الثلاثاء المقدَّس (أغاني البراءة)
في الثلاثاء المقدَّس وجوهُهم مجلوَّةٌ بريئة
خطا الأطفالُ اثنينَ اثنينَ بلباسٍ أحمرَ وأزرقَ وأخضر
يتقدَّمُهم شمامسةُ شيِبُ وفي الراحِ صولجاناتٌ كالثلجِ بيضُ
حتى قبَّةِ بَول العليَّةِ ساروا ومثلَ مياه التِّمزِ فاضوا
فيا له من جمعٍ غفيرٍ لزهرِ كُورَةِ لندن
يقعدون زرافاتٍ ولهم ضياءٌ مُنير
للحشودِ همهمةٌ في المكانِ ولآلافِ الحملانِ
من البنات والصبيان أيدٍ بريئةٌ مرفوعة
وكريحٍ عاصفٍ رفعوا صوتَ الأغنية إلى السماء
أو كرعودٍ متساوقةٍ بين مقاعدِ العلياء
ودونهم العُجُزُ الحكماءُ حماةُ الفقراء
اِرْعَ بالحبِّ، وحذارِ أن يفلتَ من بابِكَ ملاك!
***
الثلاثاء المقدَّس (أغاني التجربة)
أقُدسيٌّ أن نرى
في بلادِ الخيرِ والثرا
أطفالًا إلى البؤس يُخفضون
تُطعمهمُ يدُّ الجفاء والربا؟
أأغنيةٌ صيحةٌ بارتعاش؟
أم تُراها نشيدًا بابتهاج؟
وما كلُّ الصِّغارِ الفقرا؟
إنَّها بالحقِّ بلادُ البَلا!
ما تُشرقُ شمسُهم أبدا
ومزارعُهم كئيبةٌ مُجرَّده
وسُبُلهم بالشوكِ ملأى
إنَّه بالحقِّ شتاءٌ تمدَّدا
بلادٌ تشرقُ الشمسُ فيها
ويغمرُ الغيثُ أراضيها:
ليس فيها جياعٌ رُضَّعُ
ولا ذو اللُّبِّ بفقرٍ يُروَّعُ
***
لندن
أتجوّلُ في كلِّ شارعٍ مُخطَّط
قريبا حيثُ يتدفقُ نهرُ التِّمز المُخطَّط1.
أُبصرُ في كل وجه ألتقيه
أماراتِ الضعفِ، وأماراتِ الشقاء.
في كلِّ صيحةٍ لكلِّ امرئ،
في كلِّ بكاءِ الرُّضَّعِ خوفًا،
في كلِّ صوتٍ، وكلِّ حُكْمٍ،
أسمعُ قيودًا شكَّلها العقلُ.
وصرخةُ كنَّاسي المداخنِ
تُرعبهم كلُّ كنسيةٍ مُسوَّدَةٍ2
وتنهيدةُ الجنود البائسين
تثعُ دماؤهم على جدارن القصرِ.3
أجول في الشوارع ليلًا وأسمعُ
شتيمةَ الفتية هارلوتس
تقذفها على دمعة وليدٍ رضيعٍ
وتنادي بالثبور على نعش الزواج.4
1- كلمة مخطط تعني أن الشارع صمم رسميا وبإشرافٍ وتدبير حكومي، والدلالة هنا على سيطرة الحكومة على كل شيء حتى الشوارع والأنهار.
2- كان كناسو المداخن من الأطفال، لا سيما الأيتام، وهم الطبقة السفلى من المجتمع، الذين يضطرون للعمل في تنظيف المداخن لصغر حجمهم وإعانة ذويهم، يشير هذا الجزء من المقطع إلى انحراف الكنيسة ودورها الاضطهادي.
3- ويشير الجزء الآخر من المقطع إلى الظلم السياسي والحكومي، وضحيته الجنود الذين تلطخ دماؤهم جدران المقر الحكومي.
4- يتناول المقطع الأخير الدعارة، وهارلوتس الفتية عاهرة تشتم دمعة الطفل، ومن الراجح أنه ابنها، وتلعن الزواج، وفي الأصل فهي تشتم العربة التي تحمل نعش الميت وتضيفها إلى الزواج، ويكون المعنى عربة نعش الزواج أو نحو ذلك في مهاجمة للزواج.
***
الزهرة العليلة
أيتها الزهرة إنك عليلة
فالدودة الخفيّة،
المرفرفةُ في الظلمةِ
حين يعلو عواءُ الريح:
في جوفكِ تستريح
تفترشُ فرحَكِ القِرمزيّ
وحبُّها المظلمُ المخفيُّ
يتلفُ حياتك ويستبيح
***
شجرة السُّم
لي صديقٌ أغضبني؛
فيه نفَّستُ عن حنقي، وبه تلاشى حنقي.
لي عدوٌ أغضبني؛
كظمتُ عنه غيظي، فتنامى غيظي.
سقيتُ مخاوفي،
ليلَ نهارَ بمدامعي،
وشمسُهما بسماتي
ورقيقُ حيلي الخادعاتِ.
كَبُرتْ في العَتَمة والنور
حتى أثمرت تفاحةً بسرور.
لمحَ عدوي سناها،
وظنَّ أن لي جناها.
وتسلل إلى حديقتي
حين جنَّ الليلُ ولفَّ المدى الظلام،
وأبصرتُ بالفرح مع تباشير الصباح
عدوي منبطحا دونَ شجرتي.
***
البَّبْر1
أيها البَّبْرُ البَّبْرُ ذو الالتماعِ الوهَّاج
في غاباتِ الليل البهيم،
أنَّى ليدٍ خالدةٍ أو عين
أن تُحيطَ بتناسقِكَ الرهيب؟
في أيّ أغوارٍ أو سمواتٍ
التظتْ في عينيكَ النيران؟
وأنَّى لأجنحةٍ أن تبلغَ شأوكَ؟
وما اليدُ الجريئة على حيازة النيران؟
أيُّ كتفٍ وأيُّ فنٍ
يفتلُ في قلبكَ النياط؟
وإذا ما خفقَ منكَ القلبُ
فأيُّ يدٍ مرعوبةٍ؟ وأيُّ مفزوعِ الأقدام؟
أيُّ مِطرقةٍ؟ وأيُّ قيد،
وفي أيّ تنورٌ جُبِلَ منكَ الدماغ؟
وأيُّ سِندان؟ وأيُّ قبضةٍ مخروعةٍ،
جرؤ فيها مِبشكٌ مرتاعٌ بالموت؟
ساعةَ تقذفُ النجومُ برماحها
وتتبللُّ السمواتُ بدموعها
أيبسمُ حين يرى صنيعه؟
أمَنْ بَرَا الحَمَلَ براكَ؟
أيها البَّبْرُ البَّبْرُ ذو الالتماعِ الوهَّاج
في غاباتِ الليل البهيم،
أنَّى ليدٍ خالدةٍ أو عين
أن تُحيطَ بتناسقِكَ الرهيب؟
1- هو الحيوان المعروف خطأ باسم النمر.
***
الحَمَل
أيها الحَمَلُ الصغيرُ مَنْ سوَّاكْ
أتعلمُ مَن سوَّاكْ
مَنْ وهبكَ الحياةَ وأطعمكْ.
عند الجدولِ فوقَ المَرْجِ،
كساكَ بأنعمِ صوفٍ وألمعِهْ،
مَنْ منحك صوتًا رقيقًا،
يُبهجُ كلَّ هذه الوديان!
أيها الحَمَلُ الصغيرُ من خَلَقكْ
أتعلمُ من خَلَقكْ
سأعْلِمُكَ أيها الحملُ الصغير!
سأعْلِمُكَ أيها الحملُ الصغير!
إنَّ اسمَه من اسمكَ،1
فها هو ذا يقول اسمُه حَمَلٌ،
دمثٌ هو، وديعُ هو،
صارَ طفلًا صغيرًا،
أنا طفلٌ وأنتَ حَمَل،
وإننا لنُنادى باسمه.
بارككَ الرَّبُّ أيها الحملُ الصغير.
بارككَ الرَّبُّ أيها الحملُ الصغير.
1- لُقِّب يسوع الناصري بحمل الله كما وصفه يوحنا المعمدان حين رآه.
***
يا دوّار الشمس
يا دوّار الشمس يا منكوب الزمان،
تُحصي خطوات الشمس؛
ثم تبحث عن جوٍّ ذهبيّ حلوِّ
حيث مآل الرحلة والرحّالة.
حيث يتوق الشبابُ للذة بعيدة،
وتُكفَّنُ البكارةُ في الثلج:
ينهضون من قبورهم ويعرِجون
إلى محطِّ أمانيّ دوَّارة الشمس.
***
بستان الحب
مشيتُ إلى بُستانِ الحبِّ،
ورأيتُ ما لم ترَه قطُّ عيني:
معبدٌ مبنيٌّ في جَوْزِه1،
حيث لعبتُ فوقَ مَرْجه.
موصدةٌ هي أبوابُ المَعْبدِ،
ومكتوبٌ عليها ’مُحرَّمٌ عليك‘
وليتُ دُبْري إلى بستان الحبِّ،
ازدانَ بفاتنِ الزهرِ وحلوه.
أبصرتُه مملوءًا بالقبور،
والرِّجامُ2 في محلِّ الزهور،
ويطوفُ قساوسةٌ سودُ الثياب،
يُغلِّون بالشوكِ مباهجي وأهوائي.
1- وَسَطه.
2- الرِّجام جمع رُجْمة، وهي حجارة تُوضعُ لتميز القبر، وتشيع حاليا باسم شاهد القبر.
***
لا تسعَ إلى إفصاح حبِّك
لا تسعَ إلى إفصاحِ حبِّكَ أبدًا
فالهوى ما كان يومًا يُقال
وعذبُ الهوا يهبُّ
بصمتٍ ولا نراه.
أفصحتُ عن حبي أفصحتُ عن حبي
أعلمتُها بكلِّ ما بقلبي
فارتعشتُ بردانَ بخفي مخاوفي
حين فارقتني
وساعةَ خلَّفتني وابتعدت
مرَّ بي مسافرٌ
بصمتٍ لا نراه
ليس الرفضُ في مداه
***
كنّاس المدخنة (أغاني البراءة)
صبيٌ كنتُ حين ماتت أمي
رضيعٌ حين باعني أبي
وما على لساني سوى ’بكاء! بكاء! بكاء! بكاء!‘
هأنذا أكنسُ مداخنَكَ وفي السُّخَامِ أنام.
لي رفيقٌ اسمه توم دَيْكَهْ
لشعره عقائصُ كظهرِ خروفٍ،
بكاها حين جُزِّتِ، فقلت صه توم! لا تكترث!
حين يصلعُ رأسكَ فلن يوسِّخَ السُّخام أبيضَ شعرك
سَكَتَ توم، وفي الليل البهيم
نائمٌ فيا لمرآه الرهيب!
آلافٌ من الكنَّاسين، دِك وجو وجاك ونِد
تحبسُهم كلُّهم توابيتُ سُود
أقبلَ ملاكُ بمفتاحِ برَّاق
فتحَ التوابيتَ وحرَّر الأطفال
ركضوا إلى مرْجٍ أخضرَ ينطُّون ويقهقهون
واغتسلوا في نهرٍ وأشرقوا في الشمس
بيضٌ وعراةٌ خلَّفوا في الوراء الأكياس
يمتطون الغيومَ ويلعبون في الرياح
أفصحَ ملاكٌ لتوم، إنْ أحسنَ السلوك
سيرعى الربُّ أباه ولن يشقى أبدا
صحا توم، وهبَّبنا في الظلام
أخذنا الأكياس والمكانس للعمل.
في بردِ الصباحِ غمرَ توم دفءٌ وسعادة
وإذا ما أدُّوا عملهم فلا يخشون المكروه
***
كناس المدخنة (أغاني التجربة)
شيءٌ أسودُ وَسَطَ الثلج
ينوح ويبكي بصوت الضرَّاء
أين أبوك وأمك؟ قل؟
ذهبا إلى الكنيسة للصلاة.
سعيدًا كنتُ عندَ الموقدِ،
أتبسَّمُ لمرأى ثلجِ الشتاء:
ألبساني لباس الموت،
وعلّماني الإنشاد بصوتِ الشقاء.
ولسعادتي ورقصي والغناء
حسبا أنَّهما أحسنا إليَّ الصنيع
وذهبوا لتمجيدِ الربِّ وقسِّه والمليك
من ابتنى لنا مملكةَ البأساء
***
الصبي الأسود
ولدتني أمي في بريَّة الجنوب1
أسودُ أنا لكنَّ روحي بيضاء،
أبيضُ كالملاكِ هو طفلُ الإنجليز
وأسودُ أنا كما لو سُلْبتُ الضياء.
علَّمتني أمي في ظلِّ شجرة
قعدتْ تحيط بها حرارة النهار،
أخذتني إلى حجرها وقبَّلتني،
أشارت بيدها للشرق وقالت.
انظرْ إلى الشمس المشرقة: هناك يعيش الإله
مانحُ الضياء، وموزِّعُ الأدفاء،
على الزَّهْرِ والشَّجَرِ والوَحْشِ والبَشَر،
تغمرُّهم الراحة في الصبحِ والظُّهْر.
شغلنا من الأرضِ المكانَ الصغير
لنتعلَّمَ تحمُّلَ بوارقَ الحب،
وما الأجسادُ السود ومسفوعُ الوجوه
إلا كالسحابِ وظليلِ الأغياض.
فإذا ما تعلَّمت أرواحنا مجالدة الحرِّ
اختفى الغيمُ وسمعنا صوت الإله:
اخرجوا من الغيضِة أحبّتي ورعيّتي،
والعبوا كالحملانِ عند ذهبيّ خيمتي.
قصَّت أمي كلَّ هذا وقبَّلتني
وهذا ما سأقوله لصبيِّ الإنجليز
جئتُ من السحابِ وجئتَ من الغيم
وحول خيمة الربِّ كالحملان نلعب.
سأظلِّلُكَ من الحرِّ حتى تسطيعَ الاحتمال
وتنحني بفرحٍ فوقَ رُكب الآباء
سأقومُ حينئذ عند رأسه أمسدُّ الشعرَ اللُّجَيْن
وأكون مِثلَه ويرىَ فيَّ حينئذ الخَدِين2.
1- المقصود إفريقيا.
2- الصديق الحميم. والأصل إنه سيحبني.