التراث الأدبيالتراث العربي

ديوان امرئ القيس

موجز حياة امرئ القيس 

هو حامل لواء الشعر امرؤ القيس حُنْدج بن حُجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، وينتهي نسبه إلى يعرب بن قحطان. لُقِّب الشاعر الفحل بعدة ألقاب منها الملك الضِّليل، وامرؤ القيس، وهو أشهرها، وكُنيَّ بعدة كُنى منها أبو وهب، وأبو زيد، وأبو الحارث، وذو القروح.  

ولدَ ما بين سني 497-501 للميلاد في نجد لقبيلة كندة ابنًا للملكِ حُجر بن الحارث. يروى أنَّ الفساد دبَّ في قبائل نزار في أوائل القرن السادس للميلاد، فالتجأوا إلى جده الحارث بن عمرو ليتداركَ الحال ويُصلح ما أفسدَ فكان لها، وفرَّقَ أبناءه الخمسة ملوكًا على قبائل العرب، فكان حُجر ملكًا على بني أسدٍ وغطفان، وشرحبيلُ على بكر بن وائل وحنظلة، ومعديكربُ على تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم، وسلمةُ على قبائل قيس، وعبدُ الله على بني قيس. 

استتبَ ملكُ حُجرٍ على بني أسد وغطفان، وقيلَ أنَّه دامَ ملكًا مُسوَّدًا عظيمًا فيه ستين عاما، ولدَ له فيها أبناءٌ، كان آخرهم امرأ القيس، فنشأ على ما نشأ عليه أبناء ملوك العرب من الفروسية والشجاعة. تردد امرؤ القيس كثيرًا على أخواله في بني تغلب، فأمه فاطمة بنت ربيعة التغلبية، أختُ كُليبٍ والمهلهل ابنا ربيعة، وقصتهما المشهورة في حرب البسوس. وقيل إنَّ امرؤ القيس تعلم الشعر من خاله عَدي، الملقَّب بامرئ القيس أيضًا، الذي لُقِّبَ بالمهلهل لأنه أول من هلهل الشعر أي رققه. شبَّ امرؤ القيس شاعرًا متَّقدِ الذهن والذكاء وفضَّ بكارة اللغة والشعر، وتغزَّل بنساء بني أسدٍ وشبَّبَ بهنَّ، فأساء الحال أباه، وزجره فلم ينزجر، ونهاه فلم ينتهِ، حتى بلغَ به الأمرُ أن طُردَ من قبيلته. عاشَ امرؤ القيس الباقي من حياته بتجوال وارتحال وصيد وإغارة وغزو وخمر ونساء وقرض الشعر وطلبٍ للثأر -بعد مقتل أبيه- مع صعاليك العرب وشذَّاذها الذين شاركوه حياته وأسبابه. 

دامت حياة امرئ القيس على تلك الحال حتى بلغه مقتلَ أبيه على أيدي بني أسدٍ، وكان في مجلسِ شرابٍ مع نُدمائه، فلما أنبأه الرسولُ -كان قد بعثه حُجر بالخبر وأبدى له جليَّة مقتله- بالنبأ الجلل رفعَ رأسه وقال ضيعني صغيرًا وحَّملني دمه كبيرًا، اليومُ خمرٌ وغدًا أمرُ. وآلى ألا يأكل لحمًا، ولا يشربَ خمرًا، ولا يدَّهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه، حتى يقتل من بني أسدٍ مئة ويجزَّ نواصي مئة بثأرٍ أبيه. 

بدأ امرؤ القيس سعيه في الثأر لأبيه والإثخان في خصومه وكان له ما كان بعد لأي ومشقة. ومن طريف ما يروى عنه في مدة طلبه الثأر أنَّه لما خرج لبني أسد مرَّ بالصنم ذي الخَلصَة فاستسقم عنده بأزلامه، وهي الآمر والناهي والمتربص. فلما ضرب بها خرج له الناهي في ثلاث مرات. فكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: لو كان المقتول أباك لما عُقتني. نال امرؤ القيس ثأره من بني أسدٍ وقتل قتلة أبيه، وأنكى فيهم، وألبسهم الدروع محمَّاةً، وكحَّلهم بالنار، وذكرَ فعلته بهم في قصيدته: 

قالتْ فطيمة حَلَّ شعرَكَ مدحُه * أفبعد كِندةَ تمدحنَّ قبيلا 

ويقول فيها: 

حتى أبالَ الخيلَ في عَرَصاتهم * فشَفَى وزادَ على الشفاء غليلا 

أحمى دروعهم فسربلهم بها * والنار كحَّلهم بها تكحيلا 

وأقام يسقي الراح في هاماتهم * ملكٌ يُعلُّ بشربها تعليلا 

وتحدَّث أيضًا عن ثأره في قصيدته: 

يا دار ماويَّة بالحائل * فالسَّهْبِ فالخَبْتَيْنِ من عاقلِ 

وفيها ذكر شربه الخمر بعد أن آلى ألا يشربه حتى يأخذ ثأر أبيه، ويقول: 

حلَّتْ لي الخمرُ وكنت امرأً * عن شربها في شُغلِ شاغلِ 

فاليومَ أشربُ غير مُستحقبٍ * إثمًا من الله ولا واغلِ 

وغير مستحقبِ إثمًا أي غير حاملٍ إثمًا. 

ولما سمعَ ملكُ الحيرة المنذر بن النعمان ألَّبَ العربَ عليه، وجمعَ منهم جيشًا وأمَّده كسرى بكتيبة من الأساورة وبعثهم في طلب امرئ القيس وتفريق جموع من معه، فكان له ذلك وما بقي مع امرئ القيس إلا عصبة من بني آكل المرار وسار بهم امرئ القيس متنقلا بين أحياء العرب، فمنهم من أجاره ومنهم من رفض ذلك. أقامَ امرؤ القيس عند السموأل زمنًا وطلبَ منه أن يكتبَ إلى الحارثة بن أبي شمرٍ الغساني بالشامِ ليوصله إلى قصر ملكِ الروم. فأعانه على ذلك، واستودعه امرؤ القيس ابنته وأمواله والأدراع، قيل إنَّ ملوكَ كندة كانوا يتوارثونها ملكًا بعد ملك. حين علمَ المنذر بن النعمان أنَّ امرأ القيس في جوار السموأل فأرسل في طلبه الحارثَ بن ظالم وسلبِ ما أبقاه عند السموأل. كان للسموأل حصنٌ في شمال الجزيرة العربية، وهو يهودي واسمه تعريب لشموئيل، فتحصَّن بداخله حين وصل الحارث، لكن لسوء طالعه أنَّ ابنا له صغير قد خرجَ للصيد، فأمسكَ به الحارث وطلبَ الأدراع ليطلقَ سراحه، فأبى السموأل أن يمنحه ما استأمنه عنده امرؤ القيس، وقال شأنكَ به فلستُ أخفرُ ذمَّتي ولا أسلّم مال جاري، فضربَ الحارث وسطَ الغلام وقطعه نصفين. وراحت فعلة السموأل مثلًا بين العرب وقيل: أوفى من السموأل. أنشدَ السموأل في تلك الحادثة أبياتا، وهو من كبار الشعراء: 

وفيتُ بأدرعِ الكندي إني * إذا ما خان أقوامٌ وفيتُ 

وأوصى عاديًا يوما بألا * تهدمَ يا سموأل ما بنيت 

بنى لي عاديًا حصنا حصينا * وماء كلما شئتُ استقيت. 

وعاديا هو جدُّه عادياء. 

أوردَ المؤرخون أنَّ امرأ القيس سارَ بنفسه إلى القسطنطينيّة فتقبَّله القيصر ووعده بالنجدة. وذكرَ نونوز المؤرخ أن يوستينيانس، حكم بيزنطة ما بين 527 م حتى وفاته سنة 565 م، قلَّده إمرة فلسطين إلا أنَّه لم يسعه ذلك في إصلاح أمره وإعادة ملكه، فضجرَ امرؤ القيس وعاد إلى بلاده، وتوفي في الطريق جرَّاء إصابته بمرض الجدري نحو سنة 540 م. وقيلَ إنَّ الإمبراطور البيزنطيّ أمرَ ببناءِ تمثال للشاعر على ضريحه وبقي قائما حتى أيام المأمون، وقد شاهده عند مروره هناك لما دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة. ويورد السندوبي أنَّه رأى في معجم مطبوعات لسركيس أنَّ أحد أصدقائه ممن أقامَ زمنًا طويلا بأنقرة للتجارة أخبره أنه رأى بقية هذا التمثال لا تزال قائمة بأنقرة قربَ دار السراي (وهذه البقية عبارة عن الهامة فقط)، وكان ذلك سنة 1895 م.

ومما جاء في خبر موتِ امرئ القيس أنَّه هوي ابنة القيصر وشبب بها بشعره فأساء ذلك الإمبراطور، وقيل بسبب وشاية رجل من بني أسدٍ اسمه الطماح بن قيس كان قد وصل إلى القسطنطينية وأوغر صدور أصحاب القيصر على امرئ القيس، وبعث القيصر للشاعرِ بعد أن انفصل عنه بحُلَّة مسمومة ليلبسها في اليمن، فلبس الحلة في الطريق، بعد أن وصلته بيد الرسول في أنقرة، فأسرعَ السمُ في جسده فتساقطَ جلده وتفطَّر جسده وتناثر لحمه، ولذلك سُمي ذا القروح. بيد أنَّ السندوبي يرى بأنَّ هذه القصة غير صحيحة ومتهافتة لأسباب منها خبرُ بناء تمثال للشاعرِ بأمر القيصر، وأنَّ القيصر كان سيهدي الشاعرَ الحُلَّة وهو عنده وليس من داعٍ إلى أن ينتظرَ خروجه ويبعثُ بها إليه. ويقول الظاهرُ بأنَّ الطماح هو من أصيبُ بداء الجدري وأعدى امرئ القيس وفي ذلك يقول امرؤ القيس: 

لقد طمحَ الطمَّاح من بُعْدِ أرضه * ليُلبسني من دائه ما تلبَّسا 

فلو أنَّها نفسٌ تموتُ سويَّةً * ولكنها نفسٌ تُساقِطُ أنفسا 

ومما قاله في مرضه بأبياتٍ مُشجيةٍ تُصوِّر حاله وبؤس المرض: 

وما خلتُ تبريحَ الحياة كما أرى * تضيقُ ذِراعي أن أقومَ فألبسا 

فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً * ولكنَّها نفسُ تَساقطُ أنفُسا 

ولو أن نوما يُشترى لاشتريته * قليلا كتغميضِ القطا حيثُ عرَّسا 

وبدَّلتُ قرحًا داميا بعد صِحَّةٍ * فيا لك من نُعمى تحوّلنَ أبؤسا 

ويقول في وصفِ الجدري الذي أكلَ جسده: 

فإمَّا تريْني وبي عرَّةٌ * كأني نكيبٌ من النقرسِ 

وصيَّرني القَرْحُ في جُبَّةٍ * تُخَالُ لبيسًا ولم تُلبسِ 

ترى أثرَ القَرْحِ في جِلده * كنقش الخواتمِ في الجرجسِ

لم يكد يبلغُ امرؤ القيس محمولًا إلى أنقرة حتى توفي، وقال في احتضاره: 

رُبَّ طعنةٍ مُسحنفرة * وجَفْنةٍ مُثعنجِرهْ 

وخُطبةٍ مُحبَّرة * تبقى غدًا في أنقرهْ 

*

امتازَ امرؤ القيس، كما ينقل السندوبي، في أنه سبق جميع الشعراء في أشياء ابتدعها حازت الرضا العام والاستحسان التام، وجرى الشعراء من بعده على نهجه فيها. فهو أول من استوقفَ الصحب، وبكى على الأطلال، وله رقيق الغزل، ولطف النسيب [الشعر في النساء]، وتشبيه النساء بالظباء، وبيض الأنعام، وتشبيه الخيل بالعقبان، وبالعصي، وجعلها قيد الأوابد. 

*

ذكرُ خبر امرئ القيس وزوجه أم جندب، وحكمُ أم جندب لقصيدة علقمة الفحل على قصيدته. 

أبدأ بذكر ما رواه الأصمعي أنَّ امرأ القيس تزوج امرأة اسمها أم جندب، وبعد أول ليلة قامت فقالت أصبحت يا خير الفتيان فقم. ولما وجد الليل ما زال سألها عن سبب فعلتها فأجابت: لأنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة.

الشاهد أنها قد تكون أول شكوى مروية من عربيّة بسبب سرعة قذف زوجها. يبدو أن وصفها بالكامل يشير إلى عدم رضاها من افتراشه لها ابتداء من الوضع انتهاء بسرعة الإراقة وبطء استعادة النشاط، وجعلها تنام غير راضية لا بالأداء ولا النتيجة. 

ونزلَ ذات يومٍ علقمة بن عبدة على امرئ القيس وتناشدا الشعر، وجعلا أم جندب حكما بينهما. فأنشد امرؤ القيس قصيدته: 

خليليّ مرّا بي على أم جندب 

لِتُقضى لباناتُ الفؤاد المعذّب

وأنشد علقمة قصيدته:

ذهبتِ من الهجران في كل مذهب 

ولم يك حقا كل هذا التجّنب

فحكمت أم جندب لعلقمة لأن امرأ القيس حين وصف حصانه قال:

فللساق ألهوب وللسوط ذرةٌ 

وللزجر منه وقعُ أهوج مِنعبِ 

أما علقمة، وقصيدته مقاربة لقصيدة امرئ القيس موضوعا ووصفا وتشبيها، فقال واصفا فرسه:

فأدركهن ثانِيا من عنانه

يمر كمَرٍّ رائحٍ متحلّبِ

وعللت رأيها قائلة: إنَّ فرس علقمة أجود من فرسك لأنك زجرت وحركت ساقيك وضربت بسوطك، ولم يفعل هو بفرسه شيئا من ذلك. فغضب امرؤ القيس منها وطلقها، وتزوجها علقمة فلُقّب بعلقمة الفحل. ترد هذه الحكاية في النقد لدى العرب، لذا قد تكون أم جندب أول ناقدة عربية مروي عنها رأيٌ نقدي. لكن بالعودة إلى رأيها فإنها حكمت لقصيدة علقمة لفضل جواده لا قصيدته. وهنا قد يكون مرادها غير ما يُفهم أول وهلة لذا طلقها امرؤ القيس لأنه فهم مقصدها وتزوجها علقمة لأنه هو الآخر فهم مرادها، والله أعلمَ وأدرى بنيَّتها وما عَنتْ قوله وما فهماه من حُكمها.

– اعتمدتُ في كتابة هذه السيرة على ما أورده حسن السندوبي، محقق ديوان امرئ القيس. 

*

شعره 

اخترتُ أبياتًا من شعرِ امرئ القيس وقصائد لما فيها من جمال أدبي، أو تصوير شعريّ بليغ، أو حكمة رفيعة وبصيرة نافذة. واستعنت في توضيح بعض معاني الأبيات المختارة بشرحِ أسامة صلاح الدين منيمنه. 

الأبيات

– ودويَّةٍ لا يُهتدى لفلاتها * بعرفانِ أعلامٍ ولا ضوءِ كوكبِ 

تلافيتها والبومُ يدعو بها الصدى * وقد أُلبستْ أقراطُها ثِنيَ غَيهبِ

يقول مررتُ بأرضٍ فلاة مقفرة خالية من العلامات، ولا يُهتدى فيها بضوء كوكب ولا نجمٍ، فداخلُها لا محالةً تائه، ومصيره فيها مجهول، لكنَّه خرجَ منها سالمًا، ولا ينال إدراكُه منها سوى نعيق البومِ، وهو الصدى، في هذه الفلاة، التي انثنى عليها الليل حتى ألبسها من ظلمتِه الحالكة. 

– قال يصفُ حصانه وقد حوَّله إلى مخلوق أسطوري عجيب: 

له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ * وصَهوةَ عَيرٍ قائمِ فوقَ مرقب  

أيطل: خاصرة

عير: حمار وحشي. قائم فوق موضع مرتفع. 

ويقول في معلقته الشهيرة:

مِكرٍ مِفرٍ مُقبلٍ مُدبرٍ معا

كجلمود صخر حطه السيل من علِ

وقال يصف حصانه في الصيد: 

يظلُّ مُنحجرًا منها يراقبها * ويَرْقبُ الليلَ إنَّ الليل محجوبُ 

والخيرُ ما طلعتْ شمسٌ وما غرُبت * مُطَّلبٌ بنواصي الخيلِ معصوبُ  

الشاهدُ من اختياري هذين البيتين حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عروة بن الجَعدِ رضي الله عنه، في مدح الخيل إذ قال: “الخيلٌ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة: الأجرُ والمغنم”. فإن كان البيتُ منحولُ على امرئ القيس فقد أجادَ الناحلُ نحله عليه في قصيدته التي مطلعها: 

قد أشهدُ الغارةَ الشعواء تحملني * جرداء معروقة اللحيين سرحوبُ

وإن كان قد قالها استبصارًا منه في شرفِ الخيل فيكفيه شرفًا ورفعة أن وصفَ النبي صلى الله عليه والسلم بمثل وصفه. 

– وقد طوَّفتُ في الآفاقِ حتى * رضيتُ من الغنيمة بالإياب 

– كان امرؤ القيس يهوى امرأة فيمن هوى من النساء، فيقول في قصيدة واصفا رقتها العجيبة:

نشيمُ بروق المزن أين مصابه

ولا شيء يشفي منك يا ابنة عَفْزَرَا

من القاصرات الطرف لو دبَّ مِحولٌ

من الذر فوق الإتْب منها لأثّرا

أي لو مشى النمل الصغير على قميصها مفتوح الجانب لترك دبيبُه أثرا عليها.

– مما قاله امرؤ القيس في مرضه الأخير حين رأى امرأة تُدفنُ إلى سفح عسيب الذي مات عنده، وهي أبيات لا تخرجُ إلا من بصيرة نافذة وحكمة، وعين مُدركة لمآل الحياة والأيام، فهو يخاطبُ جارته الميْتة ويستزيرها بين حين وآخر فهما ميّتان وجاران ونسيبان بصلة الغُربة لا القربى، وفي ذات الوقت يلتمسُ لها العذرُ إن لم تزره فالقريبُ، وأحسبه يقصدُ نفسه، غريبٌ عنك وما من سبب وجيه لزيارته: 

أجارتنا إنَّ الخطوبَ تنوبُ * وإني مقيمٌ ما أقامَ عسيبُ 

أجارتنا إنا غريبان هاهنا * وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ  

فإن تصلينا فالقرابة بيننا * وإن تصرمينا فالقريبُ غريبُ 

أجارتنا ما فاتَ ليسَ يؤوبُ * وما هو آتٍ في الزمانِ قريبُ 

وليس غريبًا من تناءت دياره * ولكنَّ من وارى التُرابُ غريبُ

والبيت الأخيرُ بليغُ أخذه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، واستهلَّ به قصيدته: 

ليس الغريبُ غريبًا الشامِ واليمن * إنَّ الغريبَ غريبُ اللحد والكفنِ 

وفي البيت الثاني جعل علي بن الحسين حقَّ للميت على أهله ومعارفه بألا يقطعوه فقال: 

إنَّ الغريبَ له حقُّ لغربته * على المقيمين في الأوطان والسكن

–  ولو عن نَثَا غيرهِ جاءني * وجرحُ اللسان كجرح اليد 

لقلتُ من القولِ ما لا يزا * ل يُؤثرُ عني يدَ المُنسدِ 

النثا هو الخبر. يتحدث امرؤ القيس في الأبيات السابقة للبيتين المذكورين عن فداحة الخبر الذي بلغه حتى حرمه الرقاد، وما جُرحَ به من لسان أبي الأسود، قيل إنَّه هجا امرأ القيس، لا يفرق عن جرح اليد، وبذات الوقت هو لا يريد الردَّ عليه، فلو كان القولُ قولَ غيرَه لردَّ على مقالته ردًا تنقالته يدُ الدهر أبدًا. 

– يصفُ امرؤ القيس حاله وندمائه بعد أن لعب الخمرُ برؤوسهم: 

ونشربُ حتى نحسبُ الخيلَ حولنا * نقادًا وحتى نحسبُ الجَوْنَ أشقرا 

النقاد صغار الغنم، والجون الأسود. يقول نشربُ حتى الثمالة فما نعود نُميِّز بين البهائم ولا الألوان. 

– وكنتُ إذا ما خفتُ يومًا ظُلامةً * فإنَّ لها شِعبًا ببلطة زَيْمرا

نِيافا تزِلُّ الطيرُ عن قذفاته * يظلُّ الضبابُ فوقه قد تعصَّرا  

قال يصفُ نفسه إذا ما خشيَ ظُلامة، وهو ما يطلبه المظلوم من الظالم، التجأ إلى دارٍ في شِعب في جبلي طيء. وهذا الجبلان شاهقان حتى إنَّ الطيرَ تزلُّ في أعاليها، والضباب فوقهما دائما، فهو يسيلُ بين حين وآخر. 

– إذا ذُقتُ فاهًا قلتُ طعمُ مدامةٍ * مُعتَّقةٍ مما تجيء به التُّجُرُ 

لا يوجد ما يُقال هاهنا إلا اشتهاء ذيَّاكَ الثغر. 

ويقول عن الثغر أيضًا: 

ومُؤشرٍ عذبِ مذاقته * بردُ القِلال بذائبِ النحلِ 

وبردُ القِلال الماء البارد النازل من أعالي الجبال ممزوج بالشهد. 

ويقول عن الثغر: 

كأنَّ على أسنانها بعد هجعةٍ * سفرجلَ أو تفَّاحَ في القندِ والعسل 

والقند: عصير قصب السكَّر. 

ويقول أيضًا: 

كأنَّ المُدام وصوبَ الغمام * وريحُ الخُزامى وذَوبَ العسل

يُعلُّ به بردُ أنيابها * إذا النجم وسط السماء استقلْ

يُعل: يُسقى.

– مما يروى عن امرئ القيس أنَّه لقاه ذاتَ يومٍ عبيد بن الأبرص الأسدي، فقال له كيف معرفتُكَ بالأوابد؟ فأجابه امرؤ القيس ألقِ ما شئتَ تجدني كما أحببتَ. ثم بدأ عبيد يلقي بيتًا فيه لغزٌ ويجيبُه امرؤ القيس على ذات البحر والقافية. 

قال عبيد: 

ما حبَّةٌ ميْتَةٌ أحيتْ بميتَتِها * درداءُ ما أنبتت سِنًّا وأضراسا 

فقال امرؤ القيس: 

تلكَ الشَعيرةُ تُسقى في سنابلها * فأخرجتْ بعد طول المُكْثِ أكداسا 

الشاهد في اختياري هذين البيتين أنهما مشابهان لما ورد في أنجيل يوحنا على لسان يسوع: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ”. (يوحنا 12: 24)

– للبرقِ في قصائد امرئ القيس حضورٌ لافت، منها قوله: 

وتخرجُ منه لامعاتٌ كأنها * أكفٌ تلقَّى الفوزَ عندَ المُفِيضِ

يُشبِّه في هذا البيت البروق الخارجة من السُحب قربَ أعالي الجبال بالأكف الفائزة عند ضرب القدِاح، وهي قطع خشبية محززة، في الميسر. والمُفيض اسم فاعل من أفاض، أي ضرب القِداح، وهو صاحبُ المِيسر، أو الياسرُ اسم فاعل من يَسَر أي لعبَ الميسر. 

ومنه قوله في المعلَّقة: 

أصاحِ ترى برقًا أريك وميضَه * كلمعِ اليدين في حَبيّ مُكلَّلِ

يشبِّه البرقَ بتحريك يدين وسط السحاب المتراكم. 

– إذا المرءَ ذا الأذواد يصبحُ مُحْرَضًا * كإحراضِ بكرٍ في الديار مريضِ 

كأن الفتى لم يغنى في الناس ساعةً * إذا اختلف اللَّحْيان عند الجَرِيضِ 

يقول إنَّ المرء الغني، والأذوادُ الإبلُ، إذا بلغتْ ساعةُ هلاكه ما اختلفَ حاله عن الفتيّ المريض من الإبل. فكأنَّه ما عاشَ إلا ساعةً من الزمن في الناس إذا غصَّ فكَّاه عند الاحتضار. 

– كان غُلامي إذا علا حالَ متنه * على ظهر بازٍ في السماء مُحلِّقِ 

يصف غلامه إذا اعتلى متنى الجواد كان أشبه به طائرًا فوق ظهر البازي المحلِّق في السماء.

– ويا ربَّ يومٍ قد لهوتُ وليلةٍ * بآنسة كأنها خطُّ تمثالِ 

يُضيء الفراشَ وجهُها لضجعيها * كمصباحِ زيتٍ في قناديل ذُبَّالِ  

– فلو أنَّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ * كفاني ولم أطلبْ قليلٌ من المالِ 

ولكنَّما أسعى لمجدٍ موثَّلٍ * وقد يُدرِكُ المجدَ الموثَّل أمثالي 

وما المرءُ ما دامتْ حشاشةُ نفسه * بمُدركِ أطرافِ الخطوبِ ولا آلي

– سنَّ امرؤ القيس سنةً حسنة في الفراق فيها هدوء وسكينة: 

وإنْ تكُ قد ساءتكِ مني خليقةٌ 

‏فسُلّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ

وفي الوصل والحب يقول: 

‏إني بحبلكِ واصلٌ حَبْلي 

‏وبرِيش نَبلكِ رائش نبلي

سلُّ الثياب ‏وريشُ النبل كناية عن الفراق والوصل. إنك لعاشق حكيم يا امرأ القيس!

– يقول امرؤ القيس على لسان ابنة عمه فاطم: 

هل ترقينَّ إلى السماء بُسلَّمٍ * ولترجعنَّ إلى العزيز ذليلا 

وقد شابه قوله هذا قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الإسراء على لسانه الكافرين “أو يكون لك بيتٌ من زُخرفٍ أو ترقى في السماء”. 

– تمتَّع من الدنيا فإنَّك فانٍ * من النَّشواتِ والنساء الحسانِ 

من البيضِ كالآرامِ والأُدْمِ كالدمى * حواصنُها والمبرقاتُ روانِ 

تمتع من النساء البيضِ والسمرُ، الحواصنُ العفيفات، والمبرقاتِ بالحُلي، الرانيات بالأنظار إلى الرجال. 

القصائد المختارة لامرئ القيس 

– القصيدة الأولى، ومطلعها: 

جزعتُ ولم أجزع من البين مجزعا * وعزَّيتُ قلبًا بالكواعب مولعا 

هذه القصيدة واحدة من أجمل قصائد امرئ القيس، ويعرضُ فيها فلسفته في الحياة:

جَزَعتُ وَلَم أَجزَع مِنَ البَينِ مَجزَعا * وَعَزَّيتُ قَلباً بِالكَواعِبِ مولَعا

وَأَصبَحتُ وَدَّعتُ الصِبا غَيرَ أَنَّني *أُراقِبُ خُلّاتٍ مِنَ العَيشِ أَربَعا

ملَّ الحياة بعد عيشها وملذاتها، وعزّى قلبه المولع بالغيد الحسان، لكن ما زال يرى الحياة في أربعة فِعال: 

فَمِنهُنَّ قَولي لِلنَدامى تَرَفَّقوا * يُداجونَ نَشّاجاً مِنَ الخَمرِ مُترَعا

وَمِنهُنَّ رَكضُ الخَيلِ تَرجُمُ بِالقَنا * يُبادِرنَ سِرباً آمِناً أَن يُفَزَّعا

وَمِنهُنَّ نَصُّ العيسِ وَاللَيلُ شامِلٌ * تَيَمَّمُ مَجهولاً مِنَ الأَرضِ بَلقَعا

خَوارِجَ مِن بَرِّيَّةٍ نَحوَ قَريَةٍ * يُجَدِّدنَ وَصلاً أَو يُقَرِّبنَ مَطمَعا

وَمِنهُنَّ سَوْقي الخودِ قَد بَلَّها النَّدى * تُراقِبُ مَنظومَ التَمائِمِ مُرضَعا

تتجسد الحياة في حسو الخمر ومنادمة الرفاق عليها، وفي الطَردِ على صهوات الجياد، وفي ركوب الإبل في خرجةٍ لوصل حبيب أو غزو، وفي تشمم الخُوُد لا سيما تلك التي بللها الندى وهي تراقب رضيعها. ويكمل في فعله الأخير، وهو المفضل عنده، لاسترساله فيه: 

تَعِزُّ عَلَيها رَيبَتي وَيَسوؤُها* بُكاهُ فَتَثني الجيدَ أَن يَتَضَرَّعا

وهو مشابهة لقوله في المعلقة: 

إذا ما بكى من خلفها انْصَرَفَتْ لهُ * بشِقٍّ وَتحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ

ثم يكمل: 

بَعَثتُ إِلَيها وَالنُجومُ طَوالِعٌ *حِذاراً عَلَيها أَن تَقومَ فَتُسمَعا

فَجاءَت قُطوفَ المَشيِ هَيّابَةَ السُرى * يُدافِعُ رُكناها كَواعِبَ أَربَعا

يُزَجِّينَها مَشيَ النَزيفِ وَقَد جَرى * صُبابُ الكَرى في مُخِّها فَتَقَطَّعا

تَقولُ وَقَد جَرَّدتُها مِن ثِيابِها * كَما رُعتَ مَكحولَ المَدامِعِ أَتلَعا

وَجَدِّكَ لَو شَيءٌ أَتانا رَسولُهُ * سِواكَ وَلَكِن لَم نَجِد لَكَ مَدفَعا

فها هو ذا قد أرسل إليها رسوله لتأتي إليه في جنح الظلام على خوف ورهبة من أعين الراصدين، تمشي مشية بطيئة مستحسنة. ومن جانبيها أربع غيد يدفعنها في مشيها، وقد سرى النعاس في مخها، أتت إليها يغالبها النعاس أو بعد نوم لم تشبع منه. ثم تقول له بعد أن جردها من ثيابها ما قدمت إلا لأجلك أنت ولو كان الرسول من غيرك لرفضته.

فَبِتنا تَصُدُّ الوَحشُ عَنّا كَأَنَّنا * قَتيلانِ لَم يَعلَم لَنا الناسُ مَصرَعا

إِذا أَخَذَتها هِزَّةُ الرَوعِ أَمسَكَت * بِمَنكِبِ مِقدامٍ عَلى الهَولِ أَروَعا

تصدُّ عَنِ المَأثورِ بَيني وَبَينَها * وَتُدني عَلَيَّ السابِرِيَّ المُضَلَّعا

يبات العاشقان متضامين كأنهما قتيلان، حتى إن الوحش تمر بهما ولا تدري أنهما حيّان لسكرة اللذة التي لفتهما، كما لفهما ثوبها الرقيق ومعتنقة منكبه مع كل رعشة تُصيبها. 

– القصيدة الثانية، وهي معلقته الشهيرة، وأجود ما قيل في الشعر العربي، إنْ لم تكن أجود ما قيل على الإطلاق. ومطلعها: 

قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ * بسقطِ اللوَى بين الدَّخُول فحَومَلِ 

يُمكن دراسة المعلَّقة بتقسيمها إلى أقسام: 

1- الوقوف على الأطلال. ويبدأ من: 

قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ * بسقطِ اللوَى بين الدَّخُول فحَومَلِ 

2- دارة جُلجل. ويبدأ من:

أرُّبَّ يومٍ لكَ منهن صالحٍ * ولا سيما يومٌ بدارةِ جُلجُلِ

3- ابتهالات عاشق، ويبدأ من: 

أفاطمُ مهلا بعض هذا التدللِ * وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي

4- مغامرات عاشق، ويبدأ من: 

وبيضةُ خدرٍ لا يُرامُ خباؤها * تمتَّعتُ من لهو بها غير مُعجلِ 

5- الليل والرحلة في الوادي، ويبدأ من:

ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَهُ * عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الهُمُوْمِ لِيَبْتَلِي

وأبيات هذا القسم من أجود أبيات القصيدة، وعندي هي الأبهر، بعد البيت السابق: 

فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ * وأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ

ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِي * بِصُبْحٍ، وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَلِ

فَيَا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَهُ * بكل مُغار الفتل شُدّت بيذبل

كَأَنَّ الثُرَيّا عُلِّقَت في مَصامِها * بأمْراس كتان إلى صُمٍّ جَنْدلِ

6- وصف الفرس والطرد، ويبدأ من: 

وقد أغتدي والطيرُ في وُكُناتها * بمنجردٍ قيدَ الأوابدِ هيكلِ  

7- البرق والمطر في ظعنه، وهو القسم الأخير، ويبدأ من: 

أصاحِ ترى برقًا أريك وميضَه * كلمعِ اليدين في حَبيّ مُكلَّلِ 

وفيه بيتٌ يُدهشني، وهو الأخير في المعلقة، بتصويره المطر ونزوله وتأثيره في الأرض كما ينشر التاجر الثياب للمشترين:

وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَه * نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المحمل

– القصيدة الثالثة، ومطلعها: 

ألا عمَّ صباحا أيها الطلل البالي * وهل يَعِمَنْ من كان في العُصُر الخالي 

وفي هذه القصيدة قصة لامرئ القيس مع سلمى، وهي أكثر النساء المذكورات في شعره وزوجة رجلٍ آخر، فتصبحُ سلمى عشيقته، ويبدو مما يذكره امرؤ القيس أنَّ زوجها شكَّ بها لكنه ليس كفؤًا لشيء: 

فأصبحتُ معشوقًا وأصبحَ بعلها * عليه القتامُ سيِّئ الظنِ والبالِ 

يغُطُّ غطيطَ البكر شُدَّ خِناقه * ليقتلني والمرءُ ليس بقتَّالِ 

أيقتلني والمشرفيُّ مُضاجعي * ومسنونةٌ زرقٌ كأنيابِ أغوالِ 

وليس بذي رُمحٍ فيطعنني به * وليس بذي سيفٍ وليس بنبَّالِ 

ليقتلني أني شغفتُ فؤادها * كما شغفَ المهنوءة الرجل الطالي 

وقد علمت سلمى وإن كان بعلها * بأنَّ الفتى يهذي وليس بفعَّالِ 

– القصيدة الرابعة، ومطلعها 

حيِّ الحُمُولَ بجانبِ العَزْلِ * إذ لا يُلائمُ شكلُها شكلي 

في هذه القصيدةِ أبياتٌ رائعات منها: 

والله أنجحُ ما طلبتَ به * والبِرُّ خيرُ حقيبةِ الرحلِ 

ويقول: 

إني لأصرمُ من يُصارمني * وأُجِدُّ وصلَ من ابتغى وصلي

وأخِي إخاءٍ ذي مُحافظةٍ * سهلِ الخليقةِ ماجدُ الأصل 

ويقول: 

إني بحبلكِ واصلٌ حبلي * وبريش نبلكِ رائشٌ نبلي 

ما لم أجدك على هُدَى أثرٍ * يقرو مِقصَّكِ قائفٌ قبلي 

وشمائلي ما قد علمتِ وما * نبحتْ كلابُكِ طارقًا مِثلي 

سبق الحديث عن وصل حبله بحبلها وريش نبلها بنبلي كنايةً عن الحب والمودَّة وتواشج الأواصر، لكنه يضعُ شرطًا لذلك أنَّها تكون له خالصةً من دون الناس، وألا يجد يومًا في طريقها من يقفو أثرها، ثم يفتخرُ بصفاته حتى قال ما نبحت كلابُك على رجلٍ يأتيكِ في الليل مثلي. 

– القصيدة الخامسة، وفيها يذكر خبر ثأره من قتلة أبيه وتنكيله بهم، ومطلعها: 

قالتْ فطيمة حَلَّ شعرَكَ مدحُه * أفبعد كِندةَ تمدحنَّ قبيلا 

– القصيدة السادسة، وهي مما يُنسب إليه، وفيها حذلقات لا أحسبُ أنَّ امرأ القيس قالها، إنما هي مولَّدةٌ لا ريب ومنحولة عليه، ومطلعها: 

لمن طللٌ بين الجُديةِ والجَبَلْ * مَحَلٌّ قديمُ عليه طالت به الطِّيَلْ 

وفيها أبياتٌ بهيّة: 

تعلَّقَ قلبي طَفْلةً عربيَّةً * تنعَّمُ في الديباج والجَلي والحُللْ

لها مقلةٌ لو أنها نظرت بها * إلى راهبٍ قد صام لله وابتهلْ

لأصبحَ مفتونًا مُعنًّى بحبها * كأن لم يصم لله يوما ولم يُصَلْ

ألا ربَّ يومٍ قد لهوتُ بدَّلِّها * إذا ما أبوها ليلةً غابَ أو غَفَل 

فقالت لأتراب لها قد رميته * فكيف به إنْ مات أو كيف يُحتبل

أيخفى لنا إن كان في الليل دفنه * فقلن وهل يخفى الهلالُ إذا أفَل

والبيتُ الأخير أغار عليه عمرُ بن أبي ربيعة في قوله:

بينما ينعتنني أبصرنني * دون قيد الميل يعدو بي الأغر

قالت الكبرى: أتعرفن الفتى * قالت الوسطى: نعم، هذا عمر

قالت الصغرى، وقد تيمتها *قد عرفناه، وهل يخفى القمر 

نساءُ امرئ القيس

في السطور التالية أسماء النساء المذكورات في شعر امرئ القيس مع الأبيات، وهو ما وقفتُ عليه، ولا أدَّعي اليقين في إحصاء كل نسائه في شعره، لكن هذا مبلغُ جهدي وعلمي. 

1- أم جُنْدَب. وذكرها في: 

خليليَّ مُرَّا بي على أمِ جُندَب * لتُقضى لباناتُ الفؤادِ المُعذَّبِ 

2- سلمى أو سُليمى، وهي أكثر النساءُ الواردات في شعره، وفي الغالبِ هي امرأة واحدة أحبَّها امرؤ القيس أكثرَ من غيرها حتى أكثرَ من ذكرها، وبعض تفاصيل قصته معها في قصيدته ألا عمَّ صباحا أيها الطلل البالي، وذكرها في: 

قالت سُليمى أراكَ اليومَ مُكتئبا * والرأسُ بعدي رأيتُ الشيبَ قد عابه 

*

وقال:

سما بك شوقٌ بعد ما كان أقصرا * وحلَّتْ سُليمى بطنَ قوٍّ فعرعرا 

قو وعرعر: واديان بجزيرة العرب.  

وفي ذات القصيدة يقول: 

غَلِقنَ بِرَهنٍ من حبيب به ادَّعت * سُليمى فأمسى حبلها قد تبتَّرا  

غلق الرهن، وهو من عادة أهل الجاهلية إذا ترك أحدهم عند أحد رهن، وفات موعده ولم يستطع استخلاص رهنه فيصبح الرهن ملكًا لمن ارتُهن عنده. وقد ادَّعتْ به سليمى، أي قلبه، واستأثرت به ثم أمسى بعد ذلك حبل وصالها منقطعًا. 

*

وقال: 

أمِن ذِكرِ سلمى إذ نأتكَ تنوصُ * فتقصرُ عنها خَطوةً وتبوصُ 

أيَّ أنه متعثرُ الخطى غير واثقٍ من قراره بَعد بُعادها عنه، فتارة ينوص، أي يبتعد، ثم يبطئ الخطى، ثم يبوص أيّ يتعجّل. 

*

وقال: 

ديارٌ لسلمى عافياتٌ بذي الخال * ألحَّ عليها كلُّ أسحمَ هطَّالِ 

وتحسبُ سلمى لا تزالُ ترى طلًا * من الوحشِ أو بيضًا بميثاء مِحلالِ 

وتحسيُ سلمى لا تزال كعهدنا * بوادي الخُزامى أو على رأس أوعالِ 

ليالي سُليمى إذ تريكَ منصَّبًا * وجيدًا كجيدِ الرئمِ ليس بمعطالِ 

*

وقال: 

وقد علمت سلمى وإن كان بعلها * بأنَّ الفتى يهذي وليس بفعَّالِ 

*

وقال: 

فقلتُ لها يا دار سلمى وما الذي * تمتَّعتِ ولا بدَّلتِ يا دارُ بالبدلْ 

وذكرها في ذات القصيدة، أذكر الشطرَ الثاني من الأبيات لأن الشطرَ الأول هراء: 

… * دنا دارُ سلمى كنتُ أوَّل مَنْ وصلْ

… * وفي وجنتي سلمى أُقبِّلْ لم أملْ  

… * وسلْ دار سلمى والرُّبوع فكم أسلْ 

… * على حاجبيْ سلمى يزينُ مع المقلْ

3- الخنساء. وذكرها في:

قالت الخنساءُ لمَّا جئتها * شابَ بعدي رأسُ هذا واشتهبْ

4- أسماء. وذكرها في: 

أأسماءُ أمسى وُدُّها قد تغيَّرا * سَنُبْدَلُ إنْ أَبدلتَ بالودِّ آخرا 

5- ابنة عَفْزَرَا. وذكرها في: 

نشيمُ بروق المزن أين مصابه * ولا شيء يشفي منك يا ابنة عَفْزَرَا

6- ابنة العامريّ، وهي هر بنت سلامة بن علند. وذكرها في: 

فلا وأبيكِ ابنةَ العامري * لا يدَّعي القومُ أني أفِرْ 

ويقول: 

وفي مَن أقامَ من الحي هِرْ * أم الظاعنون بها في الشُّطُر

وهِرٌّ تصيدُ قلوبَ الرجال * وأفلتَ مِنها ابنُ عمرٍ وحُجُر

يقول الشارحُ عن البيت الثاني: وفي البيت نكتة لطيفة لمن يلتفت إلى ذكر الصيد والهر والإفلات، فكأنه فأرٌ أفلتَ من هر. 

*

ويقول: 

أغادي الصبوحَ عند هِرٍّ وفَرتنا * وليدًا وهل أفنى شبابي غيرُ هِرْ

7- سلامة وقذور. وذكرهما في: 

فجِزْعُ محيَّاةٍ كأن لم تُقمْ بها * سلامةُ حولا كاملا ولا قذورُ

8- ماويّة. وذكرها في: 

أماويَّ هل لي عندكم من مُعرَّسِ * أم الصرم تختارين بالوصلِ نيْأسِ 

*

ويقول: 

يا دار ماويَّة بالحائلِ * فالسهب فالخبتين من عاقلِ 

9- سُعاد، وذكرها في: 

لعمري لقد بانت بحاجةِ ذي الهوى * سُعادٌ وراعتْ بالفراقِ مُروَّعا 

وقد عَمَرَ الرَّوضاتِ حول مُخطَّط * إلى اللُّخِ مرأى من سعادَ ومسمعا

متى ترَ دارًا من سعادَ تقفْ بها * وتستجرِ عيناكَ الدموعَ فتدْمعا 

10- هند، وذكرها في: 

طرقتْكَ هِنْدٌ بعد طول تجنُّبِ * وهنًا ولمْ تكُ قبلَ ذلك تَطرُقِ

*

وقال: 

دارٌ لهندٍ والرَّبابَ وفرتنا * ولميسَ قبل حوادثِ الأيامِ 

*

وقال: 

ديارٌ لهندٍ والرَّبابِ وفَرْتَنَا * كخطِّ الزبور في العسيب اليماني 

11- أم مالك، وذكرها في: 

قفا فاسألا الأطلال عن أمِ مالكِ * وهل تُخبرُ الأطلال غيرَ التهالكِ 

12- أم الحويرث، وأم الرَّباب، وذكرهما في:

كدأبكَ من أمِّ الحُويرث قبلها * وجارتها أمِّ الربابِ بمأسل

*

وذكر الرباب في قوله: 

دارٌ لهندٍ والرَّبابَ وفرتنا * ولميسَ قبل حوادثِ الأيامِ 

وفي قوله: 

ديارٌ لهندٍ والرَّبابِ وفَرْتَنَا * كخطِّ الزبور في العسيب اليماني 

13- عُنيزة أو فاطم، وذكرها في: 

ويوم دخلتُ الخِدرَ خدرَ عُنيزةٍ * فقالت لك الويلات إنَّكَ مُرجلِ 

*

وقال: 

أفاطمُ مهلا بعض هذا التدللِ * وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي

*

وقال: 

قالتْ فطيمة حَلَّ شعرَكَ مدحُه * أفبعد كِندةَ تمدحنَّ قبيلا 

14- بسباسة، قد تكون سلمى نفسها، لأنها وردت بعد أربعة أبيات عن سلمى، وذكرها في: 

ألا زعمت بسباسة اليومَ أنني * كبرتُ وأنْ لا يُحسنُ السِّرَّ أمثالي 

15- ليلى، وذكرها في: 

تنكَّرت ليلى عن الوصلِ * ونأت ورثَّ معاقدُ الحبلِ 

*

وقال: 

من ذكرِ ليلى وأين ليلى * وخير ما رُمتَ ما يُنال 

16- فَرْتَنَا ولميس، ذكرهما في قوله: 

دارٌ لهندٍ والرَّبابَ وفرتنا * ولميسَ قبل حوادثِ الأيامِ 

وذكر فَرْتَنَا في قوله: 

ديارٌ لهندٍ والرَّبابِ وفَرْتَنَا * كخطِّ الزبور في العسيب اليماني 

وذكرها في قوله: 

أغادي الصبوحَ عند هِرٍّ وفَرتنا * وليدًا وهل أفنى شبابي غيرُ هِرْ

17- النبهانية، وذكرها في: 

أمن ذكر النبهانيّة حلَّ أهلُها * بجزعِ الملا عيناك تبتدرانِ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى