ما بين الإلياذة والمهابهاراتا
تلتقي المهابهاراتا مع الإلياذة في نقاط وتختلف في أخرى. فتبدو نقاط الالتقاء أنها محاكاة أو تناص وتبدو نقاط الاختلاف أنَّ كل ملحمة تمثل بيئة خاصة بها بكل ما تحتويه هذه البيئة من أبعاد فكرية وثقافية واجتماعية ودينية وسياسية، لكن هذا لا يمنع أن يكون ثمة نوع من الاتصال ما بين الشعوب القديمة جعل التأثر والتأثير احتمالية واردة لا يمكن الإعراض عنها بالكلية، لا سيما وأن التشابه يبدو إلى حدٍ ما متطابق.
من النقاط التشابه والالتقاء ما بين الملحمتين:
غضبة آخيل وأرجونا
تشكل الغِضبة في الإلياذة مِفصلًا في تتابع أحداث الملحمة إذ كان مقتل باتروكلوس ثم غضبة آخيل، بطل حرب طروادة، عاملًا حاسمًا في قتل أمير طروادة هيكتور ثم انتهاء الحصار الإغريقي على مدينة طروادة بعد اقتحامها بحيلة الحصان الذهبي لأوديسيوس. ترد الغِضبة في المهابهارتا متمثلة في أرجونا على مقتل ابنه، فبعد أن يقتل أبهيمانيو ابنُ أرجونا ابنَ دوشاسنا، ثم يقتل القوروش ابنَ أرجونا الذي يشتاط غضبًا على القوروش ويقاتل بشراسة مع قوسه الفيجانا الإلهي في طلب الثأر والانتقام. وعلى الرغم من أنَّ غضبة أرجونا أقل حدة من غضبة آخيل وأقل تأثيرًا على مسار الحرب فإنها تبقى من العوامل التي تتشابه في الملحمتين، لا سيما في كون المقتول أحد أبطال الحرب، وأبطال المهابهارتها لا يموتون بسهولة فهم الذين يبدون في كثير من الأحيان محصَّنين من الموت منيعين على المنية المحمولة على سلاح الخصوم. وهنا لا بد من الانتقال إلى النقطة الثانية من التشابه.
صراع الأبطال
مما هو معلوم فإن هوميروس ليس بشاعر العامة ولا أبطاله من الرجال العاديين بل هو شاعر عليَّة القوم من الملوك والأمراء وشجعان الإغريق وصناديدهم، لذا فإنَّ ملحمتيه -الإلياذة والأوديسة- تركزان بشكل كامل على حياة الأبطال وصراعهم وكفاحهم وشجاعتهم ولا يلتفت إلى من هم دونهم إلا من أجل إكمال صورة الحدث عمومًا. ينطبق هذا الأمر تماما مع المهابهارتا فهي لا تتعامل إلا مع الملوك والأمراء والبراهما والحكماء والشجعان، فكل شخصيات الملحمة الرئيسة هم من الملوك والأمراء وقادة الجيوش الذي يمتازون بقوى هائلة أو سمات ليس لعامة الناس منها نصيب. لكن ما يميز البطل الإغريقي الهوميري عن نظيره الهندي، أن الثاني إلهي الصفات، خارق القوى، لا ينتظر مساعدة الآلهة ولا معونتها ولا يخشى أن تقف ضده فتبدو باهتة أو ظل إله أو حتى ظلًا له. أما الإغريقي فهو حليف الآلهة وسليلها ولا يجرؤ أن يجدّف بحقها وتبقى صاحبة السلطان عليه طيلة حياته. تبدو بطولة الإغريقي أكثر رفعة فجانبه الإنساني طاغٍ عليه بسيئاته وحسناته، برذائله وفضائله، بشمائله ومعايبه. أما خُلق الهندي أكثر سموًا فهو أقرب للعصمة، فيجسّد الفضيلة بسلوكه، وافيًا لعهده، مخلصًا لوعده، ممتثلًا لكلمته التي أعطاها. فالإغريقي بطل بسيفه والهندي بطل بأخلاقه. وثمة نظريتان عن الأبطال الهوميريين، تنص الأولى أنهم كانوا آلهة وإنحدروا بشرا، والأخرى أنهم بشر وارتقوا آلهة. وأيُّ النظريتين لا تبدو متعارضة مع الملحمة الهوميرية. أما أبطال الهند فهم يبدو سلفًا آلهة أو في طريقهم ليصبحوا آلهة بقواهم الخارقة للطبيعة، والتزامهم بمعتقداتهم وتقاليدهم. وشجاعة الإغريقي أكثر جاذبية فهناك ما يُشعر المتلقي أنَّ بالإمكان هزيمته، أما الهندي فالمتلقي متأكد أنه غالبٌ لا محالة، وأنَّ كل شيء معدٌّ ليغلبَ خصومه ويبزُّهم بسلوكه القويم وعدله وتواضعه عند الانتصار. لذا فالبطل الهندي حالة من الشجاعة المثالية، والإغريقي حالة من الشجاعة البشرية.
حزن بريام وديتراشترا
إنَّ حزن الملوك ليس كحزن الإناس العاديين، فالملوك لا يحزنون إلا لنازلة عظيمة ومصاب جلل. فحزن بريام (ملك طروادة) كان حزنين، الأول كان على موت ابنه هيكتور، بطل الطرواديين وأميرهم وقائد جيشهم، والآخر أنَّ موت ابنه حمل ضمنيًا نذيرًا بخراب طروادة، فاجتمع الأمرَّان عليه في خيمة آخيل، بعد أن ذهب يتوسل إليه أن يعيد له جثمان ابنه لتُقام له طقوس توديع لائقة بأمير طروادة. في الجانب الآخر فإنَّ حزن ديتراشترا (ملك هاستينبورا الضرير) بعد علمه بمقتل أبنائه المئة في المعركة الفاصلة ضد أبناء عمهم- هو حزن الأب الفاقد لأبنائه لا حزن الملك المفارق لملكه. الفارق ما بين حزن الملكين ينقسم بشكل رئيس إلى نقطتين مهمتين، الأولى أمام من خسر ملكه، وماذا تُمثِّل مملكته له؟ يبكي بريام ابنه ومملكته معًا لأنه أولًا يخسرها أمام عدو منافسٍ يفوقه قوة ومقدرة عبرَ البحر بجيوشه إليه من أجل هدف واحد فقط أن يدمر طروادة عن بكرة أبيها، وأن خسارته لملكه خسارة الضياع إلى الأبد. وثانيًا في كون مدينة طروادة حصينة على الأعداء لعقود طويلة بفضل أسوارها وحصونها العالية، فهي أرض الوطن والأهل والأحباب، وليست مجرد مملكة. بكى بريام ابنه وطروادة ومجده الغابر وعمره الذي ستنتهي رحلته قريبًا بعد أن شاخ، بكى الماضي التليد الذي لن تبقى منه ذكرى بعد أن يقتحم الطرواديون حصون مملكته المنيعة. أما حزن ديتراشترا خالص على أبنائه الذين فقدهم لأنه أولًا كان ضد سياسات ابنه دريودانا الماكرة والخبيثة تجاه أبناء أخيه، وإنَّ خسارته المُلك لن تكون لعدو يريد الخراب لمملكته أو منافس منازع على ملكه بل لأبناء أخيه الذين يعرف حقهم في المُلك في هاستينبورا الذي خسروه غشًا وخديعة، بله ما يعرف عن سماتهم الخير والأخلاق والالتزام بالدارما التي تنظم سلوكهم وتضبط تصرفاتهم بدون طيش أو حيف. وثانيًا، في كون هاستينبورا مملكةَ الباندوفيين بقدر ما هي مملكة القوروشيين، فما من دمار سيحل على دورها ولا خراب سيطال أرضها، بل قد تكون أكثر ازدهارًا مع أبناء أخوته، وهو الذي شارف على نهاية عمره ودخل خريفه منذ أمد ليس بالقصير.
آلهة الإلياذة وآلهة المهابهارتا
إنَّ الآلهة في المهابهارتا أقل قيمة من الآلهة في الإلياذة وتدخلها محدود في مسار الأحداث وأقدار الشخصيات وإن تدخلت فبدعم الأبطال بشكل غير مباشر كأن تزودهم بالأسلحة لا تتدخل بنفسها مباشرة. إضافة إلى أن الأبطال يجدفون دون أن يكون للآلهة تدخل بله كونها جزء الشخصيات بحضورها وليست مستقلة في عالمها. وكذلك في طبيعة العلاقة ما بين الأبطال والآلهة كما ذُكرَ آنفًا، فالعلاقة قائمة على نوع من التكافئ لا علاقة عبد وإله. وآلهة المهابهارتا بعيدة عن سمات البشر ونواقصهم ورذائلهم، وهي أيضًا لا تنقسم على نفسها داعمة هذا الفريق ومحاربة ذاك، بل تأخذًا موقفًا محايدًا ظاهريًا وإن كانت تدعم الأخيار الممتثلين لتعاليم الدارما والممثلين بالإخوة باندو وحلفائهم. يختلف الأمر كليًا في آلهة الإلياذة، فدائما ما يكون لها تدخل بمسار الأحداث ومصير الشخصيات، فتعين على إنجاد هذا وتعجِّل من مقتل ذاك، وهكذا دواليك. وتتخذ من الأولمبوس مقرًا لها تتابع الحرب ووقائعها، ليضاف البُعد السماوي إلى الإلياذة وتجري أحداثها منقسمة ما بين عالم الأرض وعالم السماء. وبفضل هذا الحضور الشاخص لآلهة الأولمبوس فإنَّ أبطال الإلياذة سواء من الإغريق أو الطرواديين دائما ما يطيعون الآلهة ويقدمون لها الأضاحي والقرابين سائلين إياها النصر والمعونة والتمكين. ولنتيجة لكل هذا، فإن آلهة الإلياذة تمتاز بطبائع بشرية فتبدو وكأنها بشرٌ بقدرات خارقة، فتنقسم فيما بينها آلهة تدعم هذا الجانب وأخرى تدعم ذاك. وتتحول المعركة ما بين الإغريق والطرواديين، صراع متأجج ما بين آلهة الأولمبوس الذي دائما ما يكون لكبيرهم زيوس القول الفصل والأمر النافذ على بقية آلهة الأولمبوس. ومما يمكنني استنتاجه من هذا الفرق ما بين تصوير آلهة الأمتين وتعامل الأبطال مع الآلهة هو تفوق آلهة الهنود على الإغريق، فهم أكثر سموًا ورفعة وأقرب إلى الإلوهية منهم إلى البشرية، ويُظهر نوعا من التطور المعتقدي الهندي إذا ما قُوبل بالرؤية المعتقدية الإغريقية المصوَّرة في الملحمتين. وأما تعامل أبطال الملحمتين مع الآلهة فإنَّ أبطال الإغريق أكثر تعظيمًا وتقديسًا لآلهتها بالنظر لطبيعة العلاقة التي تربط أبطال الهنود مع آلهتها، وهذا ما يُعيديا إلى ماهية الأبطال في الملحمتين وكيف أنَّ أبطال المهابهارتا ذوي جِبلّة آلاهية لا تتمتع بها شخصيات الإلياذة.