أسَّستْ قصيدة “رواية الوردة” الذوقَ الشعري الأوروبي في القرون الوسطى، وكان لموضوعها في الحب الفاضل Courtly Love دورٌ في أن تكون أكثرَ الكتبِ قراءةً في القرنين الرابع عشر والخامس عشر في أوروبا، وتأثَّرَ بها لفيفٌ من الأدباء. نظمَ الفرنسي غيوم دو لوريس في عام 1230 هذه القصيدة في 4085 بيتًا، يحكي فيها عن وقوعِ شابٍ بغرام وردة، رمزًا للمرأة، وما يواجهه من مصاعب وشدائد في سبيل هذا الحب بعد أن دخلَ بستانًا عامرًا بشتى أنواع الأزهار والنبات والطيور الغرِّيدة، والتقى بجمعٍ من الشبان والشابات الحسان يقضون وقتهم في اللهو والمرح والمتع. تركَ غيوم دو لوريس، الذي لا يعرف عنه الكثير، القصيدةَ بنهاية مأساوية حزينة هي النهاية المثالية للحب الفاضل يتجرعُ فيه العاشق من كأسِ الآلام والعذاب وعدم المقدرة على الوصال الدائم للمحب. وجاء من بعده في عام 1275 جان دو مونغ وأضاف لها جزءًا ثانيًا من 17 ألف بيتٍ شعري أكملَ ما بدأ سلفه وانحرفَ في موضوعها الأساسي بإدخال الفلسفة ونقد رجال الكنيسة وتفسيراتٍ وشروحٍ لجزء القصيدة الأول.
تقوم قصيدة رواية الوردة على المجاز والرمز والكناية بلغةٍ بلاغية مُقدِّمةً مغامرة العاشق في البستان الذي وصلَ إليه عبر رؤيا في منامه، ومغامرة العاشق رمزُ لدورة الحبِّ منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية إن كان له نهاية، مصوِّرةً هذه الحال تصويرًا يجمع ما بين القصِّ والتأديب والتعليم. ويلاحظُ في كثير من فصول القصيدة أنَّ غيوم متأثرٌ بقصيدة “فن الهوى” لأوفيد لا سيما حين يتلقَّى العاشقُ تعاليمَ ربِّ الهوى في الحب، ويعيد صياغة بعض ما قاله أوفيد في قصيدته تقريبًا. تلتقي القصيدة في بعضِ مراميها مع كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي الذي كتبه في عام 1022. إذًا، فنحن في حضرة نصِّ أدبي يُعلِّمنا الحبَّ الفاضل وفنونه وسلوكياتِ العاشق الرفيعة مع محبوبته. شاعَ هذا النوعُ من الحب، وهو شبيه للحب العذري عند العرب، في القرون الوسطى عند الأوروبيين وظهرَ في الكثير من النصوص الشعرية والنثرية مثل الحياة الجديدة لدانتي، ونشيد النبيلونغ، والسيد غُوَيْن والفارس الأخضر، وحكايات كانتربري. ويرتكزُ مفهوم هذا الحبِّ في التزامِ العاشق تجاه محبوبته بالخُلقِ الرفيعة والوفاء والاصطبار عليها وسفحِ المشاعر والعواطفِ سفحًا لها حتى تُنعمَ على المحبِّ بالرضا وتكافئه بابتسامة أو بلقاءِ ساعةٍ في غفلةٍ عن أعين الرقباء أو تمنحه قُبلةً بريئة تُسكن من نيرانِ قلبه ولوعةِ صدره. ارتبطَ هذا الحبِّ بالبلاطِ وعليَّة القوم والفرسان، وثمَّة تفسيرٌ بأنَّ شيوع هذا النوع من الحبِّ بدأ مع الحملات الصليبة وحروب الفرنجة في المشرق حين كان يغادر الفرسان تاركين خلفهم زوجاتهم ومحبوباتهم اللائي يبقين في شوقٍ حارقٍ لرجالهنَّ. ويأتي الشعراء الجوالون يُلقون القصائد والمدائح لهنَّ، ولعلَّ بعضهم خالجه الحبُّ نحو واحدةٍ من هاته النسوة فانخرطَ في علاقة غرامية معها. ليست غايةُ الحبِ الفاضلِ هناءَ العاشقِ بل إن عدم نيله مراده واستمرارَ عذاباته جزءٌ مُكمِّلٍ لدورة الحب، فتبزغُ الغاية التأديبية للنفس البشرية والتقويمية لسلوكياتها، فما من مؤدب كالحبِّ لها.
تتوزعُ القصيدة في اثنين وثلاثين فصلًا يتناوبُ المؤلف والعاشق على روايةِ أحداثها في تداخلٍ بينهما، يجعل التنقُّل بين صوتي الراوي والعاشق وباقي الشخصيات يبدو كأنه في جوقة متآلفة في أدائها وعارفة بمواطن حديثها وسكوتها. ومع أن العاشق يتولى رواية رؤياه في البستان وحبِّه للوردة وما واجهه في مسعاه إليها، فإن تدخلات المؤلف لا تخفتي وهي ترتِّب سير الأحداث ومُجرياتها وحواراتها، وهذا ما يعطي للقصيدة في بعض فصولها جوًّا حواريًا في ثنائية المُخَاطِب والمُخَاطَب مع تعليقاتٍ المؤلف المُنظِّمة.
*
تبدأ على لسان العاشق راويًا حلمه، ومدافعًا عن صدق الرؤى وداحضًا حُجَّج من لا يؤمن بتحقُّق هذه الأحلام. واعتمادُ المؤلف على الرؤيا في روايةِ موضوعه على لسانه راويه، شخصية نصِّه الداخلية، أسلوب فنيّ استُخدمَ لاحقًا كثيرًا في آداب القرون الوسطى وعصر النهضة، ونجد نماذجَ متعددة لهذا الحال إذ يجد الراوي نفسه في منامه في مكانٍ غريب يُشرع البابَ أمامه للانطلاق في رحلته وقصِّ مغامرته، ومن الأمثلة على ذلك قصيدة برلمان الطيور لتشوسر، فالراوي يهوي نائمًا أثناء قراءته كتاب شيشرون “حلم شيبيون” ليرى في منامه شيبيون الإفريقي فيقوده إلى حيث اجتماع الطيور. ويحيد دانتي في الكوميديا الإلهية عن الطريق ويجد نفسه في غابة ولا يدري كيف وصل إليها إذ كان مثقلًا بالنوم، وهو التفاف من دانتي على هذا الأسلوب وافتتاح مقارب لاستخدام تقنية الرؤيا في رواية القصائد والنصوص النثرية. اختار غيوم لعاشقه سنًّا صغيرة فجعله في العشرين من عمره دلالةً على غضاضة هذه السنِّ وسهولة وقوع صاحبها في الحب، أو إشارة إلى أن هذه السن هي المثالية للحبِّ. يقول ’لقد كنتُ في العشرين من عمري… آنذاك، في تلكمِ السنِّ، حين يتجاسر الحبُّ فيشقُّ الطريقَ خلسةً، مخترقًا القلوب اليانعة‘. أما زمن هذه الرؤيا فهو شهر مايو/ أيار، وهو شهر الحبُّ في القرون الوسطى، ويردُ كثيرًا في النصوص القروسطية والقصائد حينئذ. تُبيِّن هذه البداية أنَّ للشاعرِ أعرافًا فنيّة في تقديم قصيدته وتنظيمها وبُنيتها: قصُّ رؤيا، راوٍ داخليّ، زمن الحدث في شهر الحب، مايو. والأهم من ذلك هو سمة الراوي الجوَّال والسرد العيانيّ (راوٍ ملازمٌ لمرويه)، ونجد أمثلة كثيرة عليه في أدبنا العربي كما في حكاية أبي القاسم البغدادي، ورسالة ابن شُهيد الأندلسي، ورسالة الغفران. وثمة نماذجُ أخرى على الراوي الجوَّال والسرد العيانيّ في الأدب الأوروبي مثل الكوميديا الإلهية وبعض حكايات كانتربري.
يكشف المؤلف على لسان راويه عن موضوع رؤياه قائلا ’إنها رواية الوردة، التي تحتضنُ فن الهوى برمته‘، ويتَّضحُ للمتلقي منذ البداية غاية هذه القصيدة وفحوى هذه الرؤيا في الحب وآدابه وتعاليمه. يمضي العاشقُ في دربه حتى يصلَ إلى بستان غنَّاء مترامي الأطراف ذي سياج عليه صور ورسوم قبيحة لكلِّ منها اسم ووصف: الضغينة والخيانة والدناءة والشراهة والشحة والحسد والكآبة والشيخوخة والرياء والفآقة. يرمزُ البستان الغنَّاء إلى الحياة الدنيا وزينتها، فيما تشير رسوم القبائح وصورها إلى آفاتِ هذه الدنيا ومُفسدات أخلاق الإنسان وسلوكه فيها. يسعى العاشقُ لإيجاد منفذٍ لدخول البستان، وما كان له ذلك إلا على يد فتاة غادة حسناء هي المرأة المترفة وصديقة سيِّد المتعة صاحب البستان. والمرأة المترفة، أي البنت الصبوح، مدخلُ الشابُ الغضيض إلى خمائل الحبِّ وجنان المتعة في الدنيا. وسيِّد المتعة هو مرحُ الحياة ولهوها في سنِّ الشباب. دخلَ العاشقُ المفتونُ البستانَ ورأى فيه أعاجيبَ الخيرات والمخلوقاتِ اللطيفة حتى وصلَ إلى قومٍ مجتمعين في لذة وفرحٍ يتراقصون ويغنون فكان أول ما رأى امرأة عجيبة الجمال هي بهجة، ثم أخرى هي كياسة، ثم ربَّ الهوى، وهو كيوبيد ابن فينوس كما في الأساطير الرومانية، المسؤول عن الحبِّ وأهله وما يصيبهم من ملذاتٍ ومآسٍ، وأبصرَ كيف أن ربَّ الهوى بسهامه المختلفة يُمكن أن يجعلَ المرءَ يهوي في الغرام إذا ما تلقَّى أحدَ سهامه. ثم يرى العاشقُ وسطَ ذلك الجمع نساءً بهيّات هن ثروة ثم سخيّة وصراحة. يُفصحِ العاشق عن سماتهن وأوصافهن، وهنَّ رمزٌ لما يحتاج إليه المرء إذا ما هوي امرأة في الدنيا. في خضمِّ كلِّ هذا الاستطلاع والمراقبة واللقاء في البستان، يتحيُّن ربُّ الهوى الفرصة المناسبة ليُوجِّه سهامَ الحبِّ نحو صدرِ الشابِ الذي دخلَ عليهم المكان، فيوتِّر قوسه ويرمي بسهامه: سهم جميلة، وسهم بساطة، وسهم كياسة، وسهم كياسة، وسهم صراحة، وسهم صحبة، وسهم بهيّ الطلعة. وكلُّ سهمٍ من هذه السهام ذو تأثيرٍ في نفسِ العاشق وأمارةٌ من أماراتٍ الحبِّ وأسبابه وتأثيراته. كان حظُّ العاشقِ الصغير أن يقعَ في غرامِ وردة في البستان، كناية عن غرام المرأة، فتهفو نفسه إليها وتأخذ بمجامعِ قلبه شوقًا لشمِّ أريجها وتقبيلها وقطفها، ثم يتلقى من ربِّ الهوى تعاليم الحبِّ في السلوك والأفعال والأقوال والملبس وشيئًا عن صفات أهله وضروبهم، وهي وصايا تقتفي في معظمها أثرَ قصيدة فن الهوى لأوفيد وبعضها اقتباسٌ منها بصياغاتٍ جديدة. حين أراد العاشقُ أن يصلَ محبوبته الوردة، وقد حرسها مخلوق شرس هو خطر، فجاءه خادم في الحديقة اسمه صاحب الحفاوة، وهو رمز عن المعين في وِصال المحب والحاضِّ عليه، يُدِّله في دربه ويقرِّبه إلى مراده. في خضمِّ سعيه لوصال محبوبته الوردة تظهر شخصيات متعددة هي حياء وخشية وعفة وغيرة وشر وإساءة، وتمثُّل كل شخصية جانب من جوانب الحب والوصال سواء أخطار مُحدقة أو سلوكيات تنمُّ عما في نفوس المحبين. لم يوفَّقْ العاشق في وصال وردته وطرده خطرُ شرَّ طردة وما كان له من مواسٍ في مصيبته إلا أن يجدَ رفيقًا اسمه صديق يقص عليه أخباره وأحواله، ففي الإفضاء إلى من يأمن جانبه ويشاركه أفراحه وأحزانه ترويحٌ عن النفس وإعانة لها فيما تطلب. وبفضل مشورة صديق تمكَّن العاشقُ من كسرِ حدّة شراسة خطر وكرهه له، والتأثيرِ فيه بطيِّب الكلام وحلوِ الألفاظ، قبل أن تحضر رحمة وصراحة وتحاولا مع خطرٍ أيضًا حتى رضي عن العاشق، الذي كان قد طرده من قبل، متيحًا له رؤية وردته يرافقه في دربه صاحب الحفاوة. بيد أنَّ النهايات السعيدة ليست في ناموس الحبِّ والعشَّاق إذا ثارتْ ثائرة غيرة بعد لقاء العاشق ومحبوبته الوردة، وتدخَّل ذو الفم الشرير، وشاية، في زيادة الطين بلة، ثم حياء، فطُردَ العاشقُ ومُنعَ وصال وردته بعد أن ابتنت غيرة حصونا وأسوارًا حول البستان ووضعتْ على الوردة الحرسَ الشديد، وحُبس صاحبُ الحفاوة في برج. لم تكن هذه النهاية المأمولة للعاشق واستطاع بفضل فينوس ورحمة وروعة الهوى وحسناء من أن يلتقي محبوبته الوردة في غفلة من أعين الحُرَّاس لكنه لقاء خاطف سرعان ما انتهى وما روى فيه العاشق ظمأه من محبوبته. يُمثل كلُّ حدثٍ وشخصية في هذه المغامرة التي يراها الرواي في منامه مفصلًا من مفاصل الحب وتقلُّباته واللقاء مع المحبوبة وما يُعين عليه أو يمنعه، ويتجسَّد كلُّ شعورٍ أو سلوكٍ في شخصية بشريّة قد تُمكِّن من اللقاء أو تمنعه. بهذه النهاية تنتهي رؤيا العاشق ويستيقظ من نومه، ويبقى الحبُّ في الختام مادة هذه القصيدة المجازيّة مُقدَّمًا في قالبٍ قصصيّ يُعلِّم ويُخبِر، ويُؤدِّب ويُمتع، ويُبيّن ويُمثِّل، في سعي لفَهمِ الحبِّ وأهله.