التراث الأدبيالتراث العالمي

دون كيخوته – ثربانتس

كانت خرجةُ دون كيخوته، بعد أن امتلأ رأسه بكتب الفروسيّة وغاب عقله بعد أن تشرَّب بها، فاتحةً مجيدة لمنعطفٍ بارزٍ في فن الرواية الأوروبية وقفزةً هائلة إلى الأمام. تتنوع أسباب هذه القفزة ما بين موضوعيّة متمثلةً بشخصية دون كيخوته، وتصوير عصره وأحواله، ونقد روايات الفروسيّة والتشنيع عليها ومحاكاتها الساخرة حتى قيل إن دون كيخوته أعلن الوفاة الرسميّة لروايات الفرسان، وفنيَّة متمثلةً بأسلوب سرد ثربانتس وبُنية روايته، وتداخل العوالم المتخيَّلة والواقعيّة في نسيجٍ سرديّ واحد، ووعي الشخصيَّات بأنها أصبحت داخل كتابٍ مقروء يروي قصَّة حياتها. كلَّ هذا وأكثر جعل من الرواية الأوروبية تشرعُ في طريقها دون توقفٍ أو عودةٍ إلى الوراء، وهكذا تغيَّر حالها من المثالي والبطوليّ إلى الذاتي والفردي. أضحى دون كيخوته مثالًا لهذه العودة إلى الذات أو الانبثاق الجديد لأن الفرد هو الآن موضوع الرواية وليس غاياتٍ كونيّة وحيواتٍ مثاليّة ساميّة القيم يكون المرء جزءًا منها، ويسعى لأن يؤدي دوره المحدد سلفًا في كتاب الكون الكبير، بل هو الآن مُحدد دوره والرواية تدور حول ذاته لا ما يُفترضُ عليه إقامته. وكما يُشيرُ بعض النقَّاد أنَّ ما يفرق في رواية دون كيخوته عما سبقها هو أنَّ الحدث في الشخصيات قبله يجري خارجها، في حين الحدث في دون كيخوته يجري داخله. أي إنَّ دون كيخوته هو الفاعل الرئيس والبيئة المحيطة به هي المفعول به أو التابعة لمشيئته والراضخة لإرادته، فلكيخوته وجوده الذي يُحتِّم بناءَ عالمٍ متخيِّل يدور حوله فهو البؤرة والمركز وليس العكس، فالحدث يبدأ فيه لا ينتهي عنده. 

إلى أي حدٍ ينطبقُ هذا الكلام على سلسلة روايات رابليه الخمس، التي صدرت قبل رواية كيخوته بنحو خمسة عقودٍ تقريبًا في القرن السادس عشر، وشخصياته غارغانتوا وبانتاغرويل وبانورج، وهي الشخصيات الرئيسة في الرواية؟ تتلاقى “كتب غارغانتوا وبانتاغرويل” مع “دون كيخوته” في جوانب متعددة لا سيما المحاكاة الساخرة من كتب الفرسان والنقد والسخرية من الواقع، وتتفرد كتب رابليه بسماتٍ مميزة في الهجاء والنقد اللاذع والإفراط في تمجيد الأكل والشراب في عالم يقوم على الضخامة والجسامة متمثلًا في غارغانتوا وابنه بانتاغرويل، ولا تُعدم روايات رابليه البراعة الفنيّة في السرد كذلك وتداخل العوالم، لكن على نحوٍ أقلّ مما هو في دون كيخوته. لكن ما يفرق بين الروايتين أو ما يُعلي كعب دون كيخوته على نظيرته، التحفة الرابليهيّة، أن دون كيخوته صانع الحدث ينطلق في دربٍ هو الذي يفتتحه لتحقيق أمجاده الخاصة في إحياء الفروسيّة الجوالة، فالحدث معه ذاتيّ التولُّدِ فنلتمس البناء المتصاعد الآني وليس المضي في دربٍ مُحدد سلفًا، فتفتقر شخصيات رابليه إلى المبادرة في صنع الحدث وبنائه، وتدور في عالمٍ هي جزءٌ منه قد حُددت معالمِه مع غيابِ التمركُّز حول الشخصية الذي نلمسُه في دون كيخوته، فالحدث عند رابليه هو المهم والشخصيات تلعب أدوارها فيه، والشخصية عند ثربانتس هي المهمة والأحداث تتوَّلد منها وحولها. لا يمنحنا رابليه الواقعيّة بإنسانيّة شخصياته، فغارغانتوا وبانتاغرويل مع كلِّ سلوكياتهما الإنسانيّة أو المؤنسنة عملاقان في الأخير، لهما جسدان ضخمان تطوِّعان البيئة المحيطة فيخرج الحدث من الواقعي إلى الخيالي الذي تتبعثر معه منطقيّة الحدث ومقبوليته الواقعيّة مع التنافر الواضح ما بين حجم الشخصية ومحيطها، مما يسلب منها الانسجام المعقول والمقنع ضرورةً. أما في حضرة دون كيخوته فنحن نلتمس الإنسان فيه، ولا يقتصر هذا على دون كيخوته بل ويشمل رفيقه، وحامل سلاحه، سانشو بانثا. تمنحنا هاتان الشخصيتان الشعور بالألفة والحميميّة معهما، الحميميّة الإنسانية التي يولِّدها الاحتكاك والتعاطف. قد نجد هذه الألفة مع بانورج لدى رابليه، هذه الشخصية المحتّالة الخدَّاعة لكنها أيضًا المرحة والساخرة والبذيئة والذكيّة، يقترب بانورج من كيخوته وسانشو مع أنَّه، كباقي شخصيات رابليه، يتمتع بخوارق تجعله جزءًا من منظومة خيال رابليه التي أبدعته وأبدعت عالم العملاقين. وهنا نطرح سؤالًا هل كان لبانورج أن يكون أكثر تميِّزًا لو كان في عالم غير رابليهيّ؟ لا أخفي إعجابي بشخصيّة بانورج بل وأضعه في المقدَّمة قبل غارغانتوا وبانتاغرويل، لأنَّ لبانورج سَمْتَه الإنساني وحضورَه الشاخصَ وطبيعتَه الصاخبَة وعريكتَه المتقلِّبةَ القابلةَ للتوافق والانسجام مع الحدث بغض النظر عن طبيعة العالم المحيط بهذا الحدث أو خصوصية الحدث نفسه. وجوابًا عن السؤال، إنَّ بانورج أقرب إلى الإبداع الكيخوتيّ والسانشويّ، فإن لم يوفَّق رابليه في جعل روايات “غارغانتوا وبانتاغرويل” سابقة في الوصول إلى مستوى رواية “دون كيخوته” فإن ما قدَّمه موضوعيًّا وفنيًّا وفي بناء شخصياته، لا سيما بانورج، يجعل منه لا يقل إبداعًا عن ثربانتس، لكن يبقى أنَّ شخصياته لم تكن جميعًا على ذات المستوى الإنساني الذي يتمتع به بانورج، والعملاقان يبقيان عملاقين خارجين عن طبيعة الواقع وإمكانياته، والحدث عند رابليه هو الأهم وليس الشخصية عمومًا، وهذا ما يخالف ما أقدم عليه ثربانتس في جعل الشخصية هي محور الرواية ومدارُ أحداثها، ليحرر دون كيخوته من قيود الحدث ويجعله أعلى مقامًا من الحدث لأن الحدث صار منبثقًا منه، وليس الغاية تمام الحدث بل استقلالية الشخصيّة داخل الرواية. ما دامت الشخصية تتميزُ بكينونتها ووجودها المحسوس فإن تمام الحدث أو نقصانه ليس معيارًا لتمام الرواية بل إنَّ المعيار هو تمام الشخصية وبناؤها الواقعيّ. ينصبُّ التركيز عندَ ثربانتس في بناءِ الشخصية ليتفرعَ منها الحدث، وهذا جليٌّ على مدى مغامرات دون كيخوته الذي يقوده جنونه أو مسُّه بشيطان كتب الفروسية الجوّالة إلى رؤية العالمِ كما أراد لا كما يوجد حقًا، وهذا يؤدي إلى تشكُّل الحدث الكيخوتيّ من الشخصية الكيخوتيّة وليس نزول الحدث الثربانتسيّ إلى الشخصيّة الكيخوتيّة. يتجسَّد بعضُ هذا لدى بانورج في الكتاب الثالث من سلسلة الروايات، والمسألة التي حرَّكت الرواية وشخصياتها والمتمثِّلة بـ هل يتزوجُ بانورج أو لا، مع إمكانية أن يصبحَ ديوثًا وخيانة زوجته؟ إنَّ السؤال المنبثق من شكوكيّة بانورج وتردده هو الذي يخلقُ الحدثَ ويبثُ الحركةَ في الشخصيات بيد أنَّ هذه الحركة تأخذُ طابعًا متكررًا متمثلًا في السؤال والجواب وفي ثباتِ تفسير بانورج للجواب الذي يراه تشجيعًا له للزواج وحظه الطيّب مع زوجته، ويراه البقيّة تأكيدًا لمخاوفه وفي أنه سيصبحُ ديوثًا لا محالة. يفقد الحدث مع هذا التكرار التلقائية التي تمتَّعت بها رواية ثربانتس، وتتحول الشخصيات إلى قوالب مفرَّغة مملوءة بالسائل الرابليهيّ المتمثِّل في الإجابة المتنوعة ذات الحمولة المتعددة الاتجاهات المعرفية والعلميّة، لتبدو أنها هي الغاية لا السؤال ولا الشخصيات ولا أحداثها. 

يمضي ثربانتس قدما نحو إبداع الصورة المتخيَّلة في قالب الواقعيّة المعبِّرة عن النقص الإنساني والقصور والزلل والخطأ وليس إبداع الصورة المثالية الطامحة نحو أمجاد عليَّة وأمثلة الواقع القاصر، وهو بهذا يفتحُ للرواية صفحتها الجديدة ويجعل من كيخوته رمزًا جديدًا، رمزٌ للإنسان الباحث عن معنى لحياته والراغبِ لتحقيق ذاته في دربٍ يشقُّه بنفسه، وإن كان هذا الإنسان عاجزٌ عن تقبُّل الواقع أو لا يقبله إلا برؤيته كما يشاء، فواقعه المقبول هو الواقع المتخيَّل. يعيش كيخوته روايةَ ذاته. فهل كان كيخوته مجنونًا، كما يذكر الراوي في النص صراحة وتقتنع بذلك الشخصيات؟  

دون كيخوته 

منذ أن انبثقَ دون كيخوته إلى الحياة وخرجَ على ظهر حصانه روثينانتي من بلدته لامانشا ليعيد إحياء أمجاد الفرسان الجوَّالةـ بدأ معها إثبات نفسه وإركازَ قدميه في قرطاس الأدب الإنساني، وليصبح واحدًا من أهم شخصياته على الإطلاق، لها تأثيرها ودورها وأسطورتها في الأدب واللغة والإنسان، وأن يحمل على كتفيه مُبدعَه ثربانتس نحو بانثيون عظامُ الكتَّاب في التاريخ. فدون كيخوته لا يقل عن أوديسيوس أو هاملت أو شهرزاد، وثربانتس لا يقل عن هومير أو شيكسبير أو كاتب ألف ليلة وليلة، فهذه الشخصيات تحمل مجدها في ذاتها وأفعالها وحياتها، وكان للزمنِ دورُه في ترسيخها في الأذهان والكتب لتتحول إلى أساطير أدبيّة يُشار لها بالبنان والتفرُّد. وبطلنا العبقري الشهم دون كيخوته شخصيّة سهلة الظاهر معقدة الباطن، لا يمكن الوقوف منها على موقف ثابتٍ أو زاوية نظرٍ واحدة، لا يمكن الحكم عليها بالجنون أو العقل، لا يمكننا أن نضحك عليها أو نَجِمُ، ولا يمكننا أن نبتهج لها أو نأسى عليها، ولا يمكننا التيقُّن من حالٍ واحدة تشملها. فحين نذهب لوصمه بالجنون يُبدي لنا رجاحةَ عقلٍ وفصاحةً وبلاغة. وسموًا إنسانيًا ورفعةً تُبدد عنه غيوم الجنون، وإذا ما ملِنا إلى حسبه عاقلًا بتمام العقلِ يمزِّق هذه الصورة بإصراره على تحويل المحال إلى حقيقة والخيالِ إلى واقع، ليصبح رأيُ الشخصيات التي عايشته أقرب في تشخيص مُصابه من غيرها التي لم تُعايشه بل تلقَّته بالقراءة فحسب. إنَّ دون كيخوته ذو بصيرة وراجح العقل في كلِّ شيء ما عدا موضوع الفروسيّة، وبحقيقة كونه رجلًا شيخًا عاديًا وليس بفارسٍ جوَّال. وإذا ما أسلمنا برأي من عايشه فهو عاقلٌ إلى حدٍ ما ومجنون إلى حدٍ ما، منزلةٌ بين منزلتين، ينتمي إلى كليهما ولا ينتمي إلى إحداهما دون الأخرى، فهو عاقل ومجنون أو عاقل بلوثة جنون أو عاقلٌ في عالمه ومجنونٌ في عالمنا. هكذا تتنوع احتمالات تشخيص حال كيخوته وتقييم مقدرته العقليّة في تقبُّل واقعه، فهو لا ينكرُه بقدر تغييره، وهو لا يغيُّره بقدر رؤيته على غير حقيقته، ولا يراه على غير حقيقته بقدر ما يُبدعه، ولا يُبدعه بقدر إنكاره. فيبقى دائرًا حول نفسه في العالمِ الذي يحيط به. لا يرفض دون كيخوته الواقع عن وعي به بل عن لا وعي، هو يعيش في عالمه الحقيقي رغم أنه متخيَّل، وهو كما يقول بورخيس “يموت إذا ما خرج من عالمه”. لا تكمن مأساة كيخوته في ذاته بل في تعامل الآخر معه، الآخر الذي يستغل لوثة عقله أو ذاك الذي يتعاطف معه. هو يمنحنا امتياز رؤية البؤس الإنساني في عرض هزلي، يُضحكنا ويثير مواساتنا له على حدٍ سواء. إنَّ العرضَ التراجيكوميدي هو لبُّ الرواية والرؤية الكيخوتيّة، ويصدق فيه قول مانويل دوران في كتابه Fighting Windmills “حُييتْ رواية سرفانتس في القرن السابع عشر بضحكة، وفي القرن الثامن عشر بابتسامة، وفي القرن التاسع عشر بدمعة”. ثمة طبقات متراكمة حول شخصيَّة دون كيخوته، فكلما جُرِّدتِ طبقة ظهرتْ طبقةٌ دونها، فلدينا دون كيخوته متعددُ المستويات، وأفعاله ذات مستويات متعددة، وكذا الحال مع مآلات أفعاله ورؤيتها وتحليلها، لكنها بذات الوقت متداخلة ولا يُمكن بسهولة فصلها عن بعض أو تحييد مستوى عن آخر. فما يضحكنا الآن يُحزننا بعدها ثم يُغضبنا ثم نصل إلى المعاداة أو يتجلَّى لنا الإنسان البريء، وقد تمتزجُ هذه المشاعر كلها في الحدث الواحد، لا يمكن الوثوق من انطباع يتوَّلد مع دون كيخوته فهو بذاته حائرٌ وغيرُ مستقرٍ وغيرُ واعٍ، فما يَنتجُ عنه يفرضُ توليدَ الحيرة والتغيُّر وعدمَ التثبُّت المنطقي في الوصول إلى نتيجة متشابهة بعد كلِّ قراءة أو عند كلِّ متلقٍ. 

تبدأ حياة دون كيخوته الحقيقية حين تصل به قراءاته في كتب الفروسية إلى اقتناعٍ كاملٍ بأنه مُعيد أمجاد الفروسيّة الجوَّالة، والذي يبعثُ بها من رُقادها لينصر الضعيف ويرد كيد الظالم ويندفعُ سائحا في البلاد حتى ينشرَ العدلَ ويُثبتَ بالحقِ شجاعتَه في مغامراته حتى يستحقَّ حبَّ سيدته ومولاته دولثينيا دو توبوسو. سيدةٌ لا توجد إلا في عقل كيخوته، لكن وجودها ضروريٌّ فلا تكتمل حياة الفارسِ الجوَّال بدون سيدةٍ تُلهمه الشجاعة في ساعة الضرورة، ولأجلها يحاربُ الأعداء ويهزم الأشرار. فهي الأخرى امرأة حاضرةٌ بغيابها، لا نعلمُ عنها شيئًا إلا ما يحدثنا به كيخوته، فهو وإن استطاعَ خلقَ عالمٍ منافٍ للواقعِ يعيشه ويتجوَّل في رحابه فقد استطاع أيضًا أن يجعل من دولثينيا كأنها شخصية حقيقية في حياته، وفي الرواية بطبيعة الحال. هكذا يبدع كيخوته كلَّ شيء بحاجة إليه حتى إن لم يكن موجودًا. يمتطي صهوة جواده الهزيل، الذي أسماه روثينانتي، فلا بد للفارسِ الجوَّال من جوادٍ كريم أصيل، وإن لم يكن هذا الجواد حاملًا لكل سمات الجودة والأصالة فهو كذلك في نظر كيخوته. روثينانتي مطية لكيخوته، مخلوق حاضرٌ على الدوام تحت فارسه حضورًا بهيميًّا يشاركه كلَّ مغامراته ليتحول إلى جزءٍ أصيلٍ كيخوته وأسطوريّ. تبرزُ هنا عظمة كيخوته وتأثيره في كلِّ ما يرتبطُ به، إنَّ الشيء الذي يمسه كيخوته يصيِّره خالدًا ومعروفًا، ولا تكمن قيمة هذه الأشياء إلا لأن كيخوته مبدعها، فهو يبدعُ كلَّ شيءٍ حتى ذاته. ولا يكتملُ العِقْدُ الكيخوتيُّ بدون حامل سلاحه سانشو بانثا، الذي هو الآخر عِمادٌ من أعمدة العالم الكيخوتيّ، فهو وإن لم يكن مجنونًا مثل سيِّده لكن ما يحمله من حمقٍ وطمع وعقله متأرجحٌ يُكملُ به الملهاة الكيخوتيّة ويُبرزُ المأساة بجلاءٍ، لا يمكن لمغامرات كيخوته أن تكتمل لولا سانشو فهو الذي يُظهر جنونَ كيخوته الفروسيّ وهو الذي يدافعُ عنه بأنه الحقيقةَ، لا يمكن التيقُّن من شهادة سانشو إذا ما تعلَّق الأمر بسيده، وإن أبدى عقلًا وإنكارًا لأفعال مولاه وكان متأكدًا في أحيانٍ كثيرة من جنونه، لأنه يستمر في رحلة الفروسية والعيش مع كيخوته. 

تتبادى لنا شخصية كيخوته بأنها متعددة في ذاتها وفي أنها متكاملة مع سواها، أيَّ أننا لا نرى كيخوته بدون دوليثينا حبيبته، وروثينانتي جواده، وسانشو بانثا حامل سلاحه، فمع أن هذا الثلاثي قائم بذاته، ودراسته على حدة واجبة، فإن كيخوته يجعل منهم أجزاءً تُكمله ولا يُرى إلا بصحبتهم. التساؤل هنا هل يُمكن أن يكون كيخوته على ما هو عليه لولاهم، ومن هو بحاجة إلى الآخر أكثر هل هم أو كيخوته؟  

إنَّ كيخوته وتوابعه كلٌّ متكامل ومُتعاشق، لكن يبقى الأصل هو كيخوته وهم زوائدُ تنبتُ منه، وتكون الصورة الكيخوتيّة المتعارف عليها هي الصورة المقبولة المترسِّخة في الخيال الإنساني عن هذا الفارس الجوَّال. وأرى أن كيخوته رغم كونه الأصل فهو بحاجة أكثر إلى توابعه، فهم وإن ارتبطوا به فليس بمقدوره أن يستغني عن سيدته المُلهمة وفرسه وحامل سلاحه. تُشكِّل هذه التركيبة الرباعية الأجزاء الصورة الكاملة، فلا يُعرف جزءٌ تماما إلا بالآخر. تفقدُ التوابعُ جوهرها وغرض وجودها إذا ما انفصلت عن كيخوته، وكيخوته بدونهم هو إنسان آخر، ربما هو ألونسو كيخانا الذي يعيش في لامانشا يستيقظُ صباحًا ليتناول الفطور مع ابنة أخته، ثم يصعد إلى غرفته ليقرأ عدة ساعات قبل أن يُسرجَ جواده خارجًا للتنزُّه في لامانشا ويلتقي ببعض المزارعين والقسيس مُلقيًا التحية على هؤلاء، قد يكون من بينهم سانشو، ومتجاذبًا أطراف الحديث مع ذاك، ثم يعرِّج على الكنيسة قبل العودة إلى بيته، في حياة طبيعية لم يحرفها عن مسارها المعقول هوس الفرسان الجوَّالة. 

*

يتراءى لي أن دون كيخوته تجسيد للمأساة الإنسانية أكثر من الملهاة، ففي الأخير نحن في حضرة إنسان من لحم ودم ومشاعر وأفكار قد مالت بوصلته النفسيّة وانحدرت غائصة في الأوهام. دون كيخوته إنسان مريضٌ بلوثة عقلية اسمها الفرسان الجوَّالة، فما المضحك في هذا؟ أهو الوهم الذي يطارده وينزعه من العيش في حياة طبيعية، أم ما يُوقعه في نفسه من آلام ومواقف عصيبة ومحرجة ومحزنة بسبب جنون الفرسان، أم استخفاف الناس به حين يعرفون أن عقله ليس في رأسه ويصبحُ مادةً للتندُّر والسخرية، لا سيما حين يتماهون معه، أم في استغلال سانشو له في الكذب عليه وزيادة الطين بلَّة بخداعه وتأكيد أوهامه المجنونة غير القابلة للتحقق، أم في جعل نفسه عُرضةً للموت والنهاية المؤسفة كما حدث له حين أجبرَ السائس أن يفتح بوابة قفص الأسد، الذي لحسن الحظ لم يجد رغبةً في الهجوم عليه، وهنا لا بد من القول هل كان حتى الأسد يستخفُّ به أو بعبارة أخرى هل حتى الحيوان يضحك ويسخر من دون كيخوته، أم فيما فعله الدوق والدوقة بمقالبهما بكيخوته. الأمثلة التي يوردها النصُّ كثيرةً في جعل كيخوته تجسيدًا ومثالًا للمأساة الإنسانية، ومدعاةً للشفقة والأسى، لكن كيخوته هو الآخر مجنون لا يُرجى برءُه، ولا علاج لهذه المأساة إلا بإيقافها إما بموت كيخوته، وهذا ما يكون في الأخير، وإما في إيداعه مشفًى للمجانين، وهذا ما لم يحدث. 

ينطلق دون كيخوته في مسعى المثالية ومصادمة الواقع نحو قيم عليا سامية يحاول تنفيذها وتحويلها إلى حقيقة في عالمه المتخيّل، وهذا ما أدى إلى نتائج كارثية في معظم الأحيان التي دخل فيها كيخوته، فضلا عن أن تدخّله في الغالب خاطئ وما من ضرورة له. يطمح كيخوته إلى غير الموجود في عالمه غير الموجود في درب الأوهام. لا يعي كيخوته ذلك وما من حلِّ لجنون الفروسية الجوالة هذا. فأين يكون موقفنا من هذه الكيخوتيّة الساعية وراء المثالية الواهمة واللا معقولة، كم من كيخوته يعيش وسطنا؟ هل يوجد في داخلِ كلٍّ منا كيخوته وكيف نتعامل معها؟ الكبحُ والمصارحة بدون تردد، فالانسياق وراء الأوهام هو تكرار لحياة كيخوته حيث أصبحَ محطًّا للسخرية والتندر والضحك والهزء، وقبل كلِّ شيء عدم الاحترام وإن لم يكن بجلاء لكنه المحرِّك الخفي لكل ما تعرَّض كيخوته في عالمه. تكمن الكيخوتيّة في داخلنا لكنها لا بد أن تبقى مكبوتة وراقدة وخاملة لا تُحرر ولا تُوقظ ولا تُنشَّط لأن النتيجة هي فقداننا لهُويتنا الحقيقية وتحولنا إلى مَسخرةٍ في أعين الآخرين. لا يوجد عاقلٌ يطمحُ إلى هكذا مقامٍ رفيعٍ! الكيخوتيَّة مرضٌ أكثر منها صفة سلوكيّة، وهي بحاجة إلى العلاج لا التمادي مع أصحابها لأجل الضحك.    

سانشو بانثا 

“إن سانشو بانثا واحد من أطرف الخدم الذين حملوا دروع الفرسان الجوالين، حتى إنه في بعض الأحيان يقعُ في سذاجاتٍ بالغةِ الذكاء، حتى إن التفكير في هل هو ساذج أو ذكي؟ يوقع الإنسان في عدم الرضا، وبه من الخبث ما يصنفه بين الأشرار، ومن الإهمال ما يضعه بين البُلُه، يشك في كل شيء، ويعتقد في كل شيء، وعندما أظن أنه متفرغٌ للبلاهة يخرجُ بأكثر الأفكار فطنة حتى ترفعه للسماء”. 

هكذا وصفَ دون كيخوته العمودَ الثاني في رواية ثربانتس، وهو وصفٌ دقيقٌ يختصرُ الكثير من الكلام، ومن هو أجدرُ بوصفِ سانشو من سيده كيخوته. راحتْ بعضُ القراءات لرؤية سانشو على إنه إحدى تجلياتِ كيخوته وصورةً من صوره، وهي قراءة حقيقةٌ بالاعتبار والنظر. إنَّ سانشو بانثا شخصيةٌ ذات بعدٍ إنساني وعمقٌ جوانيّ يتجلَّى في سلوكياته وتصرفاته وحماقاته وذكائه اليسير حين تستدعيه الحاجة وتضطرُّه إلى استخدامه. فهو ليس بالنقي الصالح ولا الخبيث الطالح، ويمكن تقريب حالته الأخلاقية والنفسيّة هذه بحالة سيِّده دون كيخوته العقلية إذا ما ارتبطَ الأمر بالفروسيّة الجوّالة. لسانشو مطامحه الحياتية ومطامعه الشخصية، هو يسعى أيضًا خلفَ أحلامِه مطاردًا رغباته التي يتوقع أنها ستتحقق على يدِ دون كيخوته، مع علمه أنَّ هذا السيد مسلوبُ العقل يعيش في سرابِ أوهامه. سانشو هنا حلقة أخرى من حلقات التعقيد الإنسانيّ الذي يُطرحُ في رواية كيخوته، فما الذي يدفعه هو الآخر إلى اقتفاء أثر مولاه والتماهي معه في جنونه وترهاته، تاركًا خلفه زوجته وابنته وابنه؟ يُبيِّن لنا الراوي أنَّ ما يدفع سانشو لهذا هو طمعه بوعد مولاه بجزيرة يحكمها إذا ما تكلَّلت مغامراته بالنصر المبين وتحقيق المراد. لا يبدو هذا السبب كفيلًا لسانشو، وإنَّ خفَّ عقلُه وخالطه الحمقُ ليتركَ كلَّ شيء ويمضي في دربه وراء مجنون إن لم يكن هو الآخر في عقله لوثة لكنها لوثةٌ أقلُّ ضررًا من لوثةِ مولاه، وهذا ما نراه في كثيرٍ من المواقف والأحداث حيث نجد سانشو هو الآخر يصدِّقُ إلى حدٍ ما دون كيخوته وجنونه، ويتمادى في ذلك كأنه هو الآخر مجنون مثله. سرعان ما يثبُ سانشو إلى عقله ويبدد غيومُ الأوهام التي يبعثها كيخوته في عقله. يبقى هذا السبب استقراءٌ لوقائع النص وسلوكيات سانشو وسماته الظاهرية، لكن ألا يُمكن أن يكون لسانشو سببٌ خفيٌّ لهذا الخروج، رغبةٌ بالانعتاقِ من حياته، وتجربة الجديد، والجولان في الأرض في مغامرات. يتراءى لي هذا السببُ مُقنعا أكثر من سواه، سانشو بانثو أكثرُ حيازةً لعقله في مولاه، وإن خالطه الحمقُ والبَلَه، ومُدركٌ لحقيقةِ هذا العالم، وأنَّ كلَّ ما يراه كيخوته غير حقيقيّ، لكنه ينطلقُ نحو المجهول، إنَّه النداء الذي يُخرجُ المرء من حياته وراءَ ما لا يعلمَ عسى أن يجد بعضَ ما يطمحُ إليه أو يطمع بالحصول عليه. يمضي سانشو طارقًا دربَ الكيخوتيّة ويتَّحدُ معها ولا يمكنه بعد بلوغه مرحلةً من هذا المسير أن ينفكَّ عن كيخوته مولاه ولا عن حياته الجديدة، الحياة التي اختارها بنفسه حاملًا للدروع ومشاركًا في المغامرات الواهمة، لا الحياة التي وجد نفسه مرغمًا عليها وناشئًا وسطها. ساعدَ سانشو على الانغماس في عالم الكيخوتيّة هو ما جناه من هذه الرفقة والمغامرات سواءً بالحظوة التي تلقاها، وإن كانت قليلة، بفضلِ كيخوته أو تصديق الناسِ لجنون مولاه. صحيحٌ أنه كان في أغلبِ الأحيان عارفٌ أو متآمر مع الآخر على جنون مولاه أو حتى مستغلًا له في وقائع، كما حدث حين خدعه بسحرِ دولثينيا وتحولها إلى قرويّة حتى يُخرجَ نفسه من ورطة البحث عنها وتبليغِها كلماتِ دون كيخوته، فارسها الشهم. يتقلبُ سانشو في هذه الأحوال وسرعان ما يصبحُ مستقلًا بذاته داخلَ عالم ثربانتس لكنه في الوقت نفسه جزءٌ لا يتجزأ من كيخوته، لأن سانشو هو عينُ كيخوته العقلية الخارجيّة. يرى كيخوته ما لا يراه سانشو ويرى سانشو ما لا يراه كيخوته، فأحدهما يرى الخيالَ والآخرُ الواقعَ، وما كان لكيخوته أن يمضي في دربه قُدمًا لولا سانشو الذي كان صوتَ الحقيقة والحبلُ الذي يشدُّ كيخوته إلى الواقع. فإذا ما كان كيخوته هو الوهم والخيال فإن سانشو هو الحقيقة والواقع، وإذا ما سعى كيخوته إلى المجهول وتجاوزَ حدودَ العقل والمقبول فإن سانشو من يُعيده إلى المعروف ويرسنُه برَسَن العقل، ولا يتحقق هذا لسانشو بالمعارضة أو محاولة تعديل مسار مولاه بل تماشيه مع هذا الحال ومضيّه لكن دون فقدان العقل أو الانجرار المنغمس في الخيال. فإذا ما غطس كيخوته بالكامل في عالمه بقي صوتُ سانشو الذي يهديه سبيلَ الخروج، أيّ أن سانشو يعيش في عالمين على إدراكٍ منه ومعرفة؛ عالمُ كيخوته الجنونيّ وعالم الحقيقة، فهو تارةٌ يكون الوصلة ما بين العالمين، وتارةٌ يكون ترجمانَ كيخوته مع الآخر، وتارةٌ جرَّاء الحالين السابقين يكون ضحيّة المقالب التي وقعَ بها مولاه، ولخفة عقله وحماقته لا يجد الآخرون مشقَّة في جعله أضحوكة ومحطًا للمقالب، كما حدثَ حين أصبحَ الحاكم ولاية منحها إياه الدوق والدوقة.   

يقعُ على عاتقِ سانشو في العمل حِملٌ كبير من الهزليّة في النص واستمرار الضحكِ، يزيدها بطرافة صفاته ما بين الجُبنِ والطمعِ والحمقِ وأسلوب حديثه الذي يحشيه بأمثال لا تنتهي، كثيرًا ما جعلت سيده يغتاظُ منه، والنهم للطعام، أو بسماته الخَلْقيّة من قصرٍ وبدانة وارتباطٍ حميميّ مع حماره الذي شاركه حلَّه وترحلاه مع سيده الفارس الجوَّال. لا يُعدمُ سانشو الذكاء لكنه ليس بالحصن الحصين، ذكاءٌ سهلُ الاختراق، تجعل منه أضحوكة للآخر الذي عايشه أو القارئ، ويبلغُ سانشو هو الآخر مرحلة يتحوَّل فيها إلى مأساةٍ إنسانيّة إذ يُمثِّل في تصرفاته وسجيَّته إجمالًا الإنسانَ الطيَّبَ القلبِ ذا السلوكِ الحميدة، فيرضخُ عن غفلة منه لما يقع عليه من مساوئ. نرى هذا جليًّا عندما خُدعَ بحكومة جزيرةِ باراتاريا، فالفصول العارضة لحاله أيامَ حكومته تكشفُ لنا عن امتهانٍ ذاتِه من الدوقِ والدوقة وعُمّالهما، ولا يعدو قدرَ كونِه محطَّ تسليّة وسخرية ومصدرَ ضحكٍ وابتهاجٍ للآخر الذي أدركَ سذاجته وخفَّة عقله. 

لا يعني تسليطُ الضوءِ على أخلاقياتِ التعامل مع كيخوته وسانشو أننا نغفل عن حقيقة أنَّ الرواية ساخرةٍ من روايات الفرسان وحيواتهم وأساليب عيشهم، ولا أنها نقدٌ اجتماعي وديني وسياسي في قالبٍ مُضحك، ونقول عند الضحك ما لا نستطيع قوله عند غيره، لكننا نحاول قراءة العمل واستقراءه من كلِّ الجهات الممكنة والزوايا، وتقليب الحدث من الأعلى والأسفل واليمين والشمال، حتى يتجلّى لنا بكل أبعاده الإنسانية والأدبية والتاريخيّة وغاياته التي أُلِّفَ لأجلها.   

يبقى سانشو بانثا التؤام لكيخوته والرفيق الملازم، وهي ثنائية قلَّ نظيرها في عالم الأدب. لا يكمن السببُ فحسب في أنهما شخصيتان لهما عمقهما الإنساني، وأبعادهما الأدبيّة، وفي كون كلِّ شخصية عالمٌ قائمٌ بذاته يكفي لأن يكون بطلَ روايةٍ، بل وفي أنهما يتداخلان إلى الحدِ الذي جعل تلازمهما ضرورةً حتميّة فلا يكاد يُذكر الأول دون الآخر ولا أن يُعرَّف الصاحبُ بدون صاحبه. فإذا ما ذُكرَ كيخوته بزغتِ في الذهن صورة سانشو، وإذا ما قيل سانشو تحتَّم التعريجُ على كيخوته. نجد أنفسنا عند حالةٍ فريدة من نوعها في الأدب الإنساني ليس لها شبيهٌ إلا في أمثلة قليلة مثل روميو وجوليت أو شهرزاد وشهريار أو غارغانتوا وبانتاغرويل، لكنهما يُبزَّان نُظرائهما من الثنائيات الأخرى في كونهما يُكمل بعضهما الآخر على نحوٍ يكادان يُصبحان فيه الشخص نفسه، ومع ذلك فثمة فيصل يحفظُ لكلِّ شخصيتها قوامها وعالمها. نُبصر تميُّزَ هذه الثنائية في نمط حياتهما الواحد وعدم تعارضِ التوجُّهات إلى حدٍ ما، فهما في معظم الأحيان كالجسدِ وظلِّه وهذا يفرضُ عليهما التقارب وحاجة أحدهما إلى الآخر، وكما رأينا فإن سانشو من توابعِ كيخوته التي يُعرفُ الأخير بها، وكيخوته لا يُمكن أن ينفكَّ عن حاملِ سلاحه سانشو، فما انبثاقه إلى هذا العالم إلا ليُحيي أمجاد الفروسيّة الجوَّالة ولا يوجد فارسٌ جوَّال بلا حامل سلاح، لذا فما من دون كيخوته بلا سانشو بانثا. 

يقول دون أنتونيو، بعد أن سمع بهزيمة كيخوته أمام فارس القمر الأبيض وإخضاعه لشرطه بعودة كيخوته إلى قريته لامانشا مدةَ عامٍ كاملٍ لا يُمارس فيها الفروسيّة الجوَّالة، متأسفًا على ما جرى “… فإني أقول لك إن دون كيخوته لن يُشفى أبدًا، لأنه ليس فقط بصحته سوف يفقد ملاحته وظرفه، بل ملاحة وظرف سانشو بانثا خادمه، فإن كلَّ أملوحة له قادرة على إبهاج الحزنِ نفسه”. 

 

ثربانتس وفن الرواية 

لأجلي وحدي ولد دون كيخوته ولأجله ولدت، له قوة العمل ولي قوة الكتابة. دون كيخوته II

ما كان بحسبان ثربانتس التوَّجهُ نحو ممارسة الكتابة والترزُّقُ منها إلا بعد أن ألفى نفسه مرغمًا على ذلك بعد سنواتِ الجنديّة والقتال في معاركَ كثيرة، أبرزها معركة ليبانتو البحريّة في عام 1571 ما بين الأسطول البحريّ الإسباني والأسطول العثماني. انتهت هذه المعركة التي شارك بها ثربانتس رفقه أخيه بانتصار الإسبان وخروج ثربانتس بإصابة بيده اليسرى، منعته استخدامها لكنها أضحت مفخرته وشرفه الجليّ للعيان، وما حبَّذ أن يخرجَ حيًا من المعركة دون هذه الإصابة. حين خرجَ الجزءُ الثاني المزيَّف من كتابه الشهير لكاتبٍ أراجونيّ مغموز، واضطَّره إلى التعجيل بإنهاء تكملة مغامرات دون كيخوته التي صدرت في الكتاب الثاني عام 1615، أساء له المؤلفُ الدعيُّ وعيَّره بيده واصفًا إياه بالعجوز العاجز اليد، مما أثار حفيظة ثربانتس بل بدا أنَّه متأثرٌ بذلك أكثر من تزييف كتابه. فردَّ فخورًا بجراحِ يده في مقدمة الكتاب الثاني “وإذا لم تُشرق جروحي في أعين من ينظرون إليها، فعلى الأقل يُقدِّرها من يعرفون أين أصبت بها، والجندي الذي ينجو بالهرب ميت وإن عاش… والجروح التي يُظهرها الجندي في الوجه والصدر نجومًا تهدي إلى سماء الشرف والتشوِّف للثناء المستحق، وينبغي العلم أيضًا بأنهم لا يكتبون بشعراتهم البيضاء وإنما بألمعيتهم التي اعتادت النمو والتحسُّن بمرور السنين”.

بيد أنَّ الجنديّة والمعارك لم تكن المحطة البارزة الوحيدة في حياة ثربانتس فقد أُسرَ بعد عودته من إيطاليا في عام 1575 على أيد القراصنة البرابرة وبيع مع أخيه عبيدًا في الجزائر العثمانيّة، وبقي هناك خمسة أعوام قبل أن تُدفعَ فديته ويُحرر عائدًا إلى إسبانيا. ضمَّت رواية دون كيخوته بين دفتيها قصصًا ثانوية من أهمها قصة الأسير الذي كان في الجزائر. 

ولُدَ ثربانتس في عام 1547، إبَّان العصر الذهبي الإسباني الذي شهدَ ازدهارًا معرفيًا وفنيًا وثرواتٍ جديدة قادمة من العالم الجديد (الأمريكتين)، لكن هذا العصر شهد بتقدُّم ثربانتس بالسنّ بداية الأفول الذي عُلِّم بهزيمة الأرمادا الإسبانية في عام 1588 على يد الأسطول الإنجليزي. وشهد العقد التاسع من القرن السادس عشر بداية مشوار ثربانتس الأدبي فنشرَ المسرحية التراجيدية “نومانسيا Numantia” في عام 1582، وهي عن حصار الرومان لمدينة نوماسيا في عام 133 ق. م. ثم نشر بعدها بثلاثة أعوام روايته الرعوية “لا غالاتيا La Galatea” في عام 1585، وهي عن الصديقين الراعيين، إيليثو وإيراستو، اللذين يقعان بغرام الحسناء الفتيّة غالاتيا. طمحَ ثربانتس بفضلِ الكتابة أن يعيل عائلته لكن هذا ما لم يتحقق عبر الكتابة فسافر إلى جنوب البلاد وساحَ فيها عاملا في جباية الضرائب، وأدّى نقص الحسابات إلى حبسه في إشبيلية أكثر من مرة. وقيل إن خيوط دون كيخوته الأولى قد بزغت في ذهنه داخل السجن. استمرَّ ثربانتس بالكتابة خلال هذه السنوات، وإن لم يحظَ بالشهرة أو التكريم أو حتى المال الكافي منها، فعمل في سني 1590-1612 على كتابه “روايات مثالية” وصدرت في عام 1613، ثم في عام 1614 نشر “رحلة إلى بارناسوس”. وكان قد نشر الجزء الأول من رواية دون كيخوته في عام 1605، قبل أن يصدرَ الجزء الثاني عام 1616 قبيل وفاته. ثم نُشرت بعد وفاته بسنة روايته الأخيرة “بريسيليس وسيسموندا”. لم يشهد ثربانتس رؤية العظمة التي حظي بها بفضل روايته دون كيخوته التي حملته على كفوف المجدِ نحو الأعالى بعد وفاته.  

تتربعُ رواية دون كيخوته على قائمة أفضلِ أعماله، بل هي تحفته الأدبية الخالدة. لا يقتصر أهمية هذا العمل على جانبه الموضوعيّ المتمثل في شخصية دون كيخوته، وجنون بالفروسيّة الجوَّالة، ونقد كتب الفروسية، وتصوير عصره، وطيف من المواضيع الأخرى، فإبداع ثربانتس تجلّى في البراعة الفنيّة والسرديّة في الرواية بتعدد المستويات السرديّة وتعدد المؤلفين وتعليقاتهم على النص، ووعي الشخصيات بدروها في الكتاب، والنقد الداخلي للكتاب نفسه، والتداخل بين العوالم السرديّة المتخيَّلة والحقيقيّة “المفترضة”، وحيلة نسبة الكتاب إلى مؤلفٍ آخر وما يربطِ المؤلف الأول بالمؤلف الثاني هو المترجم، إضافة إلى إدراج الجزء الثاني المزَّيف إلى متن الكتاب الثاني الحقيقي ومعرفة الشخصيات بذلك، وبما حواه الجزء المزيَّف من أكاذيب فقرَّر كيخوته على سبيل المثال إثبات كذب الكتاب بفعل ما ينافي ما ذكره. يدخل القارئ حلقاتٍ متعشِّقة ببعض وعوالمَ لا تنفكُّ عن بعضها وتضيع الحدود عليه بين الواقع والخيال، مع سماعِ أكثر من صوتٍ راوٍ في النص ما بين صوت المؤلف الأول أو المترجم أو المؤلف الثاني ثم صوت الشخصيات التي تأخذ في بعض الفصول دور الراوي لحكاياتها الشخصيّة.  

تبدأ هذه البراعة الفنية بما يرويه ثربانتس عن عثوره على كراسات قديمة عند صبي بائع مكتوبة بلغة عربية لا يعرفها، فبحث عن مترجم عربيّ متنصِّر ليذكر له ما موجود فيها، وعرفَ أنها أخبار دون كيخوته لصاحبها المؤرخ العربي سيدي حامد بن الأيلي، فيطلب من العربي أن يترجمها إلى الإسبانية على ينقده أجرة الترجمة، وهذا ما تمَّ له.

يُدركُ القارئ عن قراءته هذا الفصل أن قصة دون كيخوته هي تأريخ حقيقيّ سعى المؤرخ سيدي حامد بن الأيلي أن يجمع شتاتها من تواريخ وأرشيفات لامانشا، قبل أن يُدوِّنها في هذا الكتاب عن الفارس الشهير دون كيخوته. ويُدركُ أيضًا دور المترجم العربي في نقل النص من العربيّة إلى الإسبانيّة، ثم دور المؤلف الثاني “ثربانتس كما هو مفترض”، وهو الكاتب الثالث،  في هذا الكتاب الجديد عن دون كيخوته. تعلو أصوات الكتَّاب الثلاثة في هذا النص، بل ولا نُعدم تعليقاتهم على الأحداث سواء بالتحليلِ، أو تبيان مواضع الخلل، أو حتى نقد داخلي للرواية لا سيما حول الأخطاء الواردة في الكتاب الأول، والقصص الداخلية الطويلة من الشخصيات، كما فعل المترجم حين رأى أن أحد الفصول مختلق لأن ما يُذكر يتجاوز مقدرة سانشو. هكذا نجد أنَّ النصَّ خضعَ لسلطة ثلاثة مؤلفين الأول سيدي حامد، والثاني المترجم العربي، والثالث ثربانتس “المفترض أو المتخيَّل”، ولكل منهم حضوره، لكن تبقى سلطة المؤلف الثالث هي العليا فنحن لم نقرأ الأصل العربي ولا الترجمة لكننا قرأنا ما ذكره ودوَّنه المؤلف الثالث الذي له القرار الأخير فيما يُثبتُ في النص أو يحذف. 

قاد التعدد في المستويات السردية والأزمنة إلى تلاعبٍ لا يمكن رتقُ فَتْقِه، فسيدي حامد من المفترض أنَّه عاش في زمنٍ لاحق لزمن كيخوته أو قريب منه نظرًا لأنه كان يبحث في تواريخ وأراشيف لامانشا عن قصصه، ثم نشرَ كتابه الذي عثرَ عليه المؤلف الثاني، وهذا يفرضُ أنَّ كتاب دون كيخوته نُشرَ بعد وفاة كيخوته وغروب شمس حياته كما تبين نهاية الكتاب الأول. لكن هذا ما لا يكون عند نشر الكتاب الثاني إذ يعرف دون كيخوته بنشر الكتاب الأول الذي يحكي مغامراته مع سانشو بانثا، وتعرف ذلك الشخصيات الأخرى التي قرأت الكتاب الأول الذي أذاعَ صيتَ كيخوته، ويصلُ التداخلُ والتلاعبُ بين العوالم إلى ذروته حين تعلمُ الشخصيات في الكتاب الثاني بدور المؤلف الثاني والمترجم في نقل كتاب كيخوته إلى الإسبانية ووصف المؤلف الثاني “ثربانتس” بالفضولي، وهذا يعني أنَّ زمنَ كيخوته وسيدي حامد وزمنَ المؤلف الثاني والمترجم هو زمن واحدٌ وهذا ما لا يمكن فهمه وفقًا لمعطيات بناء النص. بيد أنها في الآن نفسه تمنحنا هذه القاعة من المرائي المتقابلة التي تُعكس الصورةُ في أكثر من اتجَّاه. لا يتوقف هذا العالم الثربانتسيّ عند هذا الحد، فنشر جزءُ ثانٍ مزيَّف، يُكمل مغامرات كيخوته في الكتاب الأول، يصلُ إلى مسامعِ كيخوته فاغتاظَ لما فيه من إساءات وأكاذيب، بل وقرَّر تغيير مساره إلى سرقسطة والتوجُّه إلى برشلونة بعد أن علم بأن الجزء الثاني المزيَّف تحدث عن رحلته إلى سرقسطة فأراد تكذيبه، ولم يقبل الاطلاعَ عليه حتى لا يعلم المؤلف المزيَّف بأن كيخوته قد قرأ العمل ويمنحه ما يتفاخر به. ولما علمت الشخصيات أنَّ المؤلف الأول عربي مسلم شكَّكوا في مصداقيته ولا يمكنهم ان ينتظروا منه أيَّ حقائق. وهكذا نحسبُ أنَّ الشخصيات مُدركةٌ أنها قد تحولت إلى شخصيات خيالية تقوم بأعمالٍ ومغامراتٍ وتقول أشياء قد لا تكون صادقة أو تعبِّر عن سماتها الحقيقيّة سواء ما ثَبُتَ مع تعليقاتهم الناقدة والرافضة لما جاء في الجزء المزيَّف أو ما لم يثبُت على ما وردَ في الجزء الثاني الحقيقيّ.   

*

يقول ثربانتس في مقدمة كتابه قصص مثالية: “لا أبالغ إن قلت إنني أول من كتب قصصًا باللغة الإسبانية”. وإن كان مقصدُ ثربانتس هنا القصص لا الروايات كما في دون كيخوته أو لا غالاتيا أو بريسيليس وسيسموندا، فإنَّ بعض الدارسين يحملون هذا القول على جميع إنتاجه القصصيّ والروائيّ. لا يُبيّن لنا هذا القول إدراكَ ثربانتس بفن القصَّة (بما فيها الرواية كذلك) وفنيَّاتها وأساليبها وكتابات عصره والترجمات المنشورة فحسب، بل ويقينه من إتقانه لهذا الفن وضلاعته منه وقدرته على إبداع الجديد والفريد متمثلًّا بدون كيخوته. لذا فإن الحداثة الروائية الأوروبيّة التي افتُتِحت مع دون كيخوته هي حداثة كاملة الشكل والمضمون وغير مقتصرة على جانبٍ دون سواه، وإنْ انقطعت بعد عصره ولم تُعد إلى الواجهة إلا في القرن العشرين فإن ما قدَّمه ثربانتس في دون كيخوته لم يكن ضربةَ حظٍ ولا إنتاجَ صدفة فلا يُمكن للصدفة أن توِّلد كل هذه البراعة الفنيّة وإن شابها ما شابها لكنها تبقى جديرة بالاستقراء والدرس. 

     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى