التراث الأدبيالتراث العربي

بياض ورياض 

كان للعرب والمسلمين في الأندلس تاريخٌ مشرقٌ وإبداع أدبيّ أصيل بلغنا منه ما بلغنا، وجهلنا منه ما جهلنا لا سيما بعد زوال دولة الإسلام في الأندلس وطرد المسلمين. تعرَّضت الكتب، كحال أصحابها، إلى الانتقام والإفناء. جُمعت عشرات الآلاف من المخطوطات ثم أحرقت في ساحة غرناطة بعد سقوطها على يد الملكين الكاثوليكيّين فرديناند وإيزابيلا في سنة 1492. نجا من محارق الكتب بعضها، إذ حرق أيُّ كتاب بالعربيّة لأنهم حسبوها قرآنا أو كتبًا شريرة، في عملية تطهير ماديّ ودينيّ لكل ما يمت للمسلمين بصلة في الأندلس. 

من بين هذه المخطوطات الناجية في بلاد الأندلس كانت مخطوطة حديث بياض ورياض، ومرجَّح أن تاريخ تأليفها (نسخها) يرجع إلى القرن السابع الهجري، الثالث عشر ميلادي، كما يذهب مخرج المخطوطة ومحقِّقها أ. ر. نيكل. لا يوجد من حديث بياض ورياض سوى مخطوطة واحدة، وهي محفوظة في مكتبة الفاتيكان (Ar. Ris. 368)، مكتوبة بخط مغربي، اشتُهر أنها سلبت من مدينة تونس من قبل قوات شارلز الخامس، ولهذين السببين يرى دارسون أنَّها مخطوطة شمال إفريقيّة كما يقول أ.ر. نيكل، ويضيف، يعتقد آخرون أنها نُسخت في الأندلس في وقت ما من القرن الثالث عشر، غالبا في النصف الأول من القرن. كما تجادل الدارسون حول المدينة التي جرت فيها القصة ويميلون إلى أنها مدينة أشبيلية، مع أنَّه لا إشارة صريحة إلى أي مدينة. في حين يرى المحقق العربي صباح جمال الدين أنها قصة مشرقية ويرجح وقوعها في العراق لذكر موضع يسمى الثرثار، ويرى أن المقصود هو نهر الثرثار -مع أنَّ هذه اللفظة ترد دون أي إشارة إضافية مُعرِّفة- فضلا عن الأشعار المشرقيّة، والمنمنمات ذات الوجوه المغوليّة، وهو فن شاع في المشرق الإسلاميّ لا سيما المدرسة البغداديّة. مما يؤسف أن هذه المخطوطة ذات نقص في بدايتها ونهايتها، بل القصة نفسها فيها قفزات ما بين بعض أجزائها، تبيّن أن النقص قد طال القصة عند النسخ، أو أنَّ بعض أوراق المخطوطة مفقود، أو أن النسخ لم يكن دقيقًا. 

يكشف حديث بياض ورياض عن قصة بأسلوب سرديّ محكم على الرغم من هنَّاته، وهو حلقة من حلقات تطوّر السرد والقصص العربي، ولموضوعها في الحب الفاضل (Courtly love) تأثيره في الآداب الأوروبية القروسطية. احتوت المخطوطة على بضع عشرة منمنمة مذهَّبة، والمنمنمة غالية في زمنها مما يرجِّح ملكيتها لأحد الأثرياء، وهي واحدة من ثلاث مخطوطات منمنمة بقيت من آثار الأندلس بعد محرقة ساحة غرناطة.

حديث بياض ورياض 

يروي حديث بياض ورياض قصة الحبَّ ما بين هذين الفتيّين، الفتى الدمشقي بياض الذي يعرِّف نفسه قائلا “بياض بن حسين بن محمد بن إدريس الخزاعي من مدينة دمشق من الشام، وكنت سافرت مع أبي إلى بلدكم هذا للتجارة، فرحل أبي وتركني على بعض المتاع”، ولا نعرف عن حياته ونسبه أكثر مما قاله، والطرف الآخر هي الصبية الجارية رياض، جارية تملكها شخصية تُعرف بالحاجب (قد يكون وزيرًا أو حاجب الخليفة) ضمن جواري ابنته، وتُعرف في القصة باسم السيِّدة. تمتاز قصة الحب الفاضل أو العذري ببُنية قصص الحب الشرقية التقليدية، كما في ألف ليلة وليلة، ذات العناصر المتشابهة: حب ولقاء، فراق وشوق، لمُّ شمل. 

تبدأ القصة بذكر العجوز البابلية، الساردة للقصة، سماعَ بياض بجمال رياض، وهواه لها، ثم سعت العجوز في ذكر حب بياض لرياض، وعملت على الجمع بينهما بمعونة السيّدة التي تُحبُّ رياض وتعزُّها. في أثناء اجتماع الاثنين في حديقة بحضرة السيدة والعجوز والجواري يقع سوء فهم بين السيدة والجارية. تنشد رياض شعرا قالت في آخره: 

“ولا مسعدٌ في الناس يسعدني على 

شجون الهوى إلا المدامعُ والجفنُ 

قالت لها السيدة: وأي شيء لم أساعدك عليه يا رياض؟ وما الذي طلبتِ ولم أقضه لك، فوالله طلبتُ رضاكِ حتى جمعتُكِ مع محبوبك في مجلس واحد وأنا بالحضرة، وتلاهيتُ عن الأمر كأني لم أعرفه، وقلتُ إلى غد قضاء وحكم والله يعلم كم بقي من أجلي وأجلها، وطلبكِ أبي مني ولم أجد من نفسي معينا على ذلك، وبعتني باليسير فوالله لأبيعنك باطلا بغير ثمن. ثمَّ شقت ثيابها وقامت غاضبة وركبت، وهربت الوصائف إلى داخل البستان لا يجدن سبيلا إلى الخروج من الفضيحة…” 

تسبب هذا بشقاق بين السيدة ورياض وسخطها على جاريتها فحبستها في دارٍ (حجرة) في جناحها، ومنعتها من لقاء محبوبها بياض. فانقطع الوصل والتهب الشوق وتفاقم الجوى، وقاسى الاثنان تباريح الغرام. 

صوَّرت القصة حالتي العاشقين وما أصابهما من آلام الفراق في شعر كثير، وحاولا الوصل بتبادل الرسائل والرسل، ونحَتِ القصة منحًى إرشاديًا في تبيان حال العاشق وتقلُّبها وما يعتريه من مشاعر وعواطف في قالبها القصصي، كما في قصة لوعة الشاكي ودمعة الباكي لابن أيبك الصفدي. تبقى العجوز تسعى في رأب الصدع بين رياض والسيدة، ونقل أخبار رياض لبياض، حتى تمَّ لها في آخر المطاف ما أرادت وجعلت السيدة ترضى عن بياض، وأذنت بترتيب لقاء يجمع المحبوبين مجددًا. ينتهي الحديث في المخطوطة بخروج بياض منقبًا من دار العجوز، حيث أقام، في سرب من الجواري المنقبات يقصد قصر السيدة للقاء رياض. 

رويت القصة على لسان العجوز، التي وصفت بالعجوز البابليّة، وكانت بؤرة السرد حيث اجتمعت عندها الأصوات السرديّة المختلفة، وبقيت المتحكمة بسير سرد القصة وضبط نسق أحداثها، ساردة ما شهدته من أحداث حاضرة أو سمعته، وأحيانا ما يكون دورها ساردةً مراقبةً حاضرة في المشهد دون أن يكون لها فعل أو مشاركة. اضطرب سرد القصة بسبب فراغاتٍ في القصة أو قفزات تكشف أنها غير كاملة، وتغيَّرِ صوت السارد من شخصية ساردة إلى العجوز دون إيضاح أو فصل كأنهما صوت واحد. 

كسر سرد القصة رواية الكثير من الشعر على ألسنة الشخصيات، وهو شعر غنائي، مما جعل بعض الدارسين يرونه كتاب أغانٍ. والقصة في هذا الجانب ملتزمة بأعراف القصص العربية التقليديّة في ذكر الشعر في متنها، معبِّرًا عن حال الشخصيات سواء على لسان الراوي أو ألسنة شخصياته. والشعر في حديث رياض وبياض يربو على أن يكون نصفَ المتن، مما يجعل سرد القصة متقطِّعًا إذ يقحم الشعر إقحامًا ناقضًا الوظيفة السرديّة في بناء القصة وروايتها، ويمكن إعادة تمثيل النص ليكون مسرحيًا غنائيا. يمتاز السرد في الوقت ذاته يمتاز بخصائص جليّة منها الوصف الجسدي للشخصيات، وإنْ لم يكن كثيرًا، واقتصر على وصف محاسن الجواري الخارجية، ووصف بياض ومقدرته الإبداعية والأدبية، وهو وصفٌ في قوالب جاهزة العبارة غير إبداعيّة، لكن يحسب لكاتب القصة توظيفها في منح صورة وهيئة لشخصيَّته. كما امتازت القصة بالحوارات بين الشخصيات يمنح القصة بُنية حواريّة. أما الفضاء السردي “المكاني” فتباين بين القصر، ودار العجوز، والحديقة، وموضع يجلس فيه بياض يُدعى الثرثار. لكنَّ هذا المكان في القصة لا ينال حيزًا يسعنا معه القول إنَّ حضور المكان في ذهن الكاتب عند إبداع القصة. دخلت الرسائل المتبادلة بين العاشقين في بُنية السرد، مما يجعل القصة في عمومها مائزة البنية ومشتغلا عليها، وحلقة جديرة بالاعتبار في تطور بنية القصة العربيّة. 

قصة حب مُغيَّبة 

تكاد تكون قصة رياض وبياض ثانويّة واقعة على هامش قصة أكبر، قصة لا نعرف عنها إلا القليل متمثلة في حبِّ الحاجب لرياض. لا يدخل الحاجب في قصة رياض وبياض، لكن دوره موجود وتأثيره شاخص، ويبدو أنَّ ما بين العاشقين الصغيرين لا يعدو أن يكون حبَّ صبا، وأن آخر رياض أن يتزوجها الحاجب. تُفتح القصة بذكر الحاجب وطلبه حضور رياض إذ يأمر بقدومها. وحين تتكلم السيَّدة ابنته ساعة الخصومة مع رياض تقول “وطلبكِ أبي مني ولم أجد من نفسي معينا على ذلك”، يكشف الكلام هنا عن خط أحداث آخر مغيِّب عنا بالكامل، نكون فيه جميعا مع عاشقيْنا على الهامش. وفي موضع ثالث تقول العجوز: “قلتُ: كذا وكذا ووصفت له الأمر كما جرى من قصة لاعب وكاعب وما جرى مع الوصائف كلهن وقصة الحاجب وحبه في رياض وحب سيدتها لها وتدللها عليها وطلب السيدة رضاها…”. نقف عند “قصة الحاجب وحبه في رياض” ما القصة التي تعرفها العجوز والسيدة ورياض وحتى بياض لكن يجهلها القارئ؟ إنَّها القصة الرئيسة التي تقع قصة رياض وبياض في هامشها. ينقلب في حديث رياض وبياض الهامش متنًا والمتنُ هامشًا، ويُقصى القارئ عن المتن ويُحبس في الهامش مع قصة ثانويّة. مما يجعل عدم اكتمال قصة بياض ورياض ليس بالأمر الجلل لأننا نعرف أن ما تمرُّ به رياض لا يعدو أن يكون مرحلة مؤقتة، وحين نعلم أنها جارية الحاجب نُدرك أنَّ قرارها ليس بيدها ومصيرها أن تكون محظية الحاجب، ويختفي رياض إثرها دون أن يستطيع فعل شيء لا سيما مع حداثة سنّه وبعده عن بلده. يتجلَّى ذلك حين تأخّر وقوع اللقاء الثاني بين العاشقيْن شهرين بعد وعد السيدة بسبب انشغالها بسفر الحاجب. 

ينتهي حديث رياض وبياض متعلِّقًا بخبر سفر الحاجب كما بدأ في حضرته، الحاجب الذي ما وسعنا معرفة قصته ولا خبر حبّه لرياض، لكننا نعلم أنَّه العاشقُ المغيَّب، وأنَّ ما يملكه ليرويه أكثر مما روته العجوز البابليّة.   

صور من المخطوطة والمنمنمات

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى