ترجمة: مؤمن الوزان
(كتبت شارلوت برونتي هذه الرسالة (المقالة) في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1843 وأُخرَ غيرها حين ذهبت مع أختها إيميلي إلى بروكسل للدراسة في مدرسة البنات الداخلية Pensionnat. كُتبت هذه المقالات في الأصل باللغة الفرنسية في درس الأدب الذي كان يُديره المسيو قسطنطين هيغر. اعتمد هيغر أسلوب تعليم يقوم على تقديم نماذج أدبية لكتّاب فرنسيين ثم يطلب من طالباته كتابة مقالات تُحاكي أساليبَ النماذج المدروسة. ترجمتُ هذه المقالة من كتاب The Brontës in Brussels لهيلين ماكيوان).
أنا، سيدتي، رجلٌ في الخامسة والعشرين من العمر اختارَ أن يُصبحَ فنانًا. أكملَ لتوه دراسته في روما، ووصلَ إلى هذا البل معارف أو عائلة، ولا يملك أي ثروة سوى لوحِ ألوانه، وفُرشُاتِه، وحِرفتِه، وحبِّه للفن. هذا هو وضعي، أعرفُ ما أخطرَه من وضعٍ وأريبَه، وحتى ما أخسَّه في نظر فئة من أناس تحسب كلَّ ما هو محفوف بالخطر ومشكوك به مُخزيًا. لمَ اخترتُ إذًا مهنة أدركُ مخاطرها تماما؟ بأي حقٍ آملُ بأن أنجح حيثُ فشلَ الآخرون؟ سيدتي، سأجيب عن هذه التساؤلات وبصراحة. دخلتُ هذا المسار المهني لأني اعتقدتُ أنه حِرفتي؛ أملتُ بالنجاح فيه لأنني أحسستُ في نفسي الشجاعةَ لأثابرَ على الرغم من كل العقبات التي قد أواجهها. هذه ليست بكلمات ثرثار يظنُّ نفسه شجاعًا لأنه لم يُختبر قط؛ أدرك ماهيّة سوء الحظ؛ عانيت منه في أقسى حالاته. لم أكرِّسْ سنواتي الأربع في إيطاليا حصرًا لدراسة الفنون فقد نلتُ شهادتي في مدرسة المِحنة، وإذ لم أغرق في صرامة انضباطها فإن الفضل يعود لحبي للفنِّ الساكن بين جوانحي وكان بمثابة شغف أوقدَ النارَ في عروقي مجددًا حينما جمَّدها الجوعُ والبردُ. ’لكن‘ قد تقولين ’حبُّك لفنك لا يساوي شيئًا إذا لم تمتلك الموهبة اللازمة لتبرعَ فيه‘. سيدتي، أومن بأني أملك موهبةً. لا تسخطي من ادِّعائي أو تتهميني بالغرور؛ لا أعرف ذاك الشعور الواهن، طفل الاختيال، لكني أعرف جيدًا شعورًا آخر، احترام نفسي، شعورٌ وُليدُ الاستقلالية والاستقامة. سيدتي، أومن بحيازتي العبقرية. يصدمُكُ هذا الاعتراف، ترينه غطرسةً؛ أرى أنه يسير جدًا. ألا يتفق الجميع بأنه ليس بمقدور أي فنان النجاح بلا عبقرية؟ سيكون من الحماقة أن يُكرِّس المرءُ نفسه للفن بدون أن يكون متأكدًا بامتلاكه مزية لا غنى عنها؟ لكن كيف السبيل إلى التأكد من هذا؟ وأيمكن للمرء ألا يخطئ بشأنه؟ الإنسان ميالٌ جدًا لمديح نفسه. أعرف وسيلة واحدة مؤكدة فحسب. أن يعيشَ المرء في هذه الدنيا، ويُقارنَ نفسه بالآخرين، ويُخضعَ نفسه لاختبار التجربة، ويمرَّ بتنُّورها، تنُّور أشدُّ حرارةً عشر مرات من تنُّور نبوخذنصر، وإذا عبرها الإنسان دون أن يتحول إلى معدن رصاصِ مجتمعٍ عاديّ، فهذا لأنَّ في روحه حبوبا معدودة من ذلك الذهب النُضار الذي يُسمى عبقرية. سيدتي، عشتُ مديدًا مع أناس ولم تخطر على بالي فكرة مقارنة نفسي بهم، طوال شبابي كان التباينُ بيني وبين معظم الناس من حولي أحجيةً مُحرجةً لم أعرف كيف أحلُّها. حسبتُ نفسي دونَ الجميع، وقد أحزنني هذا. ظننتُ أنَّ واجبي اتباع النموذج الذي وضعه أغلبُ معارفي، نموذج أُقرَّ باستحسان الوسطية المنطقية والحصيفة، ومع ما انتابني طوال المدة من إحساس بالعجز عن الشعور بله الفعل فقد شعرَ الآخرون وزاولوا أفعالهم. أدَّى أحد رفاقي عملًا بطوليًا وأُشيدَ به؛ قلَّدته فسُخِرَ مني. دائما ما وجدني الناسُ أخرقَ ومملًا. ثمة إفراطُ على الدوام في ما أفعله، فإما أكونُ مهتاجًا بإفراط وإما متريُثًا بتفريط، وبدون أي داعٍ أظهرتُ كل ما خَطَرَ على قلبي، وكانت تعصفُ به ريحٌ أحيانا. وبلا طائل حاكيتُ الفرحَ الرزين، وتعابيرَ الهدوء وحتى الانفعال، التي رأيتها تعلو محيّا صَحْبِي وألفيتها جديرة بالإعجاب، بيد أن كلَّ جهودي ذهبتْ أدراج الرياح. لم أتمكن من كبح مدِّ وجزرِ الدماء في شراييني، وخلَّف هذا المدُّ والجزرُ أثره في سِحنتي وملامحي الدميمة والقاسية؛ نحبتُ في سري. في الختام، جاء يومٌ (كنت في الثامنة عشرة) حين فتحت عينيَّ ولمحتُ الجنة في داخل روحي. تيقنت بأني أملكُ قوةً بين جوانحي قد تكون بديلًا لذلك النبيل الهادئ الذي أعجبتُ به كثيرا: اكتشفتُ بأن القلبَّ يضمُّ أشياءَ معينةً تُدعى مشاعرَ؛ شعرتُ بأن هذه المشاعرَ كانت تنبضُ بالحياة وعميقةٌ في فطرتي، وأنها على وشك أن تصيِّرني عبدًا وسيدًا في آن لكل ما يُبهجنا ويُحيينا ويمسُّنا في هذا الخَلْق المجيد؛ عبدٌ لأني أُخضِعتُ بها إلى درجة السجود، وسيّد لأني عرفتُ كيف أجتذبُ منها بهجةً لا تُوصف بإرادتي. أحببتُ المجتمعَ ورفضني المجتمع بلا مبالاةٍ؛ أحببتُ الآن الطبيعةَ، وكشفتْ الحجابَ عن وجهها لي وتركتني أتشرَّب هدوءَ السعادة في تأمل سِماتها السماويّة. فكَّرتُ أني ما عدتُ بحاجةٍ إلى البشرية؛ وجدتُ أصدقائي في القفار والغابات. منحتني أيسر الأشياء بهجةً أصيلة. لم يتطلَّب أكثر من مرأى شجرة بلوط معمِّرة بجذعٍ مُطحلب، من نبعٍ فوَّار محفوفٌ بزهور بريّة، من أطلالِ برجٍ مكسوٍ بلبلابٍ مُلوَّن ومنتفشٌ بعليِّق وشوكيات- ليقذفَني إلى أسمى نشوات الروح الباهرة. أصبحتُ فنانًا وحالمًا. في الحادية والعشرين من العمر تبددت أحلامي. لم أميِّز أيَّ صوتٍ هو ما صرخَ في أذني ’حرِّض نفسك! غادر عالمَ أوهامكَ وعشْ الدنيا الحقيقية، ابحثْ عن عمل، تحنَّكْ بالتجربة، كافحْ واغزُ‘ نهضتُ، وجذبتُ نفسي بقوة من تلك العزلةِ، وما أحببتُ من أحلامٍ، تركتُ بلدي وسافرتُ. عندما نزلتُ على شواطئ إيطاليا ترآى لي نورٌ نازلٌ على مستقبلي؛ رأيتُهُ بمزيجٍ تامٍ من الشك والأمل. امتدَّ قُبالتي مثل حقل كبير غير مزروع. علمتُ أن الحبوب لم تُنثرَ فيه بعد، لكني حلمتُ سلفًا بالحصاد. لم أفتقر للشجاعة ولا الجَلَد؛ شرعت فورًا بالعمل. أصابني أحيانا أن تمكَّنَ اليأسُ مني برهةً حين أرى أعمال العظماء في فني ولا يخامرني شعورٌ سوى أني خسيسٌ جدًا، لكن تأتي حمى العتق لتقودني بعيدًا عن هذا الخضوع اللحظيّ وتنتشلني من الإحساس العميق بوضاعتي، وأستخلصُ طاقةً جديدة لعملي حتى تولَّدَ فيَّ تصميم راسخ: ’سأفعل كلَّ شيء، سأقاسي كلَّ شيء، من أجل ربح كل ما بمقدوري نيله‘. وهكذا عانيتُ كثيرًا في فلورنسا، وفي البندقية، وفي روما، وكسبتُ في هذه الأماكن ما رجوتُ حيازته: معرفة صميمية بكل مهارات الرسم الخفية، وإحساس بأني متثقِّفٌ بتوافقٍ تامٍ مع قواعد الفن. ونظرًا للعبقرية الفطرية فليس بمقدور تيتيان ولا رافاييل ولا مايكل أنجلو ليعرفوا كيف يمنحونني ما يأتي من الله وحده؛ القليل الذي أملكه، أحوزه من بارئي، وأحميه في جَناني بعناية حتى إنَّ قطرة واحدة من نهر الحياة الذي تنسكبُ منه الرحمةُ لتصيَّر المرارةَ العلقميّة حلواءً طيّبةً: آمنتُ بأني أُبلي جيدًا في توظيفه بإضافة شيء إلى المباهج النقيّة لمريدييَّ. سيدتي، إني أضعُ نفسي في مقامٍ يتيحُ لي استخدام هذه القدرة التي أرتجي بها معونتك؛ بمقدوري بدء مسيرتي وحيدًا، لكن سيجبُ عليَّ حينها قضاء سنواتٍ من العمل في الجهالة والعوز. أعلمُ أنه على المدى الطويل تنتصرُ الجدارة الحقيقة دائمًا، لكن إن لم تمدُّ السلطةَ يدَ المعونة، فإن يوم النجاح قد يستغرق في قدومه وقتا طويلا. وأحيانا، في الحقيقة، يسبقُ الموتُ الانتصارَ، وأيُّ خير في رمي الأكاليل على القبر؟
سيدتي، استميحُكِ عُذرًا إن بدت لكِ رسالتي طويلة، فلم أفكر بعدِّ السطور بل في مخاطبتك بصدقٍ فحسب.
سيدتي، بين يديكِ خادم المطيع،
جورج هاورد.