أدب وادي الرافدينالتراث الأدبي

نشأة البطل في أدب وادي الرافدين

شكَّل مفهوم البطل في الأدب والأسطورة مادةً ثريّة للدراسة والبحث في العقود الماضيّة، ودرس باحثون كُثر حياة البطل وشخصيته وسماته والعوامل المشتركة بين الأبطال، كما فعل جوزيف كامبل في كتابه الشهير “البطل بألف وجه”، ودين ميلر في كتابه “البطل الملحميّ The Epic Hero”. كثيرًا ما تصوَّبُ الأنظار -أو حتى تبدأ الدراسات- إلى الأساطير اليونانية وملحمتي الإلياذة والأوديسة ومسرحيات سوفوكليس، والتعريج على الأبطال في الآداب الأوروبيّة القروسطية، والأساطير الشعبية، والحكايات القديمة. لا ينال أبطال وادي الرافدين حظهم الذي يستحقونه من هذه الدراسة، ولا ينجو منهم سوى غلغامش بطل الملحمة البابلية الشهيرة. ثمة أسباب كامنة وراء هذا منها حداثة اكتشاف هذا الأدب وشيوعه، لا سيما وأنَّ ترسيخ قواعد هذا الأدب ما زال جديدًا، لا يتجاوز القرن ونصف القرن على العكس من الآداب الأخرى. أثَّر هذا في تلقّي أدب وادي الرافدين وقراءته كما يجب أن يُقرأ فضلًا عن دراسته. 

شغلني سؤالُ البطل ابتداءً من البطل الملحميّ في نصوص ما قبل الميلاد انتهاءً بالبطل الروائي في القرن الحادي والعشرين. تكشف ملاحقة سيرورة البطل في المخيال الأدبي الإنساني عن رؤى وآمال وحتى أحلامٍ فرديّة وجماعيّة تدفع الكاتب (أو الشاعر والمنشد) إلى جعل المتلقي متحفِّزًا دائما لمتابعة قصّته بما ينسجه حول بطلها من مصاعب ومخاضات عسيرة وانتصارات باهرة واجتماع بالمحبوب أو لم شملٍ بعد افتراق. لا تكاد تختلف صيرورة البطل من نصٍ إلى آخر، ملحمة أو حكاية، فهو يمرُّ بمراحل مختلفة تتشابه ولا تتقاطع إلا ما ندر. إنَّ مهمة البطل واحدة وإنْ تعدد السُبل التي يقطعها حتى يصل إلى غايته، غاية تتضمن في الغالب آمال أمته وشعبه. فالبطل هو بطل شعب في ختام الأمر، ومهما تبدَّت لنا فردانيّته فلا يستطع أن يخلع عن نفسه ما حباه به قدره في تمثيل أمَّته. ليس البطل إلا بطل أمة، يحملُ رايتها وينطلق بها إلى ذرى المجد. ولو رجعنا إلى أصل نشأة البطل ستقودنا الخطى إلى ارتباطه الوثيق بالناس منذ فجر البشريّة، إذ يجتمعون على رجلٍ منهم يُسوِّدوه عليهم لمآثره الفرديّة أو بسالته أو نسبه، لن يُعدموا سببًا للاختيار، ولن يفتقر المُختار إلى سبب يجعله في الواجهة والسيادة.    

بعودتنا التاريخيّة إلى الوراء، تحديدًا إلى وادي الرافدين، سنقف على الجذور الأولى لنشأة البطل بمفهوميه الملحميّ الأدبيّ والأسطوريّ الشعبيّ. حضارة وادي الرافدين أقدم الحضارات المكتشفة في العالم، ولا تنافسها في الأقدمية سوى الحضارة المصريّة، لا يُعرفُ على وجه التحديد بدقة في أي زمن بدأ استيطان وادي الرافدين لكن المرجح منذ الألف الخامس قبل الميلاد (أو نحو ذلك)، وتُحدد في القسم الأوسط من السهل الرسوبي، من وسط العراق الحالي إلى جنوبه، مراكزُ الاستيطان حيث قامت مدن سومر وأكد وبابل، وآشور في الشمال من وادي الرافدين. 

بدأ مع السومريّين منذ الألف الثالث تدوين القصائد ذات الطابع الملحميّ والبطوليّ، وتنوَّعت الشخصيات الرئيسة في هذه القصائد ما بين آلهة، وملوك ذوي نسبٍ إلهيّ، وبشريّين. اعتمد السومريّون على تاريخهم ومعتقداتهم في إبداع نسيج قصائدهم على الألواح الطينيّة، ذاكرين فيها مآثر ملوكهم وآلهتهم. تمنحنا هذه القصائد صورة البطل ومفهومه وامتداده من الآلهة. ينهض الإله المحارب في العالم الإلهي بمهمة صدّ الأعداء وهزيمتهم، والحفاظ على نظام الكون واستقراره، وحماية آبائه الآلهة وإخوته مما يحيق بهم من أخطار وشرور، إذ تقع على كاهله المسؤولية الإلهية في استقرار الكون. تنعكسُ هذه المسؤولية  في صورة البطل في العالم البشري وسعيه في الحفاظ على استقرار دائرته الصغيرة، المتمثلة بالعائلة، إلى دائرته الكبيرة، المتمثلة بالأمَّة. يفرض هذا المنصب على البطل مسؤوليات وواجبات لا يسعه الانفكاك عنها أو النزول عن أدائها، وحين ينسحب من أدائها فلا محالة أنَّه تركها لمن يقوم بها، وهنا يبزر استبدال البطل ببطلٍ، إذا ما غابت شمس بطلٍ أشرقت شمسُ آخر. لا تُعدم الآلهة في قصائد السومريّين من إله يجتمعون حوله ليذود عنها، وغالبا ما يكون -أو يصبح- الإله الأكبر بين الآلهة، أو الإله الأشجع، هو الذي يحارب أعداءها. نرى ذلك جليًا في الإله أنكي سيد الحكمة والماء، ونينورتا ابن إنليل بطل الآلهة، والإلهة إنانا سيدة الحب والحرب. كما ظهر لاحقًا في الأدب البابلي مردوخ الإله الذي هزم تيامت في حرب الآلهة الأولى قبل خلق الكون حيث كان الوجود هو الماء، فتسيّد الآلهة ومجمعها. 

يسعى البطل إلى مُثُل الآلهة العليا ليقتدي بها، فهو في بطولته الأرضيّة يُحاكي بطولة الإله السماويّة، فيصنع أمجاده ويصدُّ أعداءه ويذود عن أمَّته، ونرى ذلك في البطلين غلغامش وإنمركار. تنبع بطولة هذين من الملوكيّة، إذ يُفرض على الملك حماية مملكته من الأعداء، والسعي من أجل ثرائها، أو أنَّه يخرج بحثًا عن مآثر تخلِّد ذكراه. تأتَّى من البعد الزمني الكبير ما بين زمن عيش الشخصيات (على افتراض أنها حقيقية) وزمن تدوين القصائدـ أن صار ملوك مثل غلغامش ذوي نسبٍ إلهيّ، ومثل إنمركار ذوي صلة وثقية بالآلهة فهو محبوبها ومُؤيَّد بها، مما يضفي على البطل سمة تميّزه عن البقية ذوي النسب البشريّ المحض. وجُعلَ من ملوكٍ لاحقين مثل نرام-سين الأكديّ شركاء الآلهة في مغامراتٍ بطوليّة. انعكست الملوكيّة في صورة البطل، وارتبط الملك بالبطولة، فالبطولة مع الملك قدرٌ لا اختيار، ولا يسعه التنصُّل منها كما لا يسع امرأ نزعها عنه. أما البطل البشريّ، وإنْ قلَّت الأمثلة في أدب وادي الرافدين كالملكِ لوغال باندا1 وأتراحاسيس، فلا تفرق سيرته الحياتيّة عن أسلافه وإنْ لم يكن له نسبٌ إلهيّ قريب أو صلة مباشرة بإله. لكنه يُعوَّضُ عن ذلك بما يحفظ له مقامه، ويعينه في مسعاه البطوليّ ملكًا وراعيًا لشعبه وهازمًا لأعدائه كأن يمتلك قوَّة خارقة لا توجد في بشريّ أو يوحى إليه من إله. وهو في هذا يُرفع على أقرانه ومنافسيه بهبةٍ عظيمة تمكّنه من بذِّ خصومه وهزيمتهم.   

البطل من الملوكيّة إلى الألوهيّة 

كيَّفت العلاقة الفريدة بين الآلهة والملوك في الأساطير الرافدينيّة أنظارَ مُؤلفي القصائد إلى البطل، فأصبحت سيرة البطل لا تنتهي بالموت بل تأخذ طابعًا جديدًا يتوَّجُ فيها الملك-البطل بالألوهية بعد موته كحال غلغامش وأور-نامَّا. تروي قصيدة وفاة غلغامش ساعات احتضار الملك الأخيرة وموته، إذ يرى غلغامش في المنام أنَّه تحول إلى حاكم العالم السفلي وأحد قضاته، برفقة دموزي ونينجيسزيدا، الذين يحكمون بين الموتى ويحاسبونهم. نال غلغامش هذه المكانة إكراما له على مآثره المجيدة في حياته. وتروي قصيدة وفاة أور-نامّا، الملك المؤسس لسلالة أور الثالثة السومريّة، في أربعة أقسام. يقص القسم الأول وفاة أور-نامّا والحزن الذي عمّ البلاد والعباد إثرها. وفي القسم الثاني نزول أور-نامّا إلى العالم السفلي وأخذه هدايا إلى سادته مثل نرغال وإريشكيغال وغلغامش ودموزي ونينجيسزيدا، ثم صار حاكما في العالم السفلي يحكم بين الأموات ويقرر مصائرهم. وفي القسم الثالث نَدبَ أور-نامّا مصابه، ورثا حاله فبعد أن خدم الآلهة صار إلى ما صار إليه في العالم السفلي، كأن في كلامه تذمر وشكوى ورفض لما جرى له، ثم حزن إنانا على عبدها أور-نامّا ورفضها موته وسخطها على آن لتقريره مصيرًا كهذا على أور-نامّا. وفي القسم الرابع من القصيدة ترضية نينجيسزيدا لأور-نامّا بالعظمة التي سيحظى بها اسمه من بعده.

يُشكِّل الموتُ نهاية بطل فتُجنِّب ما يسيء إلى جناب البطل في المِخيال الشعبيّ والأدبي على حدٍ سواء، ليصبح الموت بوّابة إلى الخلود الإلهيّ في العالم الآخر. لكن كيف يخلد الملك-البطل؟ يصبح إلهًا من الآلهة الذين يحكمون في العالم السفليّ. 

نلاحظُ أنَّ القصائد والأغاني التي تغنَّت بالملوك السومريين -بمختلف أصنافها وأساليبها- تدمج صورة الملكِ الحقيقيّ، بإنجازاته وصنائعه في سني حكمه، بصورة البطل المُتخيَّل، فيصبح البطلُ ظلًا للملكِ في أثناء حياته، ثم بالموت يصبح الملك ظلًا للبطل في العالم السفلي. لا يموت الملكُ بل يحيا في صورة البطل في خيال شعبه، تتناقل الأجيال هذه الصورة في مدائحها ومراثيها، ويعيشُ معهم الملك-البطل في ثنائية الحقيقيّ والمُتخيَّل بترادفيّة لا تتبدل ولا تتوقف. إنَّ الألوهيّة تاجٌ يرتديه البطل بعد موته، وخاتمة حسنةً تنتهي عندها حياته الأرضيّة وتبدأ بها حياته ما دون الأرضيّة في عالمٍ سفليّ. لا يختلف حال أور-نامّا عن غلغامش فكلا الملكين لا يرضى بالموت، ويرى فيه منقصةً. في قصيدة غلغامش ووحش غابة الأرز (غلغامش وخواوا) السومريّة يدركُ غلغامش أنَّ الموت هو النهاية فيخاطب أنكيدو: “أي أنكيدو إنَّ المرء لا يسعه تجنُّبُ نهاية حياته، لذا سأنطلق إلى الجبال وأجعل صيتي يُطبِّق الآفاق. سأصنع لنفسي صيت الآلهة”. لا ريب أنَّ البابليّين وقفوا مليًّا عند هذه السطور، وقلَّبوا فيها الرأي كثيرًا حتى اهتدوا إلى زرع بذرة البحث عن الخلود في نفس غلغامش في الملحمة الشهيرة، فصار موت أنكيدو دافعًا لسؤال الخلود والسعي إليه. يُدرك غلغامش بعد فشل سعيه في نيل الخلود أنَّ لا مفرَّ من الموت، والخلود هو خلود الذكر لا الجسد. وهذا ما أفصح به نينجيسزيدا، أحد آلهة العالم السفلي وقضاته، للملكِ أور-نامّا. لم يرضَ أور-نامّا بأن يكون الموت نهايته، حزنَ وسخط، ورثت إنانا إلهته حاله وما رضيت بقرار إنليل القاضي بموته، لكنه اقتنع في الأخير ألا مناص من موته وأنَّ خلوده في خلود صيت أعماله.  

لم يقتنع الملك نرام-سين الأكديّ بألوهيّة متخيَّلة بعد الموت، فرغب في ألوهيّة مبكِّرة. ادَّعى نرام-سين الألوهيّة في حياته، وجعل من نفسه نظيرَ إنليل، إله مدينة أكادة وحاميها، وارتدى الخوذة ذات القرنين رمز الألوهيّة، واتَّخذ لنفسه لقب “ملك الجهات الأربع”. انعكس هذا التمرُّد على الآلهة في القصائد التي نُسجت عن نرام-سين، فصار البطل ضديد الآلهة، ومنافسها، بل ومنتهك حراماتها كما في قصيدة لعنة أكادة. يرى نرام-سين في هذه القصيدة نهاية ملكه وذهاب ريح مملكته لكنه يأبى الرضا بقرار إنليل المُلزم بنهاية أكادة، فيسعى إلى جعل إنليل يعدل عنه. لم يحقِّق نرام-سين غايته فهجم بجنده على معبد إنليل الإيكور وخرَّبه، وجعله غرضًا تتناهبه أيدي جنوده. ما عادت الألوهيّة مع نرام-سين تكريمًا يحظى به بعد الموت متوِّجًا بطولاته في الحياة بل صارت في مجابهة الآلهة ومحاربتها، فهو الخارج عليها وعن أعرافها مقتديًا بالآلهة الأوائل الذي حاربوا في صفِّ أبسو وتيامت في سعيّ حثيث للقضاء على الآلهة الأبناء. فرضت حقيقة الملك وشخصيته في حياته مرَّة أخرى نفسها على صورة الملك-البطل المتخيَّلة، ومع نرام-سين فإن الألوهيّة جزء من سيرة البطل وصيرورته وليست منفصلة عنه في حياته ولا خاتمة يتوِّج بها في العالم السفلي، لنراه في قصيدة أخرى يحارب رفقة الإله إيرَّا الغضوب أعداءهما ويخلد ذكره مع الآلهة. إنَّ ما حظي به غلغامش وأور-نامّا بعد موتهما يتنزعه نرام-سين انتزاعا في حياته غير آبهٍ لشيء.   

في هذه القصائد فصل الخطاب في بيان سيرة البطل في أدب وادي الرافدين دون ترك مجالٍ للتنازع كما لدى أبطال هوميروس في الإلياذة والأوديسة، فلا ندري أكانت شخصياته أبطالًا ثم صارت آلهة أو آلهة ثم صارت أبطالًا. وهي في ذات الحين مخلصة لأعراف البطل الرافدينيّ الذي يحاكي الآلهة في جوهر بطولته في أول سيرته وينتهي إلى أن يصير من الآلهة بعد موته.  

صور البطل

تعددت صور البطل في أدب وادي الرافدين، واختلفت بتعدد سير الأبطال ومكانتهم وما آلت إليه نهاياتهم. تبرز في المقدمة صورة البطل-الملك، وهي الصورة الغالبة، كما في إيتانا ملك كيش، وإنمركار وغلغامش ملكي أوروك، وسرجون ونرام- سين ملكي أكد، وأوتو-خيغال ملك السلالة الخامسة لأوروك وأصل سلالة أور الثالثة. كلُّ واحدٍ من هؤلاء له بطولته بصورة مغايرة عن البقية، تتجلَّى بطولة إيتانا في كونه الملك المختار من الآلهة لحكم كيش، وفي رحلته العجيبة على ظهر العُقاب إلى السماء لنيل نبات الإنجاب لزوجته. أما بطولة إنمركار، أول ملوك أوروك، ففي محاربته ملك أراتّا إذ هزمه في قصيدةٍ بحلِّ الألغاز بمعونة الآلهة، وفي قصيدة أخرى حين هزمت ساحرتُه ساحرَ أراتّا، وقاد في قصيدتي لوغال باندا حملةً عسكريّة على أراتّا انتهت بإخضاع المدينة كما الراجح في خاتمة قصيدة لوغال باندا والطائر أنزو. يحمل إنمركار على كاهله تأمين ثراء مدينته والمحافظة على خضوع أعدائه له. وتتمثل بطولة غلغامش في مغامراته في قتل الوحش خواوا والقضاء على ثور السماء ورحلته إلى الخالد أوتنابشتم، ثم في عدوله عن سبيله القديم في ظلم الرعية إلى حكمهم بالعدل بعد أن أبصر استحالة الخلود. تبرز بطولة سرجون الأكدي في تأسيسه مملكةٍ في مدينة أكادة، وحفيده نرام-سين بأعمالٍ كثيرة ابتداءً من ترسيخه مملكة أكادة وتوسيعها إلى هزيمة الجيوش والقتال مع الإله إيرَّا انتهاء بحربه على الآلهة. ووقع على عاتق أوتو-خيغال هزيمة الجوتيين بعد مئتي سنة من ضياع حكم السومريين، فأعاد الملوكيّة إليهم بعد أن قاد جيشه لهزيمة الملك الجوتيّ تيريغان بمعونة إنليل وإنانا وغلغامش.  

تتجلى بطولة لوغال باندا في إعانة جيش أبيه إنمركار الغازي مدينة أراتّا، إذ يلتقي الطائر أنزو، بعد أن تُرك مريضًا يواجه مصيره داخل كهف، ويطلب منه أن يهبَ له قدمين سريعتين ويدين قويتين لا يعرفان الإرهاق. كان له ما أراد وبفضل هاتين القدمين السريعتين صار ساعيًا بين أبيه والإلهة إنانا فحملت مشورتها النصر لإنمركار. 

يبرز أنكيدو في الصورة البطل الرفيق، وهو الثاني بعد غلغامش في مقدِّمة أبطال وادي الرافدين. ظهر أنكيدو في ثلاث قصائد سومريّة سابقة لملحمة غلغامش، فنزل في الأولى إلى العالم السفلي بأمرِ سيده غلغامش، وما عاد بعد أن حاد عن نصح سيده، وساهم في القصيدتين الأخريين بقتل الثور في الأولى، وكان في الأخرى المحرِّض على قتل الوحش خواوا بعد أن أخذت الرحمة بقلب غلغامش. فكان نعم الرفيق والخادم لسيده في مغامراته، وما كانت لمغامرات غلغامش أن تكتمل لولا أنكيدو. ظهر أنكيدو في صورة أكثر إشراقًا في ملحمة غلغامش، إذ أنزلته الآلهة من السماء لكبح جماح الملك غلغامش الطاغي والظالم لرعيته. لعب أنكيدو في بداية الملحمة دور ضديد البطل، وهو يذكّرنا بصلتو التي خلقها أنكي لتكون ضديدة إنانا لتقليم أظفار الأخيرة بعد أن جازت الطوق بطغيانها وتجبّرها. اتَّخذه غلغامش لاحقًا صديقًا وأخًا حين أبصر فيه قوَّة وبأسًا يضارعانه، وانطلق معه في مغامراته حتى نزل به الموت، فكان موته المحفّز لسؤال الموت والخلود الذي أخذ غلغامش إلى الخالد أوتنابشتم.

تظهر صورة البطل أيضًا في كونه مُلهمًا من الآلهة وتوحي إليه، هي صورة أشبه ما تكون بصورة نبي. شكَّل الطوفان حدثًا مهيبًا لدى سكان وادي الرافدين، وتعددت أسماء الخالد الذي نجا من الطوفان بعد هلاك جميع البشر، فظهر باسم أتراحاسيس وزيسودرا وأوتنابشتم في قصائد مختلفة، وتنحو جميعها منحًى واحدًا في كون هذا البطل بإيحاء من إلهه صنع السفينة وأنقذ بذريته البشرية من الفناء. أما أدابا فهو رجلٌ خصَّه الإله إيا (أنكي) بمبعده في مدينة أريدو، ووهب له قدرات فائقة أساء استخدامها حين كسر جناح الريح، فأغضب آن وطلبَ صعوده إلى السماء. نصحَ إيا عبده أدابا بأن يرفض ما سيقدمه له آن في السماء من خبز وماء، فامتثل أدابا لنصيحة إيا لكنها نصيحة كلَّفته الكثير إذ كان في هذا الخبز والماء الخلود.     

أما صورة البطل الأخيرة في هذا المقال فهو البطل الحكيم ممثلًا بشخصية أحيقار. عاش أحيقار الحكيم في حقبة الإمبراطورية الآشورية، السلالة السرجونية (721-612 ق.م)، وقيل إنَّه كان مستشارًا لسنحاريب، وبعد وفاته صار مستشار ابنه أسرحدون. تقع خصومة بين أسرحدون وفرعون مصر يخضع فيها المهزوم للمنتصر، ويدفع له الجزية ثلاث سنوات، يخرج أحيقار لهذه المواجهة ويهزم بحكمته الفرعون المصريّ ويضمن دفعه الجزية لآشور. 

1- وفقا لثبت الملوك السومريين فإن لوغال باندا حفيد ميش-كي-آنغ-غاشير أول حكَّام أوروك الملقَّب بابن أوتو. وفي ملحمة غلغامش البابليّة فأن لوغال باندا أبو غلغامش من زوجته الإلهة نينسون. وفي قصيدة ثور السماء السومريّة فيوصف لوغال باندا بأنه إله. وهذا يمثل مرحلة لاحقة من تحوّل البطل إلى إله.   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى