أدب وادي الرافدينالتراث الأدبيقصص

زواج البدويّ عَمُور

(أعدت سرد قصيدة زواج مارتو (عَمُور1) السومريّة، بالاعتماد على ترجمتين الأولى بالإنجليزية وهي من The Electronic texts corpus of Sumerian literature، والثانية بالعربية لقاسم الشواف ضمن قصائد الجزء الثالث من ديوان الأساطير. غيَّرت في القصة تغييرات طفيفة لما يتطلبه البناء القصصي السردي)

في شرخ الزمان كانت مدينة عيناب عامرةً بالناس، يحكم فيها تاجُ الإله المقدّس، ما قطنَ بعدُ في السماء، والأشجارُ الكريمة تمنح ثمارها بسخاءٍ، والوحشُ والحيوان في تكاثر  وانتشار في الأرض. عمرت البلادُ بالمدنِ الجليلة لكن مدينةٌ واحدةٌ كانت الأميرة عليها، وطفق اسمُها يملأ الآفاق، إنَّها مدينة عيناب. لها ملكٌ يُدعى تيغي-سيم-ألا، وزوجه اسمها ساغي-غو، وولدٌ يرافقُه في كل مكان يعرفه الناس باسم كاسكال. عاشَ خارجَ أسوارِ مدينة عيناب بدوٌ لا يعرفون سوى الرعي وصيد الحيوان، كانوا يذرعون السهوب في مطاردة الظباء والغزلان، ويسكنون الخيام. يقصدُ هؤلاء الرعاة الصيادون معبدهم عند المساء ليقدِّموا القرابين لإلهم، ويوزِّع عليهم بعدها كاهن المعبد حصصَهم من الطعام، يُعطي العَزَبَ حصةً واحدةً من الطعام، ويعطي المتزوج حصَّتين من الطعام، ويعطي ذا الولدِ ثلاث حصصٍ من الطعام. برز من بين الرعاة رجلٌ موهوبٌ في طَرَدِ الغزلان، سريعةٌ قدماه، له مكرٌ في بناء الشِّراكِ والفخاخ، وما أفلتَتْ طريدة منه في يوم. كثيرًا ما كان عمور يتساءل عن سبب حصوله على حصة واحدة لا حصَّتين، يعلمُ أنَّه بلا زوجٍ لكنَّه أراد في قرارة نفسه أن ينال من الكاهن حصَّتين. ذات مساءٍ وحين بلغَ الكاهن عَمور أعطاه حصَّتين من الطعام، تفاجأ عَمُور من صنيع الكاهن لكنَّه آثر السكات، وعاد إلى خيمته فتلقَّته أمُّه وحيَّاها ثم جلس معها. قال عَمُور لأمه ’يا أمَّاه حدث اليومَ شيءٌ عجاب. وزَّع الكاهن على العَزَبِ حصَّةً من الطعام، وأعطى المتزوِّج حصَّتين، وذا الولد ثلاث حصص، وحين بلغني ناولني حصَّتين. يا أماه إنَّ مِن رفاقي مَنْ له زوجٌ ومنهم من له ابن وابنان، وأنا ما زلتُ بلا أهل أسكنُ إليهم ومع ذلك فقد حظيتُ بحصَّتين من الطعام‘. 

في مساء اليوم التالي حين بلغَ الكاهنُ عَمُورًا أعطاه مرَّة أخرى حصَّتين من الطعام، أخذها عَمُور متعجِّبًا في قرارة نفسه، وقفلَ راجعًا إلى أمه. قال لها حين تلقَّته عند الخيمة ’لقد أعطاني الكاهن يا أمَّاه حصَّتين من الطعام هذا اليوم أيضًا، فضَّلني على رفاقي العُزَّاب. أماه أريدُ أن تختاري لي زوجًا وسأمنحُكِ حصَّتي من الطعام‘. 

أجابته أمُّه ’يا بُنيَّ الحبيب، إنِّي مُشيرةٌ عليكَ بمشورةٍ فاحفظها، وناصحةٌ إياكَ نصيحة فاتبعها، إذا ما أردتَ الزواج فاخترْ بنفسكَ زوجَك، اخترْ من يُحبِّها قلبكَ، اجلب لأمكِ رفيقة تؤنس عليها يومها وتخدمها في عيشها. تزوَّج مثل رفاقكَ القاطنين حول المدينة، فمنهم من ابتنى له دارًا يشغلها مع أهله، وآخرون حفروا آبارًا وأغنوا أزواجهم عن الاستقاء من النبع والنهر‘.  

اتَّفقَ حين ذاك أن أقيمَ احتفال كبير في مدينة عيناب، وبُعثَ الرسل إلى كلِّ أرجاء البلاد يدعون الناس للمشاركة في الاحتفال والمباريات. كان عَمُور عازمًا على الذهاب إلى الاحتفال، وقال لأصحابه في ذلك اليوم المشهود ’هيا يا رفاق لنذهب إلى المدينة، نُزجِّي الوقت ونُشاركُ في ألعاب الملك، علَّ الحظَ يُحالفنا ونفوز بجائزة واثنتين‘. 

حضرَ الاحتفال الإله نوموشدا، تُرافقه زوجه الحسناء نامرات، وابنته العزيزة أدجار-كيدوغ. كانت المدينة تدوي بصوت طبول النحاس والأهازيج والغناء، واجتاحت المدينة من بواباتها الأفراح، وكان الناس في أكل وشرب وسعادة، امتلأت الساحات بالألعاب، وتنافسَ الأبطال في الحلبات. شغلَ الإله نوموشدا مقعده في مقدِّمة معبد المدينة مشرفا على الساحة الفسيحة، وقعدت بجواره نامرات وأدجار-كيدوغ، وطيف عليهم بصحاف الطعام وأكواب الشراب، وقامَ السقاة عند رؤوسهم، وفي موضعٍ قريب كان الملك تيغي-سيم-ألا وزوجه ساغي-غو يتابعان المباريات، ويعلِّقان بهدوءٍ على الألعاب والأبطال في ساحة المعبد الكبيرة.       

غصَّت المدينة بالقادمين من كلِّ مكان، وفاضت الطرقات بالرجال والنساء، كان الاحتفال قد بلغَ ذراه حين وصلَ عَمُور إلى المدينة، وأراد المشاركة في المباريات. شقَّ دربه بين الناس إلى ساحة المعبد حيثُ أقيمت كبرى المباريات. ما أن شارفت قدماه على وطء الساحة حتى خطفتْ أدجار-كيدوغ بجمالها الأخَّاذ بصره، وشده حُسنها السحَّار، ووقعت في قلبه وقال هي ذي المرأة التي أريد، وهي ذي زوجي التي لا أرغب في سواها. لكن أنَّى له أن يبلغها وهي ابنة الإله نوموشدا، وحزم أمره على الإتيان بشيء عُجاب يجذبُ إليه أنظار الآلهة والملوك وكلّ الجمهور. طفقَ يمسحُ بناظريه حلبات الألعاب، وتخيَّر أقوى المنافسين لنزالهم. فكان أول خصومه في حلبة المصارعة رجلًا ضخم البُنيان يعدلُ ثلاثة رجال من أمثال عَمُور، لكنه كان أوهن من أن يبطحَ عَمُور، إذ ساعدته قدماه السريعتان على الالتفاف حول منافسه، وضرب كاحليه، وما أن جرى إليه منافسه انسلَّ من بين قدميه وركل كاحله الأيسر فاختلَّ توازنه وسقطَ، وفازَ عَمُور عليه. علا هتاف الجمهور لهذا البطل الشاب، وجذب الهتاف أنظار الإله نوموشدا وأدجار-كيدوغ. ثم دخلَ حلبة أخرى وتلاكمَ مع منافسه قوي الجذع شديد القبضتين، ومرَّة أخرى بفضل ساقيه السريعتين ما تمكَّن خصمه من تسديد اللكمات إليه، وتلقَّى من قبضتي عمور المعتادتين ذبح الغزلان الضربةَ تلو الأخرى حتى سالت منه الدماء، وخرَّ على وجهه مصعوقًا من قصفِ عمور. علا صياح الجمهور أكثر فأكثر، وحين دخلَ الحلبة الثالثة، وكانت أخطر الألعاب، واجه ثلاثة منافسين لكنهم ما استطاعوا هزيمته، فما أن يقبل عليه أحدهم حتى يعدو إليه ليصدمه، فيرتبكُ منافسه ويحاول تجنُّبه لكنه يُلكمُ على عينه، ويهجم بعدها مباشرة ضاربًا فخذ الآخر، وما يفيقُ الثالث من سكرة المشهد حتى يجد عَمُور قد ضربَ خصيتيه، ويقعيه على إليتيه. كان واضحًا عند كلِّ من حضر الاحتفال أنَّ عَمُور هو بطلُ الألعاب، ولا منافسَ له بين كلِّ الرجال. ضجَّت ساحة المعبد الكبيرة بترديد صيحات التشجيع والمديح. نهضَ الإله نوموشدا من مقعده وحيَّا البطل عَمور وأشارَ إليه بيده أن يُقبلَ عليه. أفسحَ المتفرِّجون لعمور الدرب، وخرجَ من الساحة وسطَ هتاف الجمهور مُدوِّيًا في مدينة عيناب المُحتفلة ببطلها السريع. حين بلغَ عمور الإله نوموشدا خاطبه ’أهلا بالفائز الذي أظهر لنا عجائب سرعته وغرائب شجاعته، ما اسمك أيها الهمام؟‘ 

أجابه عمور ’اسمي عمور يا إلهي الجليل‘. 

قال الإله نوموشدا ’إنَّك بطل عيدنا الكبير، ولكَ ما تشاء من جوائز. سأمنُحكَ مئة كَيْلة من الفضَّة‘. 

أجابه عمور ’لستُ بحاجة إلى الفضة يا إلهي‘. 

قال الإله نوموشدا ’إنَّك بطل عيدنا الكبير، ولكَ ما تشاء من جوائز. سأمنحكُ مئة كَيْلة من الجواهر‘. 

أجابه عمور ’لستُ بحاجة إلى الجواهر يا إلهي‘. 

قال الإله نوموشدا ’إنَّك بطلُ عيدنا الكبير، ولك ما تشاء من جوائز. سأمنحكَ مئة كَيْلة من الذهب‘.

أجابه عمور ’لستُ بحاجة إلى الذهب يا إلهي‘.

قال الإله نوموشدا ’إنَّك بطل عيدنا الكبير، لك ما تشاء من جوائر. سأمنحكَ ما تطلبه أيها الهمام، فسلني ما تريد‘.  

أجابه عمور ’يا إلهي رفضتُ فضَّتك وجواهرك وذهبك لا انتقاصًا منها، لكن أعلمني يا مولاي إلى أي مقامٍ سيرفعني الحجر المصمت، غلا ثمنه أو رخص. يا إلهي ما أريد جائزة سوى أن تزوِّجني ابنتَك المصون أدجار-كيدوغ، نعم هي الجائزة الكبرى التي أريد‘. 

تعجَّبَ الإله نوموشدا من طلب البطل، ويبس وجهه وما علته أي أمارة، لكن سرعان ما ارتخت تقاسيمه، وفترت عن شفيته ابتسامة رضى، ونادى ابنته ’هلُّمي يا ابنتي أدجار-كيدوغ‘. نهضت أدجار-كيدوغ وخطت نحو أبيها في ثوب احتفالٍ أبيض، موشَّى بالذهب في حواشيه، وقد برزَ ذراعاها البضَّتان، حين وصلت إليهما سحرت بصر عمور، فنظرَ إلى نعلها الأسود وأصابع قدميها البيضاء المُحمرَّة وصعَّد فيها النظر متأملًا وجهها البريء الباسم. 

قال الأب نوموشدا ’إنَّ بطل عيدنا الكبير يريدُ زواجكِ، فماذا تقولين‘. 

قالت أدجار-كيدوغ ’يا أبتاه زوِّجني من ترضاه لي بعلا‘. 

التفت الإله نوموشدا إلى عمور وقال ’إنَّ ابنتي رضيت بك زوجًا لكنَّ مهرها كبير، وإنْ استطعت عليه فهي لك زوجًا إلى آخر العمر‘. 

أجاب عمور ’اطلب مهرها ما تشاء يا مولاي‘ 

قال الإله عمور ’أوَّلُ مهرها أن تأتيني بقطيعٍ من الأبقار ترعى العجول. تُرضعُ الأبقار عجولها الحليب، وفي الزريبة تنامُ الأبقار والعجول. ثم تأتي بالأبقار والعجول عن يمينها إلى المعبد الكبير، وتشهد عليك مدينة عيناب. عدني بذلك وسأزوِّجكَ ابنتي أدجار-كيدوغ. 

وثاني مهرها أن تأتني بقطيع من النعاجِ ترعى حِملانها، وفي الحظيرة تنام النعاج والحملان. ثم تأتي بالنعاج والحملان عن شمالها إلى المعبدِ الكبير، وتشهد عليك مدينة عيناب. عدني بذلك وسأزوِّجكَ ابنتي أدجار-كيدوغ. 

وثالث مهرها أن تأتيني بقطيعٍ من العنز ترعى جداءها ثلاثة أشهر، وترضعُ صغارها الحليب، وفي المعلف تنام العنز والجداء. ثم تأتي بالعنز والجداء إلى المعبدِ الكبير، وتشهد عليك مدينة عيناب. عدني بذلك وسأزوِّجكَ ابنتي أدجار-كيدوغ‘. 

قال عمور ’أعدُكَ بذلك يا مولاي‘. 

قال الإله نوموشدا ’أكرم شيوخ عيناب بمعاضد الذهب مهرًا لابنتي‘. 

قال عمور ’أعدُكَ بذلك يا مولاي‘. 

قال الإله نوموشدا ’أكرم نساء عيناب بأوشحةٍ من ذهب مهرًا لابنتي‘. 

قال عمور ’أعدُكَ بذلك يا مولاي‘.

قال الإله نوموشدا ’أكرم عبيد عيناب بقلائد الذهب والثياب المزخرفة مهرًا لابنتي‘. 

قال عمور ’أعدُكَ بذلك يا مولاي‘. 

قال الإله نوموشدا ’أكرم جواري عيناب بأباريق من ذهب مهرًا لابنتي‘. 

قال عمور ’أعدُكَ بذلك يا مولاي‘. 

وعلى مرأى الملأ ومسمعه اتَّفق الإله نوموشدا والبطل عمور على مهر أدجار-كيدوغ، وخرجَ عَمور من الاحتفال وقد حظي بزوجٍ كريم. سعى بعد ذلك في أداء مهر أدجار-كيدوغ وإرضاء الإله في معبد مدينة عيناب. 

مرَّت الأيام وأزفَ موعد الزفاف، كانتْ أدجار-كيدوغ مع إحدى صويحباتها تُجاذبها الحديث. قالت صويحبتها ’اسمعي يا أدجار-كيدوغ لنصحي فلم تتزوجي بعدُ عمور‘. 

فاهت أدجار-كيدوغ ’وما في جَعتبكِ يا عزيزتي؟‘. 

قالت صويحبتها ’إنَّ عَمور من البدو، لهم من الأيادي لا تعرفُ سوى الإهلاك، وصفةُ عيشهم كعيش القردة. يطعمون ما تُحرِّمه الآلهة. قومٌ رُحَّلٌ لا يعرفون المكوث، وحرمهم الآلهة من نعمة الاستقرار. يسكنون الخيام ليست بمأوى من رياح أو مطر، لا يؤدون الصلوات والنذور. يعيشون على الرعي والصيد، ويلبسون جلود الحيوان التي لا تقيهم حرَّ الصيف ولا قرَّ الشتاء. يعيش الرجلُ منهم هائما في السهوب والفلوات والجبال، ويجهل معابدَ الآلهة. يقضي أيامه بحثًا عن الكمأ في صفحاتِ التلال، يأكل اللحمَ نيئًا، ولا يعرف كيفُ يجلسُ جِلسة متحضِّرة ثانيًا ركبته. يمضي شوط حياته بلا بيتٍ وإذا ما ماتَ فلا يُدفن في المقبرة، وهو من قوم لا يعرفون للميت الطقوس. أنَّى لك أن تتزوجي عَمور يا عزيزتي؟‘ 

أجابتها أدجار-كيدوغ ’سأتزوَّج عَمورًا، سأتزوَّجه‘. 

اسمعي يا مدينة عيناب، اسمعي! 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى