الحرب والسلم – تولستوي
رواية الحرب والسلم لتولستوي واحدة من روائع الأدب الروسي ومن أبرز أعماله إن لم تكن تحفته الأدبية الخالدة، ولا عجب في تسميتها إلياذة العصر الحديث، في هذا المقال سأعمل على ذكر نقاط مهمة عن هذا العمل المترجم والمنشور في أربعة مجلدات.
الرواية
تنقسم رواية الحرب والسلم إلى نصفين:
النصف الأول: تدور أحداثها حول غزو نابليون لأوروبا ومعاركه فيها وبصورة خاصة يتحدث تولستوي عن معركة أوسترليتز، وهي المعركة التي خاضتها الإمبراطورية الروسية متحالفة مع إمبراطورية النمسا ضد نابليون والجيش الفرنسي وتنتهي بانتصار نابليون على خصومه. تؤرخ هذه الرواية في نصفها الأول، بداية العقد الأول من القرن التاسع عشر، ما بين حياة المجتمع الراقي الروسي وحياة الحرب والعسكر، فتدور رحى الصفحات ما بين الوسطين متناقلة مرة هنا ومرة هناك، مصورة الجانبين بكل دقة، وشمولية حتى لا يكاد تغيب عن تولستوي شاردة أو واردة فيذكرها، وتبرز قيمة تولستوي الأدبية في عرضه وتمكنه من المادة المروية، فهو يتحدث بلسان القارئ للتاريخ والناقد له، بلسان الأمير والجندي والضابط، المرأة والفتاة، فتتنوع الشخصيات وتتنوع الموضوعات، فيشعر القارئ بسيطرته المتناهية على شخصياته وحواراتهم، وسرده لكل الأحداث سرد الحكي غير المتجانس، مما أعطاه حرية أكبر في التنقل والعرض.
النصف الثاني: وهو مرحلة ما بعد حرب أوسترليتز والحال التي آل إليها المجتمع الروسي الراقي وشخصياته بعد الحرب، ثم غزو نابليون لروسيا واحتلال موسكو بعد أن صُدَّ في معركة بورودينو، هذه المرحلة الحرجة جدا في تاريخ روسيا الحديث والتي تُسمى الحرب الوطنية الأولى، في عام ١٨١٢م، شهدت هجرة القرى القريبة من موسكو التي احتلها نابليون وجيشه، وكان قد هجرها أهلها أيضا. تصور الرواية كيف كانت الحياة بعد الهجران وكيف تعامل الناس مع هذا الأمر، ثم حركة المقاومة، والتي انتهت بانسحاب نابليون وجيشه وتكبدهم خسائر فادحة. لا يمكن القول إن النصف الثاني مشابه للأول إلا في تشابه خط التسلسلي للرواية هيكليا، ما بين حياة السلم والحرب، لكن المحتوى بكل مواضيعه وأحداثه الداخلية كان قائما بكيانه الخاص، وبشخصياته وحياتهم، مُنتجا لنا رواية ليست ككل رواية، بل حدثًا فارقا ليس في أساليبه الروائية الفنية، وميزتها أنها كتاب تأريخ ورواية في ذات الوقت، ليخرج القارئ بعدها برواية ومعرفة تاريخية وفلسفة تولستوية شهدتها الخاتمة وتشبعت بها الصفحات والأسطر في قراءة التاريخ قراءة مستفيضة واستدراكية.
*
بعيدا عن حجم الرواية الكبير، فهي ليست رواية فقط، فيركز تولستوي كثيرا على محاولة فهم التاريخ وقراءته بصورة تجعله قادرا على نقد التاريخ وعرض تناقضات المؤرخين فهو يروي الحدث ويؤرخه ويفككه إلى قطع صغيرة مستعينا بكلام المؤرخين من كلا الجانبين، ويضيف بعدها نظرته وفلسفته في فهم التاريخ. وفي ختام الرواية يُخصص تولستوي اثنتي عشرة مقالة، في السلطة والحرية والقانون والضرورة، طارحا ومجيبا عن أسئلة متعددة منها ما السلطة؟ ما التاريخ؟ الحرية الإنسانية والضرورة؟ وبإمكاني القول إنها نهاية فلسفية يقوم من خلالها تولستوي على طرح كل ما أراده وشغل باله أثناء كتابة الرواية دون العمل على إدراج هذه المقالات إلى جسد روايته، لأنه أراد أن يخلع ثوب الروائي ويلبس ثوب الفيلسوف، فيلسوف التاريخ والسياسة.
*
تولستوي
تكمن عبقرية تولستوي في هذه الرواية بقدرته العجيبة على بناء شخصياته داخل الجسد الروائي، وإدراجهم في الأحداث، بصورة متناغمة ومتناسقة، في أغلب الأعمال الروائية يعمل الروائي على بناء شخصياته كلًا على حدة وتكون أعداد هذه الشخصيات قليلة، لكن مع تولستوي الأمر مختلف تماما، فسير الرواية بخطي السلم داخل أقبية المجتمع الروسي، والخط الحربي المتمثل بمواجهة الروس والأوروبيين ضد جيوش نابليون؛ وفي هاتين البيئتين هناك العشرات من الشخصيات، والتي قد يظن القارئ أن هناك عدة رواة متكفل كل منهم بجزء معين، لكن عبقرية تولستوي وقدرته كانت كافية لأداء المهمة على أتم وجه وبسهولة كبيرة دون أن تدري كيف. إقحام أي شخصية في الحدث تأتي بصورة مباشرة، ويكون النداء لحضورها هو كتابة اسمها فقط. كثرة الشخصيات لم تكن صعبة على إدراك القارئ ليفهم كل شخصية على حدة بكل صفاتها التي يعرضها تولستوي، فتتنوع الشخصيات ما بين الخيّرة والشريرة، ولا يقتصر عمل تولستوي على بناء شخصيات خيالية كذلك بل كذلك في تكوين وإدراج شخصيات حقيقية، حتى تكون جزءا من أبطاله، فهو يستعين بها ليدعم الخط التأريخي الذي انتهجه في تأريخ الحقبة التي تدور فيها الأحداث، إن قراءة شخصية حقيقية وإدراجها داخل العمل الروائي تحتاج إلى دراسة متعمقة ودقيقة وقراءة لحياة هذه الشخصيات حتى يقف على جميع صفاتها ومميزاتها وليصنع نسخة تكون إنموذجا فعليا وصادقا في روايته وهنا يبرز دوره قارئا للتاريخ ومؤرخا له.
تولستوي ومهمة التأريخ في الحرب والسلم
بما أن الحرب والسلم لم تكن مجرد رواية تاريخية، بل وتؤرخ مرحلة زمنية قُرابة عقد من الزمن (١٨٠٤-١٨١٢)، فكانت مهمة تولستوي التأريخية لا تقل أهمية من بناء رواية تامة التفاصيل ومتشعبة الأركان والزوايا، فحس المؤرخ لديه، ومعايشته لمدة زمنية لا تبعد كثيرا عن زمن روايته، أعطته الإمكانية والرؤيا التي سمحت له بصياغة التاريخ الروسي في العقد الأول من القرن التاسع عشر، بأسلوب يتناسب مع العمل الروائي وبذات الوقت لا يخرج من منظور الأدب إلى كتاب تاريخ مليء بالتفاصيل والتشعبات، فلم تكن الحرب والسلم مجرد رواية نسجها من بُنيّات أفكاره فقط، بل كذلك أمدّها بواقع تنهل منه كل موارده، فأضحت كعبة القُرّاء والباحثين ولعمري إن هذه وظيفة من وظائف الأدب أن يكون سجلا لحفظ وقائع الأمم وتاريخها، ومترفةً بالإنسانية، ومثقلةً بالحقيقة، نظرا لنوع هذا العمل التاريخي. لا ينقل تولستوي التاريخ بقلم المؤرخ، بل كذلك ينقله برؤية السائل والمجيب، فحين يكتب عن معركة بورودينو فهو لا ينقلها كما سمعها أو قرأها أو عرفها، بل كذلك يُضيف لها طابع السؤال لمَ حدث هذا؟ ولمَ لم يحدث ذاك؟ وهل كان من الأفضل قطع الطريق على الجيش الفرنسي المتقهقر أو تركه ليفنى لوحده، وغيرها الكثير من الأسئلة التي يحاول فيها أن يسبر غور القادة، ويفهم كنه قراراتهم وأسبابها، فيُشبع القارئ بخاصية التساؤل وقراءة الحدث وتفكيك رموزه دون الأخذ به أخذا بلا بصيرة ولا دراية.
تولستوي الناقد التاريخي
ينقسم رأي تولستوي في التاريخ ومجرياته إلى اثنين رئيسين الأول إن أحداث التاريخ المهمة والتي منها غزو نابليون لموسكو لم يكن لعبقرية وهدوء نابليون الاستثنائيين بل كان نتيجة لقوانين الأحداث التي فرضت نفسها على تسيير الواقع. والآخر فهو إن في الحروب خصوصا والتاريخ عموما لا يوجد بطل يُعزى إليه الفضل بكل ما يتحقق من نجاحات سواء على مستوى القرار أو الحكم، بل ينتج الأبطال انعكاسا لحركة الجماهير وانجرافهم لأمر ما، فنابليون لم يكن ليرغب بالقدوم إلى موسكو ما لم يكن هنا موافقة شاملة لصفوف جنوده وقادته، وبالتالي فهو جزء لا يتجزأ من عجلة كبيرة من الأسباب والنتائج. وهنا يظهر يبرز شخص تولستوي الناقد التاريخي. ينقد تولستوي التاريخ ويحلل ويفند ما كتبه المؤرخون وخاصة الفرنسيون الذين عملوا على تجميد وتعظيم كل ما يقوم به نابليون، وتصل به الدرجة إلى تسفيه كلامهم والسخرية من شخصية نابليون وتجريده من كل الصفات الأسطورية التي أُحيط ووصف بها، لتبرز لنا شخصية تولستوي فذّة في قراءة التاريخ وفهم مجرياته ومعادية لنابليون كذلك، ليطرحها في عمله الروائي جزءًا لا يتجزأ من جسد روايته.
شخصيات من الرواية
بيير والتغيير
بيزوخوف بيير، شخصية ذات رمزية أعمق مما تبدو عليه فهو تُصوّر الإنسان بتقلبات حياته سواء المادية أو الاجتماعية أو الفكرية، من ابن غير شرعي إلى أن يكون الوريث الشرعي للملايين ويكون كونتا في المجتمع الراقي الروسي. التغيرات التي طرأت عليه جعلت منه إنسانا آخر كل يوم يجد نفسه في بحث عن الحقيقة التي لم يعرف كيف يصل لها، هل الحياة في الحرية؟ هل الحياة في الحب؟ كل شيء يدور حوله ويحصل له يجعله يُفكر أين أنا وما الذي يجب أن أفعله. فبعد أن انضمَّ للفرق التطوعية لمقاومة جيش نابليون الذي غزا روسيا، تصطدم أفكاره ما بين حياة السلم والمجتمع الراقي بكل تقاليده وعاداته، والراحة والدّعة التي يعيش بها أصحابه، وبين حياة الحرب والجنود الذين أرواحهم على كف عفريت لا يعرفون ماذا يكون مصيرهم، وهل سيعيشون إلى الغد؟ مع الوضع العسير في حياة الجندية وقلة الموارد وسوء الطعام والظروف، تبرز في ذهنه فلسفة الحياة والموت، الفقر والغنى، التعب والراحة، من أنا وكيف يجب أن أعيش؟ وما المكان الملائم لي وأين أنتمي؟ هذه الأسئلة التي دارت في ذهنه، عمل تولستوي على صياغتها لتكون فلسفة واضحة للقارئ، غاص بها في مكنونات الفكر والنظرة للحياة التي يعيشها المرء. والنقلة الأخرى التي عايشها بيير كانت بعد وقوعه أسيرا، ليكون لسان حاله ما معنى الحرية؟ الحرية أن أعيش خارج السجن أم الحرية أن أفعل ما أريد؟ وما مفهوم الحرية للعبيد، الذين يفضلون الحياة في خدمة أسيادهم على أن يخرجوا من خدمتهم لأنهم وقتها لن يعرفوا ماذا يفعلون أو ما هم صالحون لأجله، الحقيقة خلف معنى الحرية هي الغاية التي يركض خلفها والتي لن يبلغها، وهذه فلسفة تولستوي لن نبلغ الغاية في كشف كنه الحقيقة، فهي تبقى بعيدة المنال عن مساعينا في الوصول إليها، وتبقى مرآة يرى كل شخص ما يريد أن يراه فيها. الحب وناتاشا، الشابة التي أسرت قلبه، الحب الذي نبت في صدره واستعمّره، كيف بإمكانه أن يصل إليها، ويكون زوجها، وما الذي سيغيره الحب من حياته وكيف سيغير؟ فلسفة الحب التي أرّقت بيير، هذه الشخصية التي ترمز للإنسان بكل جوانبه وحالاته بعمقه وسذاجته بطبيته وقسوته، بحبه وكرهه، بيير الغني، بيير الماسوني، بيير الزوج، بيير العاشق، بيير العسكري، بيير المدني، بيير الحر، بيير الأسير، بيير من أجمل وأبدع الشخصيات التي جاد بها تولستوي.
أندريه وحياة التراجيديا
الأمير أندريه، الشخصية التراجيدية، فمآساته رواية داخل رواية الحرب والسلم، الأمير الذي رافقه الحزن، وصاحبته الأحزان والنكسات، ما بين موت من يحب أو خيانته أو أسر من عدو وجرح في حرب، الظروف التي عاش فيها أندريه تتلخص في عدة نقاط، فحين رُفع نداء القتال والتلبية لواجب الوطن والإمبراطور آثر حياة الحرب على حياة السلم، وترك الأهل والزوجة والوطن ليلحق بصفوف القتال، ليُبرز فيه تولستوي، شخصية الروسي الذي يفدي نفسه وأهله لأجل وطنه فعلاقة أندريه بوطنه وأرضه ليس علاقته وحده بل علاقة الروسي الذي أراد تولستوي أن يُظهرها ويتفاخر بها هذا هو الروسي الذي يترك حضن الزوجة ليحتضن سلاحه ويدافع من أجل إمبراطوره. أندريه المعجب بنابليون والطامح لأن يكون شخصية لها وزنها وتأثيرها في الجيش، الأمير الذي يريد أن يكون نابليونا جديدًا، نابليونًا روسيًا بقيم المجتمع الروسي الراقي، بإنسانية تُشرق بها الأرض وتعتنق السلام بعيدا عن الدماء والموت. يسقط في الأسر، تتحطم الأحلام لكن لا تتحطم الإرادة لمعاودة الجري خلف الهدف، ليصطدم بوفاة زوجته ليز، تاركةً خلفها ابنا، فيسعى أندريه لتقبل الحياة من بعدها بمعزل عن عالم النساء الذي أخذته ليز معها، ليقتحمه من جديد مع ناتاشا، وليتحطم قلبه بعدها جرّاء خيانة في ساعة ضعف منها. أندريه بكل مصائبه ونكساته لم يجد بُدا من أن يبقى قويا ومتماسكا، وإن لم يكن في الواقع كذلك فهو محطم النفس، لتنتهي حكايته في آخر الأمر متأثرا بجراحه، مع سكينة الحب التي عرفت كيف تصل إليه في آخر المطاف، التصالح مع الذات حين يقف على باب الخروج من هذا العالم إلى عالم الأموات، أندريه الذي عرف كيف يقرأ ذاته كيف يُعالج جراحه، ويواسي نكساته، وينهض بعد خيباته وعثراته، أندريه الأمير.
وقفة
ما أرى أن تولستوي قد قصّر فيه، ولا أدري لماذا، ألا وهو أن الرواية في حياة السلم فهي تُدور في أروقة الطبقة الراقية والاستقراطية، مُعطيا لها الدور الأساسي والثانوي، حتى في الوقت الذي هجر الموسكوفيون موسكو، كانت الأحداث تتكلم عن شخصيات الرواية والتي هي طبقة الأمراء والكونتات، المجتمع الراقي، متجاهلا كل الطبقات الأخرى العاملة والفقيرة خاصة، حتى حين يذكرها فهو يمرُّ سريعا، وإذا ذكر طبقة العبيد، فهو يُظهرها بصورة دونية عن البقية سواء من خلال تصوير الحدث أو رأي أبطاله فيهم، وبإمكاني القول إنها حرب الأمراء وسلم الأغنياء، وكوني قارئًا لهكذا عمل يؤرخ عقدا من الزمن تقريبا حربا وسلما، يجب أن أقف على كل المستويات الاجتماعية لتلك المرحلة، فكما الحرب يشارك فيها الجندي والجنرال، والسلم هو البيئة التي تعيش فيها الطبقة الاستقراطية والبروليتارية. والسؤال الذي يُطرح لماذا دارت هكذا رواية على طبقة وتجاهلت الأخرى؟