التراث الأدبيالتراث العربي

لوعة الشاكي ودمعة الباكي

صلاح الدين بن أيبك الصفدي

ترتبطُ الكتابة ارتباطًا وثيقًا بمدى تحضُّر أمةٍ من الأمم، وتنوِّع معارفها، وتطوِّرها الاجتماعي والثقافي والأدبي، وتزداد دلالة هذا الارتباط حين تذيعُ الكتابةُ في مواضيعَ كُثُر ما بين حياتيّة وإنسانيّة واجتماعيّة وثقافيّة وعلميّة ودينيّة. والعرب إحدى هذه الأمم التي أثبتَ ما أنتجته في قرون ما بعد الإسلام عن هذا العُمران المعرفي المهول الذي قلَّ نظيره لدى الأمم، ولا تكاد تجده إلا لدى الحضارات الإنسانيّة الكبرى مثل الرافدينيّة والإغريقيّة واللاتينيّة واليابانيّة والأوروبيّة ما بعد عصر النهضة. ومن المواضيع التي انشغلَ فيها الأدباء في تلكَ الأمم كان موضوع الحبِّ وآثاره في النفوس وآماراته وسلوانه، وعالجته الكتابات بأساليبَ مختلفة. من الأمثلة على هذه المعالجات الأدبيّة ما نجده لدى الشاعر اللاتينيّ الشهير أوفيديوس في ثلاثيّته الشعرية “الحب، وفن الحب، وسلوان الحب”، نظمَ أوفيديوس شعرًا عن الحبِّ وأعراضه وفنونه وأساليب الإيقاع بالآخر وكيفيات التجمُّل والتبعُّل والدلال والعِشرة الطيبة ووضعيات الجِماع، وما اكتفى بذلك فكتبَ ناصحًا في سلوان الحبِّ عن خطوات إرشادية إذا ما اتَّبعها العاشق تخلَّصَ من تباريح الحبِّ وما يقضُّ مضطجعه من آلامه وأشواقه1. كما أنَّ العربَ لم يضنّوا بجهدٍ في الرواية والكتابة عن الحبِّ، ومن أشهر ما كتبوا كتابَ طوق الحمامة في الألفة والألَّاف لابن حزم، وروضة المحبّين ونزهة المشتاقين لابن قيم الجوزيّة، وروضة التعريف في الحب الشريف للسان الدين بن الخطيب، وديوان الصبابة لشهاب الدين أحمد بن حجلة، وكتابنا الذي بين يدينا لوعة الشاكي ودمعة الباكي لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الدمشقي، الفقيه الشافعي (696 هـ – 764 هـ، 1296م – 1363). يقدِّم الصفدي في هذا الكتاب نصًّا نثريًا إبداعيًّا بلسان الراوي حين يهوى غلامًا تركيًّا، وينقل في كتابه تجربة الحبِّ وآماراته وآثاره في نفس العاشقِ بأسلوب السجع المُحلَّى بالشعرِ. يبدأ الكتاب بخطبة الافتتاح عن الحب والمحبَّة بين العشَّاق على لسان الراوي، ثم يذكر خروجه مع صديق إلى بستان ذي زخرفة وتزيين وأشجار وأزهار وطير غرِّيد وعيون ماء وجداول. وما كان الراوي قبل ذاك عاشقًا ولا ملتاعًا بتباريح الغرام، ويعجبُ من أهل الغرام وما ساقهم إلى آلامه حتى أبصرَ كوكبةً من الغلمان الترك على أسرجةِ الخيول فهوى في غرام غلام تركي بهي الطلعة صبوح الوجه حسن الهيئة، وما استطاع فِكاكا من شِراكِ الحبِّ التي قبضت عليه بفكوكها فاغتمَّ واهتمَّ وتعلَّقَ بالغلام، ثم أقبلَ عليه الغلام وحادثه وذكَّره بما هو عليه من ابتعاد عن الغرام وصبرٍ وجَلَد فأنَّى له أن والهوى، ثم طلبَ منه الدليلَ على محبَّته إياه فكان له ما أراد عند بيان الحال. أبدى العاشقُ حزنَه في حضرة المحبوب لعلمه بمقدم فراقٍ لا مناص منه، ثم ارتشف من شفتي محبوبه لذاتِ القبل والهيام. لكن ما اكتمل مراده من المحبوب خشيةَ الوشاة والرقباء فتواعدا على يومِ لقاء وافترقا. اشتدَّ الحالُ على العاشق بعد الفراق، وصوَّر الراوي كيف أظلمتْ الدنيا في عينيه واسودَّت وغابت بهجتها وفرَّت وانعدمَ صفاؤها وتلاشى ضياؤها، وكان صاحبه بعيدًا عنه، فلما رأى حاله استبشعه وسأله عن سرِّ تبدُّله ومصابه فأجابه عن سؤاله، فصبَّره بالكلام وسلَّاه عما هو فيه لكن لا انتفاع. أقبلَ الليل زاحفًا ببطءٍ فأنَّى للعاشق الاصطبار، وبيَّن الراوي ما يعتلج فيه نفس من مرارة الانتظار وبطء الزمان وهو محبٌ عاشقٌ ينتظر بلهفةٍ بلوغَ الموعد المضروب مع محبوبه. عندما انبلجت أنوارُ الصباح ذهب إلى مكان اللقاء مع صاحبه، وصوَّر الراوي تأثير الحبِّ في نفس العاشق ما بين فرحٍ والدنيا معه فرحة وما بين حزن والدنيا معه حزينة، ولمَّا لم يطق صبرًا أرسلَ صاحبه إلى محبوبه ليستعلمَ أمره وإنْ كان سيأتي للموعد، وفي ساعات الانتظار صوَّر الراوي خلجات نفس العاشق المحب، ثم أقبل الصديق وأعلمه بأمر محبوبه. جاء المحبوب إلى الموعد ومكان اللقاء فأزهرتِ الدنيا وأشرقت وغنَّى الطير وأزهرتِ الورود واحلوَّت الحياة في عيني العاشق، ثم حلَّ الاجتماع واللقاء وجرى بينهما حديث حب وعتاب، ثم غادرا إلى بيته ليقضيا ليلهما معا. فتسامرا وتفاكها وسكرا واضطجعا وقضا منه وطره. ثم حان مع الفجر الفراق فاغتمَّ العاشق لذاك وحزنَ وهذا حالُ المحبُّ لا يكتمل له في الحب فرح ولا يفنى له أسى. 

إنَّ كتاب الصفدي بموضوعه وتقادم أحداثه والمكان الذي التقى الراوي بمحبوبه يأخذنا إلى كتابٍ شبيهٍ سابقٍ له بنحو قرن من الزمن، وهذا الكتاب هو قصيدة “رواية الوردة” للفرنسي غيوم دو لوريس، نظمها في عام 1230 ب4085 بيتًا، يحكي فيها عن وقوع شابٍ بغرام وردة، وكلا النصَّين لا يصرِّحان عن حب المرأة بل يكنيَّان، وما يواجهه من مصاعب وشدائد في سبيل هذا الحب بعد أن دخلَ بستانًا عامرًا بشتى أنواع الأزهار والنبات والطيور الغرِّيدة، والتقى بجمعٍ من الشبان والشابات الحسان يقضون وقتهم في اللهو والمرح والمتع. تركَ غيوم دو لوريس، الذي لا يعرف عنه الكثير، القصيدةَ بنهاية مأساوية حزينة هي النهاية المثالية للحب الفاضل يتجرعُ فيه العاشق من كأسِ الآلام والعذاب وعدم المقدرة على الوصال الدائم للمحب. أسَّستْ قصيدة “رواية الوردة” الذوقَ الشعري الأوروبي في القرون الوسطى، وكان لموضوعها في الحب الفاضل Courtly Love دورٌ في أن تكون أكثرَ الكتبِ قراءةً في القرنين الرابع عشر والخامس عشر في أوروبا، وتأثَّرَ بها لفيفٌ من الأدباء. تجري هذه القصيدة في كثير من فصولها على لسان الراوي/ العاشق بالتناوب مع الكاتب الذي يكشف على لسان راويه عن موضوع رؤياه قائلا ’إنها رواية الوردة، التي تحتضنُ فن الهوى برمته‘، ويتَّضحُ للمتلقي منذ البداية غاية هذه القصيدة وفحوى هذه الرؤيا في الحب وآدابه وتعاليمه. يمضي العاشقُ في دربه -في حُلمه- حتى يصلَ إلى بستان غنَّاء مترامي الأطراف ذي سياج عليه صور ورسوم قبيحة لكلِّ منها اسم ووصف: الضغينة والخيانة والدناءة والشراهة والشحة والحسد والكآبة والشيخوخة والرياء والفآقة. يرمزُ البستان الغنَّاء إلى الحياة الدنيا وزينتها، فيما تشير رسوم القبائح وصورها إلى آفاتِ هذه الدنيا ومُفسدات أخلاق الإنسان وسلوكه فيها. يسعى العاشقُ لإيجاد منفذٍ لدخول البستان، وما كان له ذلك إلا على يد فتاة غادة حسناء هي المرأة المترفة وصديقة سيِّد المتعة صاحب البستان. والمرأة المترفة، أي البنت الصبوح، مدخلُ الشابُ الغضيض إلى خمائل الحبِّ وجنان المتعة في الدنيا. وسيِّد المتعة هو مرحُ الحياة ولهوها في سنِّ الشباب. دخلَ العاشقُ المفتونُ البستانَ ورأى فيه أعاجيبَ الخيرات والمخلوقاتِ اللطيفة حتى وصلَ إلى قومٍ مجتمعين في لذة وفرحٍ يتراقصون ويغنون فكان أول ما رأى امرأة عجيبة الجمال هي بهجة، ثم أخرى هي كياسة، ثم ربَّ الهوى، وهو كيوبيد ابن فينوس كما في الأساطير الرومانية، المسؤول عن الحبِّ وأهله وما يصيبهم من ملذاتٍ ومآسٍ، وأبصرَ كيف أن ربَّ الهوى بسهامه المختلفة يُمكن أن يجعلَ المرءَ يهوي في الغرام إذا ما تلقَّى أحدَ سهامه. ثم يرى العاشقُ وسطَ ذلك الجمع نساءً بهيّات هن ثروة ثم سخيّة وصراحة. يُفصحِ العاشق عن سماتهن وأوصافهن، وهنَّ رمزٌ لما يحتاج إليه المرء إذا ما هوي امرأة في الدنيا. في خضمِّ كلِّ هذا الاستطلاع والمراقبة واللقاء في البستان، يتحيُّن ربُّ الهوى الفرصة المناسبة ليُوجِّه سهامَ الحبِّ نحو صدرِ الشابِ الذي دخلَ عليهم المكان، فيوتِّر قوسه ويرمي بسهامه: سهم جميلة، وسهم بساطة، وسهم كياسة، وسهم كياسة، وسهم صراحة، وسهم صحبة، وسهم بهيّ الطلعة. وكلُّ سهمٍ من هذه السهام ذو تأثيرٍ في نفسِ العاشق وأمارةٌ من أماراتٍ الحبِّ وأسبابه وتأثيراته. كان حظُّ العاشقِ الصغير أن يقعَ في غرامِ وردة في البستان، كناية عن غرام المرأة، فتهفو نفسه إليها وتأخذ بمجامعِ قلبه شوقًا لشمِّ أريجها وتقبيلها وقطفها، ثم يتلقى من ربِّ الهوى تعاليم الحبِّ في السلوك والأفعال والأقوال والملبس وشيئًا عن صفات أهله وضروبهم، وهي وصايا تقتفي في معظمها أثرَ قصيدة فن الهوى لأوفيد وبعضها اقتباسٌ منها بصياغاتٍ جديدة. حين أراد العاشقُ أن يصلَ محبوبته الوردة، وقد حرسها مخلوق شرس هو خطر، فجاءه خادم في الحديقة اسمه صاحب الحفاوة، وهو رمز عن المعين في وِصال المحب والحاضِّ عليه، يُدِّله في دربه ويقرِّبه إلى مراده. في خضمِّ سعيه لوصال محبوبته الوردة تظهر شخصيات متعددة هي حياء وخشية وعفة وغيرة وشر وإساءة، وتمثُّل كل شخصية جانب من جوانب الحب والوصال سواء أخطار مُحدقة أو سلوكيات تنمُّ عما في نفوس المحبين. لم يوفَّقْ العاشق في وصال وردته وطرده خطرُ شرَّ طردة، وما كان له من مواسٍ في مصيبته إلا أن يجدَ رفيقًا اسمه صديق يقص عليه أخباره وأحواله، ففي الإفضاء إلى من يأمن جانبه ويشاركه أفراحه وأحزانه ترويحٌ عن النفس وإعانة لها فيما تطلب. وبفضل مشورة صديق تمكَّن العاشقُ من كسرِ حدّة شراسة خطر وكرهه له، والتأثيرِ فيه بطيِّب الكلام وحلوِ الألفاظ، قبل أن تحضر رحمة وصراحة وتحاولا مع خطرٍ أيضًا حتى رضي عن العاشق، الذي كان قد طرده من قبل، متيحًا له رؤية وردته يرافقه في دربه صاحب الحفاوة. بيد أنَّ النهايات السعيدة ليست في ناموس الحبِّ والعشَّاق إذا ثارتْ ثائرة غيرة بعد لقاء العاشق ومحبوبته الوردة، وتدخَّل ذو الفم الشرير، وشاية، في زيادة الطين بلة، ثم حياء، فطُردَ العاشقُ ومُنعَ وصال وردته بعد أن ابتنت غيرة حصونا وأسوارًا حول البستان ووضعتْ على الوردة الحرسَ الشديد، وحُبس صاحبُ الحفاوة في برج. لم تكن هذه النهاية المأمولة للعاشق واستطاع بفضل فينوس ورحمة وروعة الهوى وحسناء من أن يلتقي محبوبته الوردة في غفلة من أعين الحُرَّاس لكنه لقاء خاطف سرعان ما انتهى وما روى فيه العاشق ظمأه من محبوبته. يُمثل كلُّ حدثٍ وشخصية في هذه المغامرة التي يراها الرواي في منامه مفصلًا من مفاصل الحب وتقلُّباته واللقاء مع المحبوبة وما يُعين عليه أو يمنعه، ويتجسَّد كلُّ شعورٍ أو سلوكٍ في شخصية بشريّة قد تُمكِّن من اللقاء أو تمنعه. بهذه النهاية تنتهي رؤيا العاشق ويستيقظ من نومه، ويبقى الحبُّ في الختام مادة هذه القصيدة المجازيّة مُقدَّمًا في قالبٍ قصصيّ يُعلِّم ويُخبِر، ويُؤدِّب ويُمتع، ويُبيّن ويُمثِّل، في سعي لفَهمِ الحبِّ وأهله.  

يُلاحظُ القارئ التشابه الكبير في بُنيّة النصَّين وأحداثهما وتسلسلهما ورزميّتهما، مع أن المجاز والرمز أبلغ في رواية الوردة، رغم البعد الزمني والمكاني، ويكشفان عن تماثل فكري في التعامل مع الحب وسبر أغواره وعوائقه وتأثيراته.  

 

1- كتب ابن الجوزي كتابًا بعنوان “ذم الهوى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى