روايات

ساعة بغداد – شهد الراوي

ساعة بغداد الرواية التي دار حولها الكثير من الجدل، ربما الرواية المفاجأة التي لم يتوقع أحد لها أن تكون ضمن الروايات المرشحة ضمن لقائمة البوكر الطويلة، تضرب جميع التوقعات وتترشح لقائمة البوكر العربية القصيرة للرواية سنة 2018. ولا أُخفي القارئ أني حاولت قراءتها مرتين من قبل فلم أستطع أن أكلمها فالرواية في فصولها الأولى كانت منفرة لي، وفي المرة الثالثة حزمت أمري وقررت أن أُكملها مهما كلفني الأمر.

تسرد الرواية على لسان بطلة نتعرف إليها صغيرة لتكبر بعدها وتكبر معها الرواية وأحداثها، فتكون بادئ الأمر في زمن حرب الخليج الثانية ثم الزمن الذي يليها حين يُفرض الحصار على العراق حتى وقت الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، والمدة الزمنية ما بين سني 1991-2003، وهو زمن أحداث الرواية. تبدأ الرواية على لسان البطلة وهي طفلة لتسرد لنا فهمها للوضع وتعرفنا إلى الشخصيات، وقدرتها على الدخول لحلم صديقتها نادية كونها لا تحلم. هكذا اختارت الكاتبة لبطلتها أن تكون بلا حلم، ولكن بخيالٍ واسع، سيجعل الكاتبة فيما بعد تدخل في مطبّات في روايتها. الطفلة التي تسرد الأحداث في فصول الرواية الأولى تسردها بلغة طفلة، وهذا أمر لا أدري كيف استطاعت أن تُوظفه الكاتبة في عملها هذا. فأن تنقل الأحداث والوقائع من ذاكرة وفكر ومنظور طفلة لا يعني أن تسرد سرد أطفال، وبلغة ضعيفة وركيكة، وهذا هو السبب الذي جعلني وجعل غيري ينفر من الرواية، كل شيء في الفصول الأولى يُوحي بأن العمل مكتوب والكاتبة تتقمص دور طفلة في كل شيء حتى في الكتابة، فلم يكن عليها أن تكتب بهذه اللغة الركيكة، حتى تجاري سِنَّ بطلتها، لأننا نرى أن السرد يتطور ويصبح أكثر انتظاما تزامنا مع تقدم البطلة في السِن وهي تسرد حياتها وحياة من حولها. ولا يقتصر الأمر هنا فقط، بل عرض الأحداث في أول فصول الرواية، والبطلة ما زالت طفلة، عشوائي جدا، وما من حلقة وصل داخل الفصل الواحد، تتنقل من حدث إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى، ومن قصة إلى قصة، حتى تبدو كأنها لعبة puzzle، غير مرتبة بالصورة الصحيحة. سقطت الكاتبة في مغالطة  حين تسرد بلسان بطلتها حياتها وهي طفلة بأن تُعطي للطفلة القدرة على حفظ تورايخ بالشهر واليوم كأن تقول كما في الصفحة 19: 

“في يومٍ من الأيام، كان ذلك على الأغلب في يوم الجمعة من شهر نيسان…”. وليس في هذا الموضع فقط بل تكرر في عديد المواضع، والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يُمكن لطفلة في الابتدائية لم يتجاوز عمرها الثانية عشرة أن تحفظ تواريخ! وهي التي تصف نفسها في موضع لاحق بأنها “لم أكن أعرف من الوقت سوى الساعة السابعة والنصف حين يدق جرس المدرسة في بداية الدوام…”. فهناك لبس واضح وعدم بناء سليم لذاكرة الطفلة والتركيبة الذهنية لها. وكما ذكرت فإن السرد مع تقدم الأحداث يأخذ طابعا أكثر انتظاما وانسجاما من البداية وهذا ما يُحسب للكاتبة، فقد استطاعت أن تُسيطر على سردها، لكن السرد فجأة يعود إلى تذبذب في مستواه، وتدخلات الكاتبة، جعلت من بعض التفسيرات والإضافات، انهيارا لمنظومة السرد وتفكك عقده، لتعود مجددا لتنتظم. وتخاطب الكاتبة على لسان بطلتها القارئ، مستخدمة أسلوب معلمة وهي تخاطب تلاميذ في الابتدائية في كثير من المرات، فهي لا تصعد إلى مستوٍ عالٍ من الفكر بل تنزل في شروحاتها وطرح أفكارها، التي كانت في كثير من الأحيان مكررة ومملة وإطالة وإسهاب والدوران حول فكرة واحدة ومحاولة عرضها بأكثر من صورة، وكأنها تُخاطب أطفالًا. 

تبدو لغة الرواية هي الأخرى كأنها دالة موجية في حالة صعود وهبوط مستمر، فتارة لغة ضعيفة وتارة قوية، وأسوأ ما وقعت فيه الكاتبة هو محاولة كتابة اللهجة العراقية بطريقة فصحى كأن تقول: “وراح المطر ينزل بقوة” وصياغة لكثير من الجمل تبدو وأنها محاولة التعبير عن موضوع إنشائي. رافق ذلك استخدام مفردات لا تتناسق دلالتها ومعانيها مع الفكرة المكتوب عنها مثل “وماذا لو أن الحصار لم ينفذ؟” وهي تقصد ينفد، وما بين النفاد والنفوذ فرق، وكيف ينفد الحصار إذ تقصد ماذا لو لم ينتهِ؟ ولربما ألجأتها الحيرة بين ينتهي وينتهِ إلى النفاد فوقعت في النفوذ، ولله في خلقه شؤون! وما ذكرته على سبيل المثال، وليس تتبع عثرات الكاتبة، فالرواية مملوءة بأخطاء لغوية. 

تتعدد أصوات الراوي في الرواية، فتبدأ وكل ما يخص البطلة من فصول بلسان الراوي المتماهي في روايته وتسرد سردًا مباشرًا، أما ما يخص حياة بقية الشخصيات، تسرد سردًا غير مباشر بلسان راوٍ عرف أحداث القصة ويرويها بلسانه، لكن ما بين هذين النوعين لا تعطينا الكاتبة أي إشارة من الذي يروي؟ فتختلط الأصوات لدى القارئ ويقرأ بلسان البطلة أحداثا لم تكن في نطاق علمها، وهذا التنوع في السرد دون ضبطه وتركه عشوائيا يجعل الرواية فاقدة لانضباط هوية الصوت السردي. وتندمج الفانتازيا في بعض الأحداث، لكن يبدو الأمر وأن الكاتبة تكتب وهي تتخيل نفسها في عالم الرسوم المتحركة فلا تعطي للواقع ضوابطه، وإن كان الحدث يجري في وعي البطلة، فترابطه مع شخصيات واقعية وأرض الواقع يجعل العوالم متداخلة كما في حادثة لقاء البطلة مع جدها بعد أن ذهبت مع نادية إلى ساعة بغداد والتقت المشعوذ. تسلسل فصول الرواية عموما يحتاج إلى تنضيد وتنسيق، لا كأن دور كل حدث وشخصية يأتي بالصدفة.        

كانت أحداث الرواية كانت محاولة الكاتبة في العودة إلى الماضي وتدوين أحوال الناس أثناء الحرب سنة ،1991 وما بعد الحرب وحقبة الحصار، والهجرة التي بدأها الناس هربا من واقع مُر، حتى بداية الغزو سنة 2003، وما تلاها من مصاعب جعلت بقية سُكان محلة بطلتنا يُهاجرون، تاركين خلفهم ماضيهم وذاكرتهم وأرضهم وجيرانهم، ليتشتتوا في بقاع الأرض كل منهم في بلد، ومن حالفه الحظ كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي السبيل الذي يُمكنه بفضله أن يعرف أخبار جيران الماضي وروفقائه. إن محاولة جمع قصص محلة بتعدد الناس وتنوع شخصياتهم واختلاف حياتهم تركنا مع أحداث بصورة غير واضحة أو تنتهي نهاية خيالية، وكثيرٌ من شخصيات سطحية، في حين يغيب عنها والدي البطلة، وهذا التغييب لم تتضح أسبابه، وحين يُذكرون يبدون كأنهم أطياف تظهر لتأدية دور معين وتختفي مرة أخرى. 

تكبر البطلة وتدخل مرحلة المراهقة وتغرم بفتى، وتبدأ بتفهّم الحياة التي تدور حولها، وتدخل الجامعة بعدها ثم تُعاصر الحرب الأمريكية فالهجرة، تبدو هذه الفكرة مع فكرة تدوين الأحداث الصعبة التي مرَّ بها العراق في التسعينيات فكرة جيدة، لكن تطبيقها والكتابة عنها كان أقل بكثير من مستوى الفكرة، فالفكرة تُحسب للكاتبة لكن الكتابة عنها تُحسب عليها، نظرًا لعدم نجاحها في جعل الفكرة وهي المادة الدسمة، رواية رصينة. لكن ما يشفع للكاتبة أنها روايتها الأولى، وإن الكاتبة لو كتبت مستقبلا عن ذات الموضوع والأحداث كانت ستُجيد وتتلافى الأخطاء في رواية ساعة بغداد.

في ختام قراءتي للرواية لا أرى أن الرواية تستحق أن تُرشح في قائمة البوكر القصيرة، وستبقى علامة استفهام كبيرة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى