَّه فهم كلَّ تفاصيل مقامات الهمذاني إذ في يظهر أحيانا تقليده دون أن يكون قد فهم تمامًا تطوُّر مقامات الهمذاني حتى وصلت إلى المثال الأعلى المِعياريّ. وهو على سعة تفحُّصه وإدراكه لما أتى به الهمذاني واتباعه له فقد جدَّد في مقاماته وتجديده بارزٌ محسوب له، إذ وسَّع تخوم المقامات وأعلى بُنيانها وزخرفَ حُجراتها وشذَّب حدائقها، وأخرجَ مقاماته على مستوى واحدٍ متقارب على عكس مقامات الهمذاني المتباينة المستوى. ويستحق الحريري بفضل ما شيَّده من مقامات وترسيخٍ لبُنيتها لقبَ كاتب المقامات الأرفع بعد الهمذاني.
يتنوع التقليد عند الحريري ما بين بُنيويّ وموضوعيّ وأسلوبيّ. نبدأ من بُنية المقامة فهي في أغلب المقامات تتكون من توطئة الراوي الحارث بن همَّام لذكر حاله وأيامه ثم الحدث الرئيس المتمثِّل في حديث أبي زيد السروجي سواء في كدية أو حيلة أو خداع ثم التعرُّف والفراق. وتكون بعض المقامات مرافقة ما بين الحارث والسروجي، كما الحال مع عيسى والإسكندري، في المقامات: البكريّة، التبريزيّة، العمانيّة، التفليسيّة. وكذا الحال مع سنِّ الحارث والسروجي فالمقامات تجري في أزمان متباينة فالحارث أحيانا شابٌ وأخرى في سنِّ متقدمة والأمر ينبطق تماما على السروجي، ولا يختلف عن عيسى والإسكندري. وما أبان لي عن تقليد أعمى ما كان في المقامتين المكيّة والنجرانيّة، وهما مختلفتان عن بقية المقامات التي تلت المقامة الأولى “الصنعانيّة”، حيث تعرَّف الحارث على السروجيّ أول مرة، ففي المقامة المكيّة لا يعرف الحارث السائلَ وابنَه، ويجيبه السائل أنه من بلدة سروج، فهل هو السروجيّ أو غيره فهذا ما لا يُعرف. والغالب أنه ليس هو وإلا لعرفه الحارث مع أن الحريري يُشير إلى سائلٍ وابنه وبلدته سروج وذي بلاغة وبيان يسأل الناس، وهذه صفات أبي زيدٍ السروجي. وفي هذا يقتفي الحريري أثر الهمذاني حين غاب عن بعض المقامات أبو الفتح الإسكندري وحضر من ينوب عنه وأصله من الإسكندرية ويمتاز بالبلاغة والفصاحة. ويبدو أن الحريري لم يفطن إلى أن تلك المقامات التي غاب عنها الإسكندري هي إرهاصات تولد منها الإسكندري. والقصيدة التي ينشدها ابن السائلِ من سروجٍ شبيهة بالقصيدة التي أنشدها أبو فتح الإسكندري لعيسى بن هشام في المقامة الساسانيّة. يتكرر الأمر مرةً أخرى في المقامة النجرانيّة حيث يغيب عنها معرفة الحارث للسروجيّ، مع أن الشيخ يقول في شعره إن نسبه إلى سروج، لكن ليس في ذلك إشارة إلى أنه أبو زيد صاحبه لأنه لم يعرفه. نجد التقليد أيضًا حين يكون السروجيّ، مثل الإسكندري، الراوي الأول للمقامة إذ يقصُّ على الحارث، الراوي الثاني، ما جرى له كما في المقامة الفرضيّة. وقلَّد الحريريُّ بعضَ مواضيع مقامات الهمذانيّ دون تجديد أو تجديد طفيف: الدمشقيّة (ح) والحرزيّة (هـ)، القطيعيّة والعراقيّة، التبريزيّة والشاميّة، الكوفيّة والكوفيّة، الفراتيّة والحرزيّة، الساويّة والأهوازيّة، الساسانيّة والوصيّة، السنجاريّة والمضيريّة، السمرقنديّة والخمريّة. وقلَّد بعض عناوين مقامات الهمذاني، وهي الحُلوانيّة، الديناريّة، الكوفيّة، البغداديّة، الشعريّة، الشيرازيّة، الساسانيّة، البصريّة. وتوزَّعت مواضيع الحريري بين التقليد والتجديد في خديعة السروجي للناس بموعظته والشعر، في الإحسان للناس والإساءة لهم، صنعة السروجي الأدبية واللغوية، كدية السروجي، خداع القاضي، مسائل فقهية ولغوية، مرض السروجي، في فضل الكتَّاب وأهل الحساب ألغاز لغوية، سرقاتِ السروجي، رفقة الحارث والسروجي. وهذه المواضيع التي توزَّعت في المقامات الخمسين وبعضها تكرر الموضوع لا سيما خداع القاضي والألغاز اللغوية وألاعيبها. أما الأسلوبية فالحريري هو الآخر اعتمد على اللغة المسجوعة والمحسَّنات اللفظية والمعنوية والشعر في بناء المقامة كما فعل الهمذاني، وأكَّد أن لغة المقامة لا بد أن تكون لغة سجع ولم يخرجْ عن ذلك، وما خرجَ اللاحقون عن ذلك. والسؤال المطروح أيمكن كتابة مقامة دون لغة مسجوعة بسجعة تتبع سجعة ثم سجعة أخرى تتبع أختها وهكذا دواليك؟ إنَّ موضوع المقامة الرئيس في سؤال الناس أو الكدية وبُنيتها القائمة على الملاحقة والفراق جعلت من اللغة المسجوعة سمة أسلوبية بارزة للنص مرتبطةً بالموضوع من جهة، بما للسجع من تأثير ساحرٍ في الأسماع تجعل المستمع يُسلم قياده للمتكلم ويتأثر بقوله ويمنحه ما يريد، ومرتبطة ببُنية الحدث من جهة أخرى فإن ملاحقة شخصية الراوي لشخصية الحدث الرئيس الفاعلة شبيهة لتتابع السجع لشبيتها في الجملتين. تُشكل كل سجعتين دورة كاملة لتحرك عجلة المقامة إلى الأمام. هذا يجعل من اللغة المسجوعة ضرورة في نوع المقامة التقليديّ لكن لا يمنع التجديد في ذلك لكنه تجديد يدخل في البُنية والموضوع وليس تجديدًا أسلوبيًا لغويًا فحسب.
أما ما جدَّده الحريريّ فهو متوزِّع ما بين البُنية والموضوع والشخصيات والصنعة. إنَّ مقامات الحريريّ في بُنيتها تمتازُ بأنَّ راويها واحدٌ هو الحارث، وبطلها الرئيس واحدٌ هو السروجي، عدا مقامتين لم يُذكر فيهما هل هو السروجي نفسه أو لا. يبرزُ في المقامات الحريري فصلٌ ما بين وظيفتي الحارث والسروجي، فوظيفة الحارث مربوطة بالرواية أكثر ووظيفة السروجيّ مربوطة بالفعل والحدث دوما. ويُكثِّف الحريري أيضًا داخل المقامة الواحدة وجودَ الراوي المجهول الذي يروي عن الحارث مُستخدمًا جملًا مثل قال المخبر بهذه الحكاية، قال الراوي، قال الحارث بن همَّام. وهذا ما لم يكن موجودًا لدى الهمذاني إذ الراوي المجهول تقتصر وظيفته على الجملة الاستهلالية “حدّثنا عيسى بن هشام قال”.
تتمتَّع مقامات الحريري بأنها ذات مستوى واحد في حجمها وأحداثها فهي أكملُ وأجود، وهذا ما لم يكن مع الهمذاني الذي كتب مقاماتٍ متنوعة قبل أن يهتدي إلى بُنية المقامة المثاليّة. انتفعَ الحريريّ مما وصل إليه الهمذاني وجعلَ أفضلَ بُنيةٍ بلغها الهمذاني هي المثال الذي كتبَ بناء عليه كلَّ مقاماته، فجاءت متماثلة ومتساوية كأنها لؤلؤ في عقد. أخذَ هذا المستوى الثابت في البُنية وظيفته عند الحريريّ فاتَّسقَت أحداث المقامات على اختلافها، واتَّسع المجال للحريري أن يُضيف وينوَّع في داخل البُنية التقليديّة حتى وصل بها إلى مقامٍ سامٍ، لا سيما في المقامات التي يترافق بها الحارث والسروجي. من الأمثلة على هذا الرُّقي في البنية والأحداث وحبكتها المقامةُ الواسطيّة فهي ذات حبكة رصينة في منتهى الإبداع، والصُوريّة تُصوّر طبقةً من عالم المتسوِّلين السفلي كاملة الأركان حيث الاجتماع وعقد النكاح والطعام والشراب وإقامة الأفراح، والمقامة العمانية سفر بين الجزر وأهوال البحر، وهو موضوع عالميّ قديم مُتجدّد.
جدَّد الحريري في خواتيم بعض المقامات إذ من يكتشف حقيقة السروجيّ ليس الحارث بل آخرون في المقامة كما في المقامة المعريّة والزبيديّة، ويكون كشفُ الحارثِ للسروجي دون إفصاحٍ بإيماءة طلبٍ من السروجي حتى تكتمل حيلته، أو أن يعود الحارث إلى أصحابه ويخبرهم عن حقيقة السروجي بعد أن يفترقا كما في المقامة الملطيّة. وفي ذات الجزء المتعلق بخاتمة المقامة فإنَّ السروجي في مقامات كثيرة يهربُ من الحارث أو الذين خدعهم، لا نرى لدى الهمذاني هروبُ الإسكندري من عيسى لأن الأمر مقتصرٌ على الفراق، وهذا الفرار خوفًا من أن يُمسكَ به ولا تنجح خديعته. لذا فالتعرُّف والفراق أخذَ مع الحريري نمطًا جديد وصار التعرُّف والفرار، وفي هذا إظهار أكثر واقعيّة للطبيعة الإنسانيّة الكارهة أن تُسرق أو تُخدع، ومعرفة السروجي لشناعة فعلته وطلبه الأمان بعد ارتكابها. كما إنَّ مقامات الحريري الخمسين غير مرتبطةٍ ببعضٍ فهي مثل مقامات الهمذاني بعددها الواصل إلينا، لكنَّ مقامات الحريري فيها سمة رئيسة أنَّ المقامة الأولى الصنعانيّة حيث يتعرف الحارث على السروجي أول مرة، وأنَّ المقامة الأخيرة البصريّة حيث يتوبُ السروجي توبة نصوح، وهي خاتمة لبداية، وما المقامات بينهما إلا صورًا وضروبًا من حياة السروجي من مبتداها إلى مُنتهاها.
كرر الحريري بعضَ المواضيع أكثرَ من غيرها إذ وجد في حبكتها ما يستأثر بإعجابه مثل موضوع خداع القاضي أو الأمير، وهذا الموضوع وردَ مرةً واحدة مع الهمذاني في المقامة الشاميّة وورد نحو خمسَ مراتٍ مع الحريري، ويرجح لديّ أنَّ أهميّة هذا الموضوع عند الحريري كامنٌ في أنَّه خداع الحقير للشريف، وحيلة الضعيف على القوي، وأخذ العاميّ مال السلطان، في انقلاب للحال الاجتماعي المتمثل بقوَّة السلطة وسيطرتها على العامة. ظهرَ السروجي ليس محتالا فقط بل مناهضًا للسلطة ولو بالحيلة، وخادعها وليس مخدوعها، وظالمها وليس مظلومها، فأخذ وظيفتها رغم بقائه في درجته المتدنيّة في طبقات الناس. شمل التجديد في المواضيع مرافقة الحارث والسروجي فهو كما في المقامة الواسطيّة والعمانيّة والصوريّة، وكان لأخذ السروجي مساحة أكبر في الحدث فلم يقتصر دوره على الحديث والبلاغة فثمة مقامات يكون موضوعها مرض السروجي أو توبته أو مسائل فقهية يجيب عنها ورسائل ذات صنعة كتبها، ويعتمد الحريريّ أيضًا على إظهار ماضي السروجي في خطبته حين يسأل الناس معونة ومساعدة.
أما أهم تجديد في مقامات الحريري فهو ظهور شخصيات ثانوية تُعين السروجي في كُديته أو حيله. أبرز هذه الشخصيات فهي ابنه زيد وزوج السروجي، ودور زيد أوضح وحضوره أدوم لا سيما في المقامات التي يُخدع فيها القاضي، ومقامات ظهور زيد: الدمياطيّة، المعريّة، الرحبيّة، النصيبيّة، الشعريّة، الواسطيّة، الزبيديّة، الصعديّة، الحجريّة، الساسانيّة. وظهرت زوجه أو ما يُدَّعى أنها زوجه في المقامات الإسكندرية، التبريزيّة، الرمليّة. كما ظهرت شخصية ضديد السروجي في المقامة البكرية، وهي مقامة مقسمة على ثلاثة أجزاء، يروي اثنين منها السروجي، وشخصية الضديد تغلب السروجي في بلاغتها وحكمتها وهي على ثلاثة أنماط الغالب الذي يغلبُ السروجي باعترافه، والمكافئ للسروجي في بلاغته وفطنته، والأقل وهذا الضديد رغم غلبته للسروجي فإنه أقلُّ منه إذ خُدع السروجي بقوله دون إرادة الأقل لأنه لم يفهم مغزى كنايات الأقل لطمعِه في نيل ما يملك. طال التجديد في شخص السروجي في كرمه أو وجود بيت له أو حتى خسَّته في سرقة صاحبه الحارث، كما أنَّ بلدته معروفة وهي سروج، في شمال بلاد الشام، مع أنَّه كان يتهربُ في بعض المقامات من الإجابة عن هذا السؤال. وهو في هذا يختلف كثيرًا عن الإسكندري الذي كان لا ينتمي إلى بلدٍ بعينه وينتمي إلى كل ديار الإسلام في حين واحد.
ختامًا تمتازُ مقامات الحريري بالصنعة والدقة والإكثار من المحسنات اللفظيّة والمعنويّة والشعر والألغاز اللغوية والحيل والكنايات والتوريات، وهذا من الأسباب الرئيسة للاحتفاء بهذه المقامات واقتفاء أثرها الأسلوبيّ، وإن كان على حساب الموضوع والحبكة والحكاية.
يُمكن جردُ أهم تجديدات الحريري في مقاماته في:
1- مقاماته أكمل وأجود والقصة فيها أوضح، وهي ذات صنعة ودقَّة.
2- من يكتشف حقيقة السروجي ليس الحارث، أو لا يكشفها بطلب من السروجي، أو أن يعود الحارث إلى أصحابه ويخبرهم بحقيقة السروجي.
3- هروب السروجي بعد خديعته الناس.
4- لكتاب المقامات بداية ونهاية، ويجعله هذا أشبه ما يكون بنصٍ واحدٍ مُنتظم.
5- بنية المقامات ثابتة براويها وبطلها الرئيس.
6- إضافة مواضيع جديدة أو تركيز على موضوع ذكره الهمذاني مرة وتكراره.
7- تغيير في صفات السروجي فكأن يكون له بيت معلوم، وكريمًا، وبلدته سَروج معروفة.
8- ظهور شخصية ضديد السروجي، الغالب والمكافئ والأقل.
9- ظهور شخصيات ثانوية مساعدة للسروجي مثل ابنه زيد وزوجه.