التراث الأدبيالتراث العربي

ديوان المتنبي

موجز حياة أبي الطيب المتنبي 

هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار الجُعفي الكندي الكوفي، وقيلَ أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجُعفي. ولد سنة ثلاثٍ وثلاثمئة 303 هـ وتوفي في رمضان سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمئة 354 هـ مقتولا مع غلامه وولده المُحسَّد في واسط على يد فاتكٍ ابن أبي جهل الأسدي بسبب قصيدته التي هجا فيها ضبَّة وأمه وأباه، وهي قصيدة قبيحة سخيفة. 

وجُعفي جد المتنبي، وهو جعفي بن سعد العشيرة من مَذحج من كهلان من قحطان، وكندة التي يُنسب إليها محلة في الكوفة، وليست كندة كما يظن بعضهم خطأ. ويقال إن والده كان يعرف بعِيدان السقَّاء، كان يسقي الماء لأهل محلته، وجدته لأمه فهي همدانيّة صحيحة النسب، من أشراف الكوفيات، وكان جيرانهم بالكوفة من أشراف العلويين. لم يذكر المتنبي في شعره نسبه أو قبيلته، ولا أشار إلى والدته أو جده وإنما ذكر جدته لأمه، ورثاها بعد وفاتها. غادرَ المتنبي الكوفة في أول شبابه، ولبث في الشام وأرجائها خمس عشرة سنة، ومدح أثناء ذلك اثنين وثلاثين رجلا بأربعٍ وأربعين قصيدة، ونظم خمس قصائد لنفسه ومطامحه ويفخر بها. اتصل بأبي العشائر بن حمدان ومهد له الوصول إلى سيف الدولة علي بن حمدان. صحبه ثماني سنوات، ونظم فيها اثني عشر وخمسمئة وألف بيت في ثمان وثلاثين قصيدة، وإحدى وثلاثين قطعة، منها أربع عشرة قصيدة في وصف وقائعه مع الروم، وأربع في وقائعه مع العرب، وخمس عشرة في المدح المجرد عن وصف الوقائع، وخمس في الرثاء، ومن القطع اثنتان في حوادث الروم، والباقي في مقاصد مختلفة. يضاف إلى كل هذا قصيدة: 

ذكر الصبا ومراتع الآرام * جلبت حِمامي قبل يوم حمامي 

ونظمها سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة في ثلاثة وثلاثين بيتا، وألحقها بمدائح سيف الدولة. وكانت أولى قصائده في سيف الدولة سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة وهي: 

وفاؤكما كالربع أشجاه طامسه * بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه 

وآخرها سنة خمس وأربعين وثلاثمئة، وهي: 

عُقبى اليمين على عقبى الوغى ندمُ * ماذا يزيدُكَ في إقدامك القَسَمُ  

غادرَ أبو الطيب بلاط سيف الدولة، وقدم مصرَ في جمادى الثانية سنة ست وأربعين وثلاثمئة، وأقام فيها أربع سنوات ونصف سنة حتى تركها في ذي الحجة سنة خمسين وثلاثمئة. مدح في هذه المدة كافورا بتسع قصائد وقطعتين، وفيها كلها سبعون وثلاثمئة بيت. وبعد هروبه من مصر ووصوله إلى الكوفة هجا كافورا وذكر طريقه في قصيدته: 

ألا كل ماشية الخَيزلى * فِدى كل ماشية الهيدبى 

واستغرقته رحلته من الفسطاط إلى الكوفة ثلاثة أشهر، وكان رجوعه إلى الكوفة بعد غيبة طويلة امتدت ثلاثين سنة. ولبث في الكوفة ثلاث سنين -تخللتها زيارة أو أكثر إلى بغداد- حتى غادرها إلى فارس سنة أربع وخمسين. 

قصد المتنبي بغداد، قبل أن يبرحها إلى فارس، سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة وفيها لقي الوزير المهلبي، ونزلَ بدار علي بن حمزة البصري اللغوي الذي روى ديوانه، وبقي ضيفه إلى أن رحل عنها. وكان ببغداد معز الدولة بن بويه والوزير المهلبي، وقد زار الوزير المهلبي وجلس معه لكنه لم يمدحه ولا مدح معز الدولة، وأغرى المهلبي الشعراء لهجاء أبي الطيب المتنبي ومنهم الشاعر ابن حجاج. 

قُرئ على المتنبي ديوانه في بغداد وسمعه جماعة منهم علي بن حمزة البصري، وابن جني، والقاضي أبو الحسن المحاملي. ارتحل بعدها المتنبي إلى فارس من الكوفة قاصدًا أبا الفضل ابن العميد، وكان وزير عضد الدولة. ويروى أنه كان ناقما عليه لأنه لم يمدحه وكان يريد أن يخمل ذكره، حتى إنه ليروى أن بعض أصحابه دخل عليه يوما ووجده واجما بعد وفاة أخته، وظن وفاتها السبب، فسأله الخبر، فقال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخملَ ذكره، وقد ورد عليَّ نيِّف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صُدِّر بقوله: 

طوى الجزيرة حتى جاءني خبرُ * فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ 

حتى إذا لم يدعْ لي صدقهُ أملا  * شرقتُ بالدمعِ حتى كاد يشرق بي

أنشد أبو الطيب في عضد الدولة ست قصائد وأرجوزة وقطعة. 

سار أبو الطيب من فارس إلى بغداد مارًا بواسط، واعترض طريقه فاتك ابن أبي جهل، خال ضبَّة، وقتله في التاريخ المرجح يوم الأربعاء الثامن والعشرون من رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمئة. كان المتنبي قد هجا ضبّة بن يزيد العيني سنة ثلاث وخمسين وثلاثمئة بقصيدة كانت السبب، في الراجح، بموته. ويروى أن ضبَّة كان مع الخارجي الذي نجم في الكوفة، وكان غدَّارًا يسفكُ الدماء ويغدر بكل من نزل به، وقد قتل بعض أهل العراق أباه وسبوا أمه وفعلوا بها. ومرَّ المتنبي ذات يومٍ مع أشراف الكوفة بالقرب من حصن تحصَّن فيه ضبَّة وبدأ بشتمهم شتمًا قبيحًا، وسألوا أبا الطيب أن يردَّ على شتائمه، فاستجاب لهم على كره منه بقصيدته: 

ما أنصفَ القومُ ضبَّه * وأمه الطُرطبَّه 

ويروي ابن جني في شرحه أن أبا الطيب أنكر إنشاد هذه القصيدة وقال الواحدي مثل ذلك. 

رثى المتنبي معاصروه مثل ابن جني بقصيدته: 

غاض القريض وأدوت نضرةُ الأدبِ * وصوَّحت بعد ري دوحةُ الكتبِ 

وأبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بأربع أبيات: 

لا رعى الله سرب هذا الزمان * إذ دهانا في مثل ذاك اللسان

ما رأى الناس ثاني المتنبي * أي ثان يرى لبكر الزمان؟

كان من نفسه الكبيرة في جيش * وفي كبرياء ذي سلطان

كان في لفظه نبياً، ولكن *ظهرت معجزاته في المعاني

وشرح ديوان المتنبي خلق كثير منهم: ابن جني، والواحدي، وابن فورجه، وابن القطاع الصقلي، وابن الإفليلي، والصاحب بن عباد، وأبو بكر الخوارزمي، وأبو العلاء المعري، والعميدي صاحب الإبانة عن سرقات المتنبي، وابن وكيع، والخطيب التبريزي، والعُكْبَري، وابن الشجري، والقاضي الجرجاني. 

عاش المتنبي الشطر الثاني من حياته مرفهًا، ذائع الصيت، يبتغي الأمراء والوزراء قربه ومديحه بالعطايا والخلع، وهو كان ساعيا لذاك أيضا، ويتهيّبون من عداوته وهجائه، ليقينهم بخلود قوله. وهذه فضيلة لا تتأتى لامرئ، فكأنه كان نبيًا بشعره، دائمٌ ما دامت السماوات والأرض.

*

يقول ابن الاثير “ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقساما خمسة: خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يُعبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها، فإنها ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضه غرضًا لسهام الأقوام”. 

*

أغلبُ السطور السابقة مقتبسة من سيرة المتنبي في تقديم شرح ديوانه لعبد الرحمن البرقوقي، وهو بدوره أخذها من كتاب عبد الوهاب عزَّام عن المتنبي “ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام”. 

*

شعره

اقتبستُ في الآتي أبياتا من شعر المتنبي وجدت فيها الجمال والعذوبة أو البلاغة والشعرية الفاتنة أو الوصف البديع والجزل أو الحكمة والمَثَل أو الفخر وعزَّة النفس والإباء أو الهجاء المر. وأردفتها بستَّ عشرة قصيدة هي من بديع شعره الذي أخذ بتلابيبي. 

 

لا تعذل المشتاق في أشواقه * حتى يكون حشاك في أحشائه 

إن القتيل مضرجًا بدموعه * مثل القتيل مضرجًا بدمائه 

*

وفؤادي من الملوك وإن كا * ن لساني يُرى من الشعراء 

*

لقد كنت أحسب قبل الخصي* ي أن الرؤوس مقر النهى 

فلما نظرت إلى عقله * رأيت النهى في الخصى 

*

فرُبَّ كئيبٍ ليس تندى جفونه * ورُبَّ كثير الدمع غيرُ كئيب 

*

وفتَّانة العينين قتّالة الهوى * إذا نفحتْ شيخًا روائحُها شبَّا 

*

مضى بعدما التفَّ الرمحان ساعةً * كما يتلقى الهدبُ في الرقدةِ الهُدبا

*

وإنْ تكنْ خُلِقتْ أنثى لقد خُلقت * كريمة غيرَ أنثى العقل والحسب 

وإن تكن تغلبُ الغلباء عنصُرَها * فإن في الخمر معنى ليس في العنب

*

وبسمْنَ عن بَرَدٍ خشيتُ أذيبه * من حرِّ أنفاسي فكنتُ الذائبا

*

قسا فالأُسْدُ تفزعُ من قواه * ورقَّ فنحن نفزعُ أن يذوبا 

ما أوجه الحضر المستحسنات به * ‏كأوجه البدويات الرعابيب 

‏حسن الحضارة مجلوب بتطرية * ‏وفي البداوة حسن غير مجلوب 

*

‏أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها * ‏مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

‏ولا برزن من الحمّام ماثلةً * ‏أوراكهن صقيلات العراقيب

*

وتعذلني فيك القوافي وهمَّتي * كأني بمدحٍ قبلَ مدحك مُذنبُ

ولكنه طال الطريق ولم أزل * أفتش عن هذا الكلامِ ويُنهبُ  

*

أعزُ مكان في الدنى سرجُ سابح * وخير جليس في الزمان كتابُ

*

حقُّ الكواكبِ أن تزوركَ من علٍ * وتعودكَ الآسادُ من غاباتها 

والجن من سُتراتها والوحشُ من * فلواتها والطيرُ من وكناتها 

*

سقاني الله قبل الموت يوما * دمَ الأعداء من جوفِ الجروح 

(في نشيد النبيلونغ عندما اشتد العطش بالمحاربين شربوا دماء القتلى “’إنَّ الحِرَّة والحرارة تجعلُ الدماءَ أشهى من الخمر‘… ونزلَ محارب على جرحٍ وبدأ بحسوِ الدمِ وهو يثعُّ من الجرح”. وإن كان قصد المتنبي قتلهم لا شرب دمائهم).

*

مررتُ على دار الحبيب فحمحمت * جوادي وهل تشجو الجيادُ المعاهدُ 

*

بذا قضتِ الأيام ما بين أهلها * مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ

*

فإنَّ قليلَ الحبِّ بالعقل صالحٌ* وإن كثيرَ الحبِّ بالجهل فاسدُ

إذا أنتَ أكرمتَ الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا 

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضرٌ كوضعِ السيف في موضع الندى 

*

ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني * أنا الصائح المحكي والآخر الصدى

*

عش عزيزًا أو مت وأنت كريمٌ * بين طعن القنا وخفق البنودِ 

فرؤوس الرماح أذهبُ للغيـ * ـظ وأشفى لغلِّ صدر حسودِ 

*

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي * وبنفسي فخرتُ لا بجدودي

*

عدويّة بدويّة من دونها * سلبُ النفوس ونارُ حرب توقدُ 

وهواجلٌ وصواهلٌ ومناصلٌ * وذوابلٌ وتوعُّدٌ وتهدُّدُ 

 

ما أليق هذين البيتين بهيلين طروادة مع استبدال ‏عَدَوِيّة بدوية بـ هَلَسِيّةٌ حضريّة.

*

وكم للهوى من فتى مدنف * وكم للنوى من قتيل شهيدِ

‏فواحسرتاه ما أمرَّ الفراق * ‏وأعلق نيرانه بالكبودِ

*

لمّا وزنتُ بك الدنيا فملتَ بها * وبالوَرَى قلَّ عندي كثرةُ العددِ 

*

قومٌ إذا أمطرتْ موتًا سيوفُهم * حسبتها سحبًا جادت على بلدِ 

لم أُجرِ غايةَ فكري منكَ في صفة * إلا وجدتُ مداها غايةَ الأبدِ 

*

وما ماضي الشباب بمُسترّدٍ * ولا يومٍ يمرُ بمستعادِ 

*

لَقَوْكَ بأكبد الإبل الأبايا * فسقتهم وحدُّ السيفِ حادِ 

وقد مزَّقتَ ثوبَ الغي عنهم * وقد ألبستهم ثوبَ الرشادِ

فما تركوا الإمارة لاختيارٍ * ولا انتحلوا ودادكَ من وِدادِ

ولا استفلوا لزهدٍ في التعالي * ولا انقادوا سرورًا بانقياد 

ولكن هبَّ خوفُكَ في حشاهم * هبوب الريح في رِجلِ الجراد

وماتوا قبل موتهم فلمَّا * مننتَ أعدتهم قبل المعادِ 

غمدتَ صوارمًا لو لم يتوبوا * محوتهم بها محو المِداد 

*

أذمُ إلى هذا الزمان أهيلَه * فأعلمهم فَدْمٌ وأحزمهم وغدُ

وأكرمهم كلبٌ وأبصرهم عَمٍ * وأسهدُهم فَهدٌ وأشجعهم قردُ 

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى * عدوا له من صداقته بُدُّ  

*

إذا غدرتْ حسناءُ وفَّتْ بعهدها * فمن عهدها أن لا يدومَ لها عهدُ

وإن عشقتْ كانت أشدَّ صبابةً * وإن فركتْ فاذهبْ فما فركها قصدُ

وإن حقدتْ لم يبقَ في قلبها رضا * وإن رضيتْ لم يبقَ في قلبها حقدُ

كذلك أخلاق النساء وربَّما * يضل بها الهادي ويخفى بها الرُّشدُ 

*

أمن كل شيء بلغتَ المرادا * وفي كلِّ شأوٍ شأوتَ العبادا؟

فماذا تركتَ لمن لم يَسُدْ * وماذا تركتَ لمن كان سادا؟ 

كأن السُّمانى إذا ما رأتك * تَصيَّدُها تشتهي أن تُصادا

*

فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ ماله * ولا مال في الدنيا لمن قلَّ مجده 

*

العبدُ ليس لحرٍ صالحٍ بأخٍ * لو أنه في ثيابِ الحرِ مولودُ

لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معه * إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ

*

وذاكَ أنَّ الفحول البيضَ عاجزةٌ * عن الجميل فكيف الخِصيةُ السودُ

*

فلو خُلقَ الناسُ من دهرهم * لكانوا الظلامَ وكنتَ النهارا 

*

تكسَّبُ الشمسُ منكَ النورُ طالعةً * كما تكسَّبَ منها نوره القمرُ 

*

حلوٍ خلائقُهُ شوسٍ حقائقُه * تُحصى الحصى قبل أن تُحصى مآثرُه  

*

لا يجبرُ الناسُ عظمًا أنتَ كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابرُه 

*

تناهى سكون الحُسنِ في حركاتها * فليسَ لراءٍ وجهها لم يمتُ عذرُ 

*

‏وكأنما عيسى ابن مريم ذِكرُه * ‏وكأن عازرَ شخصه المقبورُ 

*

وقنعتُ باللقيا وأوَّلِ نظرةٍ * إن القليلَ من الحبيب كثيرُ 

*

فيا ابن كَرَوَّسٍ يا نصفَ أعمى * وإن تفخرْ فيا نصفَ البصير

تُعادينا لأنّا غيرُ لُكْنٍ * وتُبغضُنا لأنَّا غيرُ عُورِ

*

يُديرُ بأطرافِ الرماح عليهم * كؤوس المنايا حيثُ لا تُشتهى الخمرُ 

*

لساني وعيني والفؤادُ وهمَّتي * أودُّ اللواتي ذا اسمها منكَ والشطرُ 

وما أنا وحدي قلتُ ذا الشعرَ كلَّه * ولكنَّ لشعري فيكَ من نفسه شِعرُ 

*

وإني وإن نلتُ السماء لعالمٌ * بأنكَ ما نلتَ الذي يُوجبُ القَدْرُ

أزالتْ بكَ الأيامُ عتبي كأنما * بنوها لها ذَنْبٌ وأنت لها عُذْرُ

*

قطفَ الرجالُ القولَ وقتَ نباته * وقطفتَ أنت القول لمَّا نوَّرا 

*

كلُّ شعرٍ نظيرُ قائله فيـ * ـك وعقلُ المُجيزِ عقلُ المجازِ 

*

خريدةٌ لو رأتها الشمسُ ما طلعت * ولو رآها قضيبُ البان لم يَمِسِ 

ما ضاق قبلكِ خلخالٌ على رشأٍ * ولا سمعتُ بديباجٍ على كَنَسِ 

*

إنَّ السلاحَ جميعُ الناسِ تحمله * وليس كلُّ ذواتِ المِخلبِ السَّبُعُ 

*

تذللْ لها واخضعْ على القربِ والنوى * فما عاشقٌ من لا يذلُّ ويخضعُ

*

سفرتْ وبَرقَعَها الفراقُ بصُفرةٍ * سترت محاجرها ولم تكُ بُرقعا 

فكأنها والدمعُ يقطرُ فوقها * ذهبٌ بسِمْطَي لؤلؤٍ قد رُصِّعا 

كشفتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شَعرها * في ليلةٍ فأَرَتْ لياليَ أربعا 

واستقبلتْ قمرَ السماء بوجهها * فأرتني القمرينِ وقتٍ معا 

*

إني لأجبنُ من فراقِ أحبَّتي * وتُحسُّ نفسي بالحِمامِ فأشجعُ

ويزيدني غضبُ الأعادي قسوةً * ويُلِمُّ بي عتبُ الصديقِ فأجزعُ   

*

ضنًى في الهوى كالسمِّ في الشهدِ كامنا * لذذتُ به جهلا وفي اللذة الحتفُ

*

وإطراقُ طرفِ العين ليس بنافعٍ * إذا كان طرفُ القلبِ ليس بمطرقِ 

فيا أيها المطلوبُ جاوره تمتنع * ويا أيها المحروم يممه تُرزقِ 

ويا أجبنَ الفرسانِ صاحبه تجترئ * ويا أشجع الشجعان فارقهُ تَفْرَقِ

*

وما الحسنُ في وجه الفتى شرفًا له * إذا لم يكن في فعله والخلائقِ 

وما بلدُ الإنسان غيرُ الموافقِ * ولا أهله الأدنون غيرُ الأصادقِ 

*

وعذلتُ أهلَ العشقِ حتى ذُقتُه * فعجبتُ كيف يموت من لا يعشقُ 

وعذرتهم وعرفتُ ذنبي أنني * عيّرتهم فليقتُ فيه ما لقوا 

*

ولقد بكيتُ على الشبابِ ولِمَّتي * مُسوَّدةٌ ولماء وجهي رونقُ 

حذرًا عليه قبل يومَ فراقه * حتى لكدتُ بماء جفني أشرَقُ 

*

كذبَ ابنُ فاعلةٍ يقول بجهله * ماتَ الكرامُ وأنتَ حيٌّ تُرزقُ 

*

أيَّ محلٍّ أرتقي؟ * أيَّ عظيم أتقي؟

وكل ما قد خلقَ اللهُ * وما لم يخلقِ 

محتقرٌ في همَّتي * كشعرةٍ في مَفرقي 

*

تخلَّى من الدنيا لينسى فما خلت * مغاربُها من ذكره والمشارقُ 

*

خفِ الله واسترْ ذا الجمالِ ببرقعٍ * فإنْ لُحْتَ ذابتْ في الخدورِ العواتقُ 

فما ترزُقُ الأقدارُ مَن أنت حارم * ولا تحرمُ الأقدارُ من أنت رازقُ 

ولا تفتقُ الأيامُ ما أنتَ راتقٌ * ولا ترتقُ الأيامُ ما أنتَ فاتقُ 

*

تستغرقُ الكفُّ فودَيه ومنكبَه * وتكتسي منه ريحُ الجوربِ العرقِ 

فسائلوا قاتليه كيف مات لهم * موتًا من الضربِ أو موتًا من الفرقِ 

*

قلَّ نفعُ الحديد فيكَ فما يلـ * ـقاكَ إلا من سيفه من نفاق 

*

‏وَخَصرٌ تَثبُتُ الأَبصارُ فيهِ * ‏كَأَنَّ عَلَيهِ مِن حَدَقٍ نِطاقا

*

إذا اعتادَ الفتى خوضَ المنايا * فأهونُ ما يمرُّ به الوحولُ

*

وما التأنيثُ لاسم الشمس عيبٌ * ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ 

*

فإن تفق الأنامَ وأنت منهم * فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ 

*

وإني لأعشقُ من عشقكم * نحولي وكلَّ امرئ ناحلِ 

*

يردُّ أبو الشبلَ الخميس عن ابنه * ويسلمه عند الولادةِ للنمل 

*

الجيشُ جيشُك غيرَ أنكَ جيشه * في قلبه ويمينه وشمالهِ 

تردُ الطَعانَ المرَّ عن فرسانه * وتنازلُ الأبطالَ عن أبطالهِ 

كلٌّ يريدُ رجالَهُ لحياته * يا من يُريد حياته لرجالهِ 

*

أرى كلَّ ذي مُلكٍ إليكَ مصيرُه * كأنكَ بحرٌ والملوكُ جداولُ

*

آلةُ العيشِ صحَّةٌ وشبابٌ * فإذا ولَّيا عن المرء ولَّى 

*

وهي معشوقةٌ على الغدر لا تحـ * ـفظُ عهدًا ولا تتمُ وصلا 

كلُّ دمعٍ يسيلُ منها عليها * وبفكِّ اليدين عنها تُخلَّى 

شيمُ الغانياتِ فيها فلا أد * ري لذا أنَّث اسمها الناسُ أم لا؟ 

*

وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ * طلبَ الطعنَ وحده والنزالا 

*

إذا قيلَ رفقًا قال للحلمِ موضعٌ * وحلمُ الفتى في غير موضعه جهلُ

*

ومن يكُ ذا فمٍ مرٍ مريضٍ * يجد مُرًّا به الماءَ الزلالا 

*

فما تقفُ السهامُ على قرارٍ * كأنَّ الريشَ يطلبُ النصالا 

*

متى أحصيتُ فضلك في كلامٍ * فقد أحصيتُ حبَّاتِ الرمالِ 

*

أُشفقُ، عند اتقاد فِكرته، * ‏عليه منها، أخاف يشتعلُ

*

لك يا منازلُ في القلوب منازلُ * أقفرتِ أنتِ وهنَّ منكِ أواهلُ 

*

إذا أتتك مذمَّتي من ناقصٍ * فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ 

*

وليسَ جميلا عِرضُه فيصونه * وليس جميلا أن يكون جميلا 

ويكذبُ ما أذللته بهجائه * لقد كان من قبل الهجاء ذليلا 

*

لا خيل عندك تهديها ولا مالُ * فليسعدِ النطقَ إن لم تسعد الحالُ 

*

وما شكرتُ لأن المال فرَّحني * سيَّانَ عندي إكثارٌ وإقلالُ 

لكن رأيتُ قبيحًا أن يُجاد لنا * وأننا بقضاء الحقِّ بُخَّالُ 

*

إنّا لفي زمن تركُ القبيحِ فيه * من أكثرِ الناسِ إحسانٌ وإجمالُ 

*

تريدين لُقيانَ المعالي رخيصةً * ولا بدَّ دونَ الشهدِ من إبرِ النحل 

*

وما أنا ممن يدَّعي الشوقُ قلبُه * ويحتجُ في تركِ الزيارةِ بالشُغلِ 

*

شجاعٌ كأن الحربَ عاشقةٌ له * إذا زارها فدته بالخيلِ والرَّجْلِ 

*

فلا قطعَ الرحمنُ أصلا أتى به * فإني رأيتُ الطيِّبَ الطيِّبَ الأصلِ

*

فكثيرٌ من الشجاعِ التوقِّي * وكثيرٌ من البليغِ السلامُ 

*

فأحسنُ وجهٍ في الورى وجه محسن * وأيمن كفٍ فيهم كفُّ منعمِ 

وأشرفُهم من كان أشرفَ همَّةً * وأكبرَ إقدامًا على كلِّ مُعظَمِ 

‏لمن تطلب الحياة إذا لم ترد بها * ‏سرور محب أو إساءة مجرمِ

*

إذا نحن سمَّيناكَ خلنا سيوفنا * من التيه في أغمادها تتبسَّمُ 

*

يا أعدلَ الناسِ إلا في معاملتي * فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ 

*

وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره * إذا استوت عنده الأنوارُ والظلمُ 

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعتْ كلماتي من به صممُ 

*

إذا نظرتَ نيوبَ الليثِ بارزةً * فلا تظننَّ أنَّ الليثَ مبتسمُ 

*

يا من يعزُّ علينا أن نفارقهم * وجداننا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ 

*

كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم * ويكره الله ما تأتون والكرمُ 

*

شرُّ البلاد مكانٌ لا صديقَ به * وشرُّ ما يكسبُ الإنسانُ ما يصمُ 

*

وما أنا مِنْهُمُ بالعَيشِ فيهم * ‏ولكنْ مَعدِنُ الذّهَبِ الرَّغامُ

*

على قدرِ أهل العزمِ تأتي العزائمُ * وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ 

وتعظمُ في عين الصغير صغارُها * وتصغرُ في عين العظيمِ العظائمُ 

*

تجاوزتَ مقدارَ الشجاعةِ والنُّهى * إلى قولِ قومٍ أنتَ بالغيبِ عالمُ 

*

ليتَ الذي خلقَ النوى جعلَ الحصى * لخفافهنَّ مفاصلي وعظامي 

*

لا تطلبنَّ كريما بعد رؤيته * إنَّ الكرامَ بأسخاهم يدا خُتموا 

ولا تبالِ بشعرٍ بعد شاعره * قد أُفسدَ القولُ حتى أُحمِدَ الصممُ 

*

إذكارُ مثلِك تركُ إذكاري له * إذ لا تريدُ لما أريدُ مترجما 

*

قبَّلتها ودموعي مزجُ أدمعها * وقبَّلتني على خوفٍ فمًا لفمِ 

فذقتُ ماء حياةٍ من مُقَبَّلها * لو صابَ تُربًا لأحيا سالفَ الأمم 

*

وإنما الناسُ بالملوكِ وما * تفلحُ عربٌ ملوكها عجمُ    

*

هم لأموالهم ولسنَ لهمْ * والعار يبقى والجرحُ يلتئمُ 

*

من يهن يسهلُ الهوان عليه * ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ 

*

حيِيُّون إلا أنهم في نزالهم * أقلُّ حياءً من شِفارِ الصوارمِ 

ولولا احتقارُ الأُسدِ شبَّتهتُها بهم * ولكنها معدودةً في البهائمِ 

*

إذا غامرتَ في شرفٍ مَروم * فلا تقنع بما دون النجومِ 

فطعمُ الموتِ في أمرٍ صغير * كطعم الموتِ في أمرٍ عظيمِ 

*

وكم من عائبٍ قولا صحيحا * وآفته من الفهمِ السقيمِ

*

ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقله * وأخو الجهالة في الشَّقاوةِ ينعمُ

*

لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى * حتى يُراقَ على جوانبه الدمُ 

*

الظلمُ من شيمِ النفوس فإن تجد * ذا عفةٍ فلعلَّةٍ لا يظلمُ 

*

ومن البليّة عذلُ من لا يرعوي * عن غيّه وخِطابُ من لا يفهمُ

*

أرى الأجداد تغلبها كثيرًا * على الأولادِ أخلاقُ اللئامِ 

*

ولم أرَ في عيوبِ الناسِ شيئًا * كنقصِ القادرين على التمامِ 

*

تمتَّع من سهادٍ أو رُقادٍ * ولا تأمل كرى تحت الرِّجامِ 

فإنَّ لثالثِ الحالين معنى * سوى معنى انتباهكَ والمنامِ 

*

أغايةُ الدين أن تحفوا شواربكم * يا أمةً ضحكت من جهلها الأممُ 

(هذا البيت في هجاء كافور وخاصته في مصر)

*

حصلتُ بأرضِ مصرَ على عبيدٍ * كأن الحرَّ بينهمُ يتيمُ

*

الرأي قبل شجاعةِ الشجعان * هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني 

فإذا هُما اجتمعا لنفسٍ مرةً * بلغت من العلياء كلَّ مكانِ 

ولربما طعنَ الفتى أقرانَه * بالرأي قبل تطاعنِ الأقرانِ

لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ * أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ 

ولما تفاضلتِ النفوسُ ودَبَّرتْ * أيدي الكُماةِ عواليَ المُرَّانِ 

*

وإنه المشيرَ عليكَ فيَّ بضَلَّةٍ * فالحرُّ ممتحنٌ بأولادِ الزنا

*

ومكايد السفهاء واقعةٌ بهم * وعداوة الشعراء بئس المقتنى

*

أفاضلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزمن * يخلو من الهمِ أخلاهم من الفِطن 

*

وكلمةٍ في طريقٍ خفتُ أُعْربُها * فيُهتدى لي فلمْ أقدرْ على اللحنِ

*

قد شرَّف الله أرضًا أنت ساكنها * وشرَّفَ الناسَ إذ سواكَ إنسانا 

*

بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنُ * ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سَكَنُ؟

*

لا تلقَ دهرَك إلا غيرَ مكترثٍ * ما دامَ يصحبُ فيه روحَكَ البدنُ

*

تفنى عيونهم دمعا وأنفسُهم * في إثرِ كلِّ قبيحٍ وجهه حَسَنُ 

*

ما كل ما يتمنى المرءُ يدركهه * تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ

*

وإذا لم يكن من الموتِ بدٌّ * فمن العجزِ أن تكون جبانا 

*

أبوكم آدمٌ سنَّ المعاصي * وعلَّمكم مفارقةَ الجِنانِ

*

قصائد مختارة رأيتُ فيها جلالًا وبلاغة وأصالة: 

1- قصيدته في مدح علي بن منصور الحاجب، ومطلعها: 

بأبي الشموسُ الجناحاتُ غواربا * اللابساتُ من الحرير جلاببا  

2- قصيدته في مدح كافور، ومطلعها: 

أغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلبُ 

وأعجبُ من ذا الهجرِ والوصلُ أعجبُ 

3- قصيدته في مدح شجاع بن محمد الطائي المنبجي، ومطلعها: 

اليومَ عهدُكم فأين الموعدُ؟ * هيهاتَ ليس ليومِ عهدكمُ غدُ 

4- قصيدته في محبسه، ومطلعها: 

أيا خدَّدَ اللهُ وردَ الخدودِ * وقدَّ قدودَ الحِسانِ القُدودِ

5- قصيدته في مدح بدر بن عمار الأسدي الطبرستاني، ومطلعها: 

أحلما نرى أم زمانا جديدا * أم الخلقُ في شخصٍ حي أُعيدا 

6- قصيدته في هجاء كافور، ومطلعها: 

عيدٌ بأيَّة حالٍ عدتَ يا عيدُ * بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ

7- قصيدته في مدح محمد بن زريق الطرسوسي، ومطلعها: 

هذي برزتِ لنا فهجتِ رسيسا * ممَّ انثنيتِ وما شفيتِ نسيسا

8- قصيدته في مدح سيف الدولة، ومطلعها: 

لعينيكِ ما يلقى الفؤاد وما لقي * وللحبِ ما لم يبقَ مني وما بقي 

9- قصيدته في رثاء والدة سيف الدولة، ومطلعها: 

نعدُّ المشرفيّة والعوالي * وتقلتنا المنون بلا قتال 

10- قصيدته في وصفِ حالِ أبي شجاع حين خرج للطَّرَد متقدِّما جيشه. (تتشابه مقاطع الطرد في الفصل الثالث من قصيدة السيد غوين والفارس الأخضر مع قصيدة المتنبي، ‏ويمكن تقديم دراسة مقارنة ما بين أبي شجاع وسيد القلعة في الطرد). ومطلعها:

‏ما أجدر الأيام والليالي * بأن تقول ما له وما لي 

11- قصيدته في مدح سيف الدولة، ومطلعها: 

وفاؤكما كالربيعِ أشجاه طاسمه * بأن تُسعدا والدمعُ أشفاه ساجمه 

12- قصيدته في عتاب سيف الدولة، ومطلعها: 

واحرَّ قلباه ممن قلبُه شبمُ * ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ 

13- قصيدته في هجاء إسحاق بن إبراهيم الأعور بن كيغلغ، ومطلعها: 

لهوى النفوس سريرةٌ لا تُعلمُ * عَرَضًا نظرتُ وخِلتُ أنِّي أسلمُ

14- قصيدته حين بلغه أن قومًا نعوه في مجلس سيف الدولة، ومطلعها: 

بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنُ * ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سَكَنُ؟

15- قصيدته في مدح عضد الدولة وولديه، ومطلعها: 

مغاني الشِّعبِ طيبا في المغاني * بمنزلةِ الربيعِ من الزمانِ 

16- قصيدته في مدح كافور بعد مغادرة سيف الدولة، ومطعلها: 

كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيا * وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى