الكتاب الأخير للكاتب الإسرائيلي يوفال نوح هراري، الحائز على الدكتوراه في التاريخ من جامعة أكسفورد، والمحاضر في الجامعة العبرية في القدس. صدر الكتاب في شهر أغسطس سنة 2018، وهو ثالث كتبه وصدر بعد كتابيه الإنسان العاقل: موجز تاريخ البشرية والإنسان الإله: موجز تاريخ الغد، يأتي هذا الكتاب بمثابة حلقة تمثل خلاصة تقريبا لما طرحه في كتابيه السابقين، لكن هذه المرة بدلا من الغوص في الماضي واستقراء التاريخ البشري ورؤية كيفية تأثير الماضي في الحاضر وكيف تمكن الإنسان عبر مزاياه التي تمثلت بكفاءته العالية على العمل مع أعداد كبيرة عكس بقية الكائنات الحية، وقدرته على تخيل حقائق بين ذاتية عملت على توحيد البشرية كالمال والأديان والآلهة والدول والذي كان موضوع كتابه الأول، وبدلا من الحديث عن عالم الغد وما هي السمات المحتملة لهذا العالم مع التطور السريع والمُخيف للذكاء الاصطناعي واحتمالية تحول العالم من الإنسانوية إلى المعلوماتية والخوارزمية التي ستمثل ثورة جديدة في عالم الإنسان- يأتي بكتابه هذا دروسا للقرن العشرين، هذه الدروس التي هي في حقيقة الأمر محطات يستوقف فيها الكاتب قرّاءه، ويطلب منهم التفكير والتأمل فيها لافتا النظر إلى حقائق ووقائع نعيش في وسطها وتجري حولنا دون أن تحظى بأي اهتمام كثير منّا. حقائق منوعة تخص الإنسان والمجتمع والسياسة والتعليم والتطور التكنولوجي والمستقبل والأديان والآلهة. وانطلاقا من إيمانه بأن النظام الليبرالي هو أنجح نظام من جوانبه كافة قام الإنسان بإيجاده وتطويره لكي يواجه المشاكل المختلفة القادمة، وأن من دون النقد لن يستطيع أي نظام أي يصحح الأخطاء التي ارتكبها، إذًا، فهو دعوة للنقد ورحلة فكرية لعالم اليوم ولتجهيز العدة لمواجهة الأخطار القادمة وتجاوز العقبات المحتملة في الغد القريب.
ينقسم الكتاب إلى خمسة أجزاء، كل جزء ينقسم إلى فصول، وكل فصل منها يمثل درسا أو وقفة لاستقراء ونقد حقيقة أو مشكلة أو قضية أو موضوع، إلخ.
الجزء الأول بعنوان التحدي التكنولوجي، وينقسم إلى تبديد الوهم، والعمل، والحرية، والمساواة. في ظل التطور التكنولوجي المهول، كيف سيكون شكل العالم، وأنظمته وسياساته؟ ماذا عن العمل، كيف سيجد البشر الوظائف الكافية مع دخول الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة صناعية أو حياتية ينفذ وظائف مختلفة بكفاءة أكبر من الإنسان، هل سيعني أن الإنسان سيفقد قدرته على إدارة الأعمال ويترك المجال للذكاء الاصطناعي، تبدو الفكرة مخيفة ولكن حين نعرف مدى كفاءة الذكاء الاصطناعي في إدارة الأعمال سيبدو الأمر جذابا لنا. حين تكون وسائل النقل والمواصفات مُدارة من قبل نظام ذكي يقلل نسبة حوادث السير بنسبة 90% لهو أمر عظيم وجذاب، لكن ماذا عن ملايين البشر الذين يعملون سائقين؟ ماذا سيحل بهم، هل من السهل عليهم البحث عن وظائف أخرى، وأي وظائف هذه؟ ماذا عن الحرية في عالم الخوارزميات والمعلومات إذ بإمكان شركات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية التي توفر خدماتها للمستخدمين أمثال فيس بوك، وغوغل، وأمازون، التعرف على كل حركاتك وسكناتك، تعرف ما تحب وما تكره، وأنت تقوم بأغلب ما يجب عليك القيام به عبر الهاتف أو الحاسوب المتصلين بشبكة الإنترنت؟ ما تعريف الحرية والبيانات الكبرى تراقبك، على غرار الأخ الأكبر يراقبك؟ ثم في عصر التقنية الحديثة هل سيبقى هناك حديث عن المساواة إذا امتلكت نخبة من الناس والمجتمع كل القوى، وسيطرت على شبكة المعلومات واستخدمتها ضد البقية، سواء تسيطر عليهم أو تتلاعبهم بالحقائق، ألن يشكل هذا التطور التكنولوجي تحديا كبيرا لنا، وفي المقابل ما الإجراءات التي يجب أن نتخذها لكي نحمي أنفسنا أو في الأقل نقلل من خطرها ونحد من حجم الخسائر؟ هذا إذن هو التحدي الذي يسترعي انتباه القارئ ويحثه يوفال على تدقيق النظر والتفكير فيه، وهو في المقابل لا يعطي حلولا لكل مشكلة، هو يعرض الحالة ويذكر الاحتمالات المترتبة عليها أما إصلاحها فهي مسؤولية مناطة بنا جميعا.
الجزء الثاني من الكتاب هو التحدي السياسي، وينقسم إلى المجتمع، والحضارة، والوطنية، والدين، والهجرة. في هذا الجزء يكمل ما بدأه يوفال عبر عرض التحديات التي تواجه البشرية لكن من خلال منظور المجتمع والحضارة والوطنية أو الأوطان والدين والهجرة. نعيش اليوم في حضارة واحدة كما يقول يوفال عبر اشتراكنا بكثير من القيم والمبادئ والقوانين سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الرياضة أو الحقوق، هذا التشارك الكلي -نظريا- يعطينا دليلا واضحا على نهاية ما يسمى بصراع الحضارات ونحن اليوم نعيش في حضارة واحدة، يبقى الأمر الذي يهدد هذه الحضارة هو رؤيتي لبلدي أفضل من بلدك، هذه التفصيلة التي تقدم مصالحي على مصالح الآخر، مصالح بلد على مصالح بلد آخر، تمثل عقبة مهمة أمام توحيد الجهود لمواجهة أخطر ثلاثة تحديات أو أخطار، تتمثل في الأسلحة النووية، والاحتباس الحراري والانهيار البيئي، ولا انضباطية الذكاء الاصطناعي، يرى يوفال أن الدين سيفشل في مهمة التوحيد لأن كثير ديانات قائمة على الإقصاء وتفضيل الأنا على الآخر، لذا فما السبيل لهذا التوحيد الناجع للجهود البشرية لأجل مواجهة وتجاوز هذه العقبات والمخاوف التي تهدد مستقبل البشرية ومستقبل الحياة على هذه الأرض، يقترح يوفال سياسة عالمية موحدة، لا يعني بها سياسة واحدة أو إدارة واحدة، بل سياسة تجعل الحكومات تنظر إلى مصالحها ضمن اعتبارات مصالح الدول الأخرى، لأن أي فعل لا يشمل الجميع سيجعل من حدوث كوارث تنهي مستقبلنا واردة، وإلا ما فائدة أن تجتمع دولا وتتفق على معاهدات تخص البيئة والمناخ تشمل دول أوروبا والصين، ثم لا تتفق معهم أمريكا ولا تستجيب لهم! كلنا في مركب واحد وعلينا الإسراع في تحديد آلية التحكم لهذا الكوكب وإلا فالعواقب وخيمة. ويبقى تحدي الهجرة من أهم التحديات التي تواجهها القارة العجوز على وجه الخصوص، وهي من القضايا التي أسالت وستسيل الحبر، وفتحت الأبواب أمام التعددية الثقافية ومجتمعات هجينة مختلطة -كوزموبوليتانية- الأمر الذي دفع المحافظين على رفع حدة الخطاب ضد مثل هذه الهجرات التي تهدد هوية المجتمع وعاداته وقيمه، وتفرض على الوافدين الجُدد شروطا قاسية لاعتناق هذه القيم الجديدة حتى وإن اضطروا للتنازل عن بعض عاداتهم وقيمهم. بقي موضوع الهجرة الذي طرحه يوفال ناقصا نظرا لأن الهجرة مرتبطة بالسياسات الحالية والتاريخية الأمريكية والأوروبية على التوالي، في منطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا، لكنه يناقش القضية كونها نتيجة واقعية دون البحث في أسبابها أو التوسع في دراسة جذورها، وتبقى الهجرة إلى مجتمع جديد بحاجة إلى تعاون ما بين المهاجر والمهاجَر إليه (حكومة وشعبا) -وأتكلم كوني مهاجرا، وعارفا بهذه الحالات- أجد أن التعامل المؤسساتي في بلجيكا على سبيل المثال ليس كفوءا كفاية لدمج المهاجرين مع المجتمع البلجيكي، فهم يقومون بأشياء ويتكاسلون عن أخرى، كإلزامية تعلم اللغة وقلة الاختلاط المحفّز مع المجتمع البلجيكي للتعرف على قيمه وعاداته. لذا فإن موضوع الهجرة يحتاج إلى اجتهاد أكبر من قبل الطرفين، وتعاون، كذلك العمل على إيقاف أي سياسات خارجية مسببة للهجرة وأن يأخذ الاتحاد الأوروبي دوره الحقيقي في ردع السياسات الأمريكية الهوجاء والتوقف عن كونه تابعا فقط يشترك في تحالفات مدمرة وقاتلة، أو عبر مد الحكومات الدكتاتورية بالأسلحة، أو دعم سياساتهم على نحو مباشر أو غير مباشر. والأمر كذلك مناط بالجانب الداخلي المجتمعي يحتاج الى تظافر جهود تتمثل في تنازلات من الطرفين لأجل خلق وحدة اجتماعية تكون معدة لأن تأتي أُكلها في المستقبل على نحو أكثر نجاعة، الأمر ليس سهلا ولا يسيرا ولن يأتي بلمح البصر بل يحتاج إلى صبر وتعامل حقيقي جاد داخليا وخارجيا، وإلا فإن الهجرة والمهاجرين سيكونون نواة لمجتمع جديد ودولة داخل دولة كما وصفتهم ميركل ذات مرة إن لم يكونوا قد شكلوا أسس مجتمع جديد بالفعل.
الجزء الثالث من الكتاب “اليأس والأمل” والذي ينقسم إلى الإرهاب، والحرب، والتواضع، والإله، والعلمانية. يمثل الإرهاب وفق مفهومه الغربي (أوروبيا وأمريكيا) صداعا، وخطرا يهدد السلم العالمي في حالة غضينا الطرف عن الإرهاب الدولي، على أي حال، فإن يوفال يعد الإرهاب لا يملك السمات التي تجعله يمثل تهديدا بل هو يقتات على الخوف، فهو يمثله كبعوضة تطن في أذن ثور واقف أمام محل صيني، فتثير هذه البعوضة جنون الثور فيجري مذعورا تجاه المحل الصيني ليهدمه، هكذا إذن فالنظام الدولي أشبه بثور دمر العالم بسبب بعوضة الإرهاب، بعيدا عن مدى حقيقة وصواب هذا المثال، لكن التعامل المبالغ فيه هو سبب لكبير من الأزمات والمصائب، ولا يجب أن ننسى دور النظام الدولي في إحياء ودعم جماعات إرهابية، وما العمليات المضادة التي تحدث في أوربا وأمريكا في أغلبها إلا ردود فعل لسياسات وممارسات خاطئة بغض النظر عن دوافعها، وإن لم يتفق يوفال حول صواب هذه الردود أو منطقيتها. ويعد يوفال أن الإعلام هو السبب الأهم في جعل الناس مذعورين من الإرهاب، أما كيفية التخلص من الإرهاب فيقول: على الحكومات أن تجفف منابع تمويله، وعليها أن تعمل في صمت بعيدا عن الإعلام وبعيدا عن مسامع الناس، والخطوة الأخيرة هي مناطة بنا علينا ألا نغذي الإرهاب بمخاوفنا منه، ففي النهاية من يموتون بسبب السمنة وحوادث السير سنويا أكثر مما يفعله الإرهاب خلال عقود. فيما تبدو الحرب من جهة أخرى خيارا بعيدا لكثير من الدول لأن الحرب في القرن الحادي والعشرين ليست كالحرب في القرون السابقة، فقد يمكنك أن تربح حربا فيما مضى وتكسب أراضي جديدة وكنوزا وعبيدا، في حين الحرب اليوم ستكلف الدول أموالا كثيرة وفي المقابل لن تجي شيئًا مقابل ما خسرته، ولكوننا في عصر الأسلحة النووية فإن للحرب عواقب تدميرية تجعل من نتائجها مهددة للوجود البشري، وتمنع كل طرف من التفكير فيها، إضافة إلى انتصار الليبرالية ضد النازية والفاشية ثم الشيوعية وهي التي تدور في فلك الإنسان وعبادته. وهنا يضع يوفال أمرين يجب وضعهما في عين الاعتبار؛ الحرب خيار مستبعد في العصر الحالي؛ لكننا لا يجب أن نغفل عن غباء الإنسان الذي لن يجعل من خيار الحرب مستبعدا. وإن الحل الأفضل في تجنب الحروب وفي تقديم مصالح بلدي على بلد الآخر، وأن أرى أن وطني وأمتي هم الأفضل، يكمن في التواضع، وعلى الجميع أن يتواضعوا وأن يعرفوا بأنهم ليسوا مركز العالم، تبدو فكرة التواضع فكرة إيجابية لكنها تحلق في فضاء مثالي يوتوبي لا يمكن أن يتحقق على الأرض، كون الطمع والجشع والأنانية وتقديم الذات على الآخر، هي من سمات الإنسان والتي لن يقلمها سوى اتباع الدين الحق. موضوع الإله، يُطرح طرحا غير ذي مزية فهو يتناوله مثلما يتناوله كثيرون، تتلخص رؤيته في وجوب القيام بالأفعال الجيدة وتجنب الأفعال السيئة بعيدا عن “الإله أمر بهذا أو منعه”، لأنه لو الإله أمر بفعل شائن فالمؤمن به والمتبع أوامره سيقوم بهذه الأفعال، وهذا مثال سقيم، لأنه يقوم بخلط المعتقدات جميعها في بوتقة واحدة، ومن هنا يبدو مثاله ساقطا في حفرة الخطأ قبل أن يرد عليه، وهذه من مساوئ يوفال عند حديثه عن الأديان هو جمعها بحكم واحد دون أن يعطي أفضلية لدين على آخر، وشتان ما بين دين حق ودين باطل، ووفقا لمثاله فإننا لا نسرق لأن السرقة في حقيقتها تمثل أذية للآخر ولا نقتل لأن عملية القتل في حقيقتها معاناة للآخر وهكذا. ويضيف في نظرته للإله بأن الأخلاق قبل الإله لذا فلا يصح أن نربط الأخلاق بدين معين، فالتفكير بالآخر وأن تحب له مثلما تحب لنفسك وأن تكره أن تُريه منك ما تكره أن تراه منه قد قالها الفيلسوف كونفشيوس قبل الإنجيل. وفي هذه الفكرة أيضا لغط، فالله يحرم ويمنع إلا لما فيه من خير الإنسان وصلاحه، وهو أمر ولكنه لم يمنع أن نبحث عن أسباب التحريم، بل وفي كثير من أسباب التحريم حقائقا يلتمسها الناس، فهو حرم الزنا لما في الزنا من مفاسد، وهتك للأعراض وتقويض لبنية المجتمع والأسرة، وكونه لا يؤمن بتحريم أو المنع لهذه الأسباب لا يعني بالضرورة أن الأخلاق قبل الدين، وكذلك ما الذي يمنع أن يكون كونفشيوس أو غيره أخذوا حكمتهم وتعاليمهم من مصدر واحد مثل بقية الأنبياء، والأنبياء بعمومهم لم يقولوا نحن أول من جاء بهذا الخُلق بل دعوا إلى عبادة رب واحد في أقوام أشركوا بربهم وانتشرت في أقوامهم المنكرات، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق، إذن فاللدين مهمتان تقويميتان (أخلاقية وروحانية) غير منفصلات عن بعضهما يرتفعان بالإنسان فعلا وفكرا. وينهي الجزء الثالث بالحديث عن العلمانية، التي يعدها الحل الأفضل والنظام الأنجع في قيادة العالم، ويذكر أمرا مهما، ألا وهو الاعتراف بالظل، فمن يرى أن معتقده أو نظامه الفكري الأجدر بحكم العالم وتصدر المشهد، يجب عليه أن يعترف بأخطائه وأن يقوم بتنفيذ مشاريع قابلة للتحقيق بدلا من من وعود كاذبة تحلق في فضاءات اللا واقعية مثل هذه التي تعد بها الحكومات الدكتاتورية.
الجزء الرابع من الكتاب وهو الحقيقة، وينقسم إلى الجهل، والعدالة، وما بعد الحقيقة، والخيال العلمي. ويطرح في هذا الجزء قضايا تخص اليوم والغد، فنحن نعيش في عالم لا نعرف عنه كل شيء، وكل يوم يزداد جهلنا به، هذا الجهل الذي يرغمنا على الاعتراف بأننا لا نعرف كيف يدار العالم وإلى أين يمضي وما مصيره، ووفقا لهذا الأساس، فإن يوفال ينفي قدرة أي نظام على إدارة هذا العالم، ومهما قيل عن وجود هكذا نظام سري، فإن الواقع يُثبت بأننا نعيش في عالم أكبر من أن يدار من قبل جهة واحدة وتزداد صعوبة إدارته يوما بعد آخر. في حين تبدو العدالة كلمة فضفاضة كثيرا، إذ لا وجود للعدالة في هذا العالم والتاريخ أكبر مثال لنا بأن هذا العالم معدوم العادلة ومحاولاتنا لتحقيق العدالة ستبقى ناقصة، لأننا قد نؤمن بحقوق الإنسان ووجوب حصول جميع الناس على حقوقهم التي كفلتها المواثيق الدولية، لكننا بذات نرتكب جرائم بحق البيئة التي تسبب أضرارا للآخرين، ولهذا فإننا قد نؤذي الآخر بطريقة غير مباشرة، لذا فإن تطبيق العدالة أمر عسير جدا. وفي زمن وسائل الإعلام والأخبار المزيفة والكذب الذي يُبث، تُصبح الحقيقة بلا أي سمات معروفة، فكيف نميزها من الكذب؟ هذا الأمر صعب جدا، لأن تكرار الأكاذيب ينقلنا إلى مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد الحقيقة، والكذبة التي تتجاوز يومها وتبقى تُردد في مسامع الناس تتحول إلى حقيقة مُسلم بها، فنحن نعيش في عصر اللا حقيقة، وعلينا البحث كثيرا والاجتهاد من أجل الحصول على بعض من الحقيقة. لكن ماذا عن عالم الغد؟ كيف سيبدو وهل ما يُصوَّر في الأفلام عن شكل الغد حقيقيا؟ هذا الأمر هو الآخر بعيدٌ عن الحقيقة، فعالم الغد ليس كما في فلم المصفوفة، أو أفلام أخرى تصور أن الإنسان يعيش في صندوق وأن الخروج من هذا الصندق أو المصفوفة يحتاج إلى أن تهرب من ذاتك أولا. ولأن لا أحد يعرف كيف سيكون شكل العالم الذي سيكون للخوارزميات دور كبير فيه، فإن تصوير الخيال العلمي عبر الأفلام أو الروايات يبقى معبرا عن رؤى شخصية أو حتى وسائل للتلاعب بالعقل البشري. وينهي يوفال الفصل عبر اقتراحه حلا للتعامل مع عالم الغد في القرن الحادي والعشرين يتمثل في الهروب من التعريف الضيق للنفس وأنه قد يكون المهارة الضرورية للنجاة في هذا القرن.
الجزء الخامس الأخير من الكتاب، المرونة أو القدرة على الانكماش، وهو ينقسم إلى التعليم والمعنى والتأمل. وهو بختامه للكتاب من أكثر الأجزاء أهمية إن لم يكن عمليا أهمهم. التعليم في القرن الحادي والعشرين من أكثر الأمور تعقيدا، فما الذي يجب أن يُعلمه ولاة الأمور لأبنائهم، وصعودا إلى النظام التعليمي! يقترح خبراء علم التربية تعليم الأطفال أربعة أشياء: التاءات الأربع 4Cs، وهي التفكير النقدي Critical thinking، والتواصل Communication، والتعاون Collaboration، والتفكير الإبداعي Creativity. وهو ما يبدو أفضل وسيلة تعليمية لكنها ليست كافية لأننا لا نعرف كيف سيكون شكل العالم بعد عقود في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وينصح يوفال بأن على النشء أن يعرف ذاته، ويعلق ساخرا هذه نصيحة تراثية في الكتاب، لكن معرفة ذاتك أمر ضروري جدا، أن تعرف ذاتك قبل أن تعرف شركات المعلومات والحكومات والتكنولوجيات ما تحب ما وما تكره، لأننا في عصرة سرعة الإنسان وعلينا الإسراع بمعرفة ذواتنا قبل أن يعرفونا، ويتلاعبوا بنا وقتها بسهولة. وفي أثناء هذا البحث عن الذات ومعرفتها يجب علينا أن نجد معنى لحياتنا، ويضرب أمثلة متعددة حول معنى الحياة، يبقى معنى الحياة مناطا بنا معرفته وما يريده كل منا من حياته وأين تتمثل قيمة ومعنى حياته؟ هل في إيجاد الحبيب المناسب أو الأخذ بدوره في هذا العالم ضمن خُطة فوسفيسائية كبيرة، يكون فيها لكل مهمته، وما نوع هذه المهمة؟ هذا ما يتوجب على كل منا معرفته، والوقوف على معنى لحياته، أو حتى صنع معنى لها، المعنى من الحياة قد يكون فجوة في الفكر الذي يطرحه يوفال في كتبه، فأن تبحث عن معنى لحياتك قد يتعارض مع ما يبثه عن عدم وجود ذات منفردة أو روح أو أنا أو إرادة حرة، فالجسم عبارة عن أعضاء يتحكم بها العقل والوعي عبر تفاعلات كيمياحيوية ونظام عصبي ولا وجود لذوات منفردة، وحتى قد يصل الأمر إلى تقننة الإنسان (خوارزميات)؟ فهل هذا المخلوق عديم الإرادة الحرة والكينونة، هذا المخلوق الذي جاء بالصدفة وسيموت وفقا لمشاكل تقنية في نظامه الحيوي بحاجة إلى البحث عن معنى لحياته؟ إذا أخذ من المنظور الذي يجعلنا مخلوقات بلا أي غاية في وجودنا ومصيرنا فلا داعٍ للبحث عن معنى لحياتنا، لأن البحث عن معنى، يقر الواحد منا بإرادته أو مرغما أن الحياة ليست عبثية ووجودنا فيها لم يمكن مجرد صدفة بل نحن جزءٌ من كل كبير ننتمي إليه. وينهي الكتاب بدرس أو محطة التأمل، والذي يعده من التقنيات المهمة التي يتوجب علينا تطبيقها، والتأمل هنا هو رصد ومراقبة الذات، ويتكلم فيه عن تجربته الشخصية مع التأمل ويقول لولا مراقبتي لذاتي بعد أن دخلت دورة فيباسانا Vipassana، وتعلمت مراقبة ذاتي لساعتين يوميا بعدها، مراقبة نفسي وقت الغضب أو السعادة كيف يبدو الشعور، لما استطعت كتابة كتابي السابقين. أن تعلمي مراقبة تنفسي شهيقا وزفيرا، ممكني من تدبّر نفسي والوصول إلى فهم أعمق وأشمل لوعيي وعقلي لم أصل إليه عبر القراءة أو الدراسة أو النقاشات الفلسفية.
كتاب الدروس الواحدة والعشرون، من أكثر الكتب التي تحدث فيها يوفال عن تجاربه الشخصية لذا فهو سيكون مصدرا مهما للدارس في حياة يوفال.