راودتني فكرة قراءة البحث عن الزمن المفقود منذ أكثر من ثلاث سنوات، لكن الشروع بقراءتها احتاج مني إلى وقتٍ طويلٍ حتى ابتدأت به (بعد ثلاث سنوات من انبثاق الفكرة تخللتها سنة وضعتها ضمن جدول قراءتي لكني لم أقرأها)، لذا فإن أول نقطة لقراءة بروست تتمثل في رسم الفكرة في الذهن ووضعها ضمن الخطط المستقبلية للقراءة لا سيما حين نتحدث عن سبعة كتب بمجموع يقارب مليون ونصف مليون كلمة.
إنَّ مجرد التفكير بقراءة سباعية الزمن المفقود يُعطي دافعًا لقراءتها ويشكّل حافزًا لدى القارئ بالشروع بها في أقرب وقت ممكن وأول فرصة تتاح له. ولا بد قبل القراءة أن نقف على قيمة الزمن المفقود لبروست. أحدث هذا العمل بثورته الفنية في التعامل مع الزمن في الرواية نقلة نوعية في الرواية الحديثة عموما والأوروبية خصوصا، لا سيما وأنها جاءت في مرحلة متقلبة على مستوى الفكر في أوروبا وقرمزية على مستوى السياسة والعلاقات بين دول القارة، كل هذا ألقى بظلاله على الجيل الجديد، فظهرت أسماء كبيرة مثل جيمس جويس وفرجينيا وولف وسبقهما بروست في الظهور عملاقًا من عمالقة الرواية بروست في هذه الرواية، التي تحددت معه وسابقيْه على نحوٍ رئيس ملامحُ وسماتُ رواية تيار الوعي وسبقوا زمانهم كذلك في وضع خط انطلاق لرواية ما بعد الحداثة خاصة في علاقة الراوي مع شخصياته والميتا سردية (ما وراء القص) وهذا ما نلاحظه جليًا في البحث عن الزمن المفقود. لكن يبقى عنصرا الذاكرة والزمن عند بروست وتعامله الفني الدقيق في نسج نصه استنادًا إلى الذاكرة الطوعية (أو ما اسميتها الذاكرة الحرة المتقافزة) والزمن (الذي جعله طيّعًا مرنًا بين يديه)- هما من ضمنا لبروست مكانًا مرموقًا واعترافًا بعبقريته الروائية وكونه واحدًا من أبرز روائي القرن العشرين وأحد المؤثرين بفن الرواية في تاريخ تطورها.
تتمحور النقطة الثانية قبل الشروع في قراءة الزمن المفقود حول معرفة قيمة الرواية في مجال الأدب الروائي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القارئ غير المهتم بفن الرواية وتطور الرواية، ويبحث عن المتعة دون الاكتراث بقيمة الرواية الفنية فإن مشروع قراءة رواية البحث الزمن المفقود غير ضروري وليس بحاجة إلى أن يقضي وقتًا طويلًا مع هذا العمل الذي بقدر ما يمنح ويؤخذ مقدمًا من جهد ووقت.
أما النقطة الثالثة في القراءة لبروست فهي القدرة على اتخاذ الخطوة الأولى في البدء ثم المواصلة باستمرارية ورغبة متقدة لإكمال العمل دون تهاون أو تراجع أو تأجيل إلى مدة بعيدة، لا سيما وأن بعض الحوادث في الكتاب الأول أو الثاني يُرجع إليها أو تكشف أسرارها في الكتاب الأخير، وهنا مع كثرة الأحداث والشخصيات وحتى عدم مراجعة بروست لكتبه الثلاثة الأخيرة من السباعية- فإن أحوج ما يكون القارئ هو الاتقاد الذهني وقوة الحفظ وسرعة معالجة الذاكرة للأحداث دون لبس أو تداخل -الذي قد يقع بعضه بطبيعة الحال ولا مفر من هذا- لكن الاستمرارية في القراءة تمنح القارئ المساعدة على البقاء في أجواء الرواية دون نسيان أو شرود ذهني أو استطراد الخيال وخلق أحداث لم تقع.
*
ولهذه الاستمرارية تقنيات تعين القارئ منها:
– جدولة قراءة الكتب في مدة لا تقل عن الشهرين ولا تتجاوز ثلاثة أشهر:
– قراءة الكتاب الأول ثم أخذ توقف قصير (يوم أو اثنان).
– قراءة الكتاب الثاني والثالث ثم توقف قصير.
– قراءة الكتاب الرابع ثم توقف قصير أو قراءة كتاب خفيف آخر.
– قراءة الكتاب الخامس والسادس ثم توقف قصير.
– قراءة الكتاب الأخير.
*
يمكن للقارئ أن يدخل اختبارًا لقدرته في المطاولة مع قراءة هذا العمل مع الصفحات الأولى من الكتاب الأول، فإن هذا الأسلوب البطيء في السرد، الدقيق في التفاصيل، الغارق في الشاعرية والتوصيف والتداخل والقفز العشوائي والتنقل غير المحدد أو اللا منضبط (ظاهريا)- يكشف عن قابلية القارئ، وهو مِقياس لتفاعل القارئ مع النص. وقد يكون القارئ محظوظًا إن تشابهت طفولته مع طفولة بروست -كما حدث معي- لذا فقد يشعر بالألفة مع الرواية لذا:
– ابحث عن وجه الشبه بين طفولتك وطفولة الراوي، فإن بروست يأخذ قارئه معه في رحلة إلى الماضي، وإن كانت هي رحلته الخاصة لكنها في المقابل رحلة القارئ أيضا إلى ماضيه الخاص، وفرصة لاستعادة الذكريات والزمن الماضي ومقابلتها مع طفولة السارد.
– إنَّ معرفة ماهية السرد القائم على الذاكرة الحرة أو الطوعية وارتباطها مع الزمن يعين على التواصلية مع العمل، فعند معرفة هذه العلاقة -بالإمكان مراجعة ما كتبته في قراءتي للعمل- وفهم أصولها وآلية عملها تجعلُ القراءة استكشافَ عقلية بروست وآلة زمن وقدراته الفنية في الرواية، فالمسألة تضحى نوعًا من الرياضة الذهنية والألعاب العقلية التي تساعد القارئ على فهم الزمن وكيف يمكن أن نتعامل معه عندما نحاول تجسيده والإمساك به، وكذلك في السيطرة على الذاكرة والتحكم في تدفقها عند التذكر واستعادة الماضي.
الشعور بقيمة الزمن والذات بعد القراءة
إن الفائدة الرئيسة التي يُمكن أن ألخص فيها قيمة قراءة هذا العمل لمن يهتم بتطور فن الرواية أو القارئ العادي (الذي سيواجه صعوبة دون شك في المطاولة مع هذا العمل) هو ما قدمه بروست من إحساس بالزمن يخرج به القارئ بعد نهاية القراءة، ومغيّرًا شعوره بالسن وتقدمها ومرور الزمن، فنتعرف على شخصية -بطل الرواية الذي يروي حكايته (سارد بروست)- وهو صغير مرورًا بمرحلة الصبا والشباب المبكر والبلوغ والكهولة انتهاءً بالشيخوخة التي يكتشف القارئ مع الرواي صدمة إدراك بلوغ سن الشيخوخة. ومتابعة حياة البطل والعيش معه أدق تفاصيل حياته على مدى آلاف الصفحات تجعل من القراءة معايشة واقعية أكثر من مجرد قراءة، ويصبح التقدم بالسن ملموسًا لدى القارئ حتى يشعر بمدى قدرة الزمن على التغيير في البشر، ولبروست تقنيته الخاصة في اكتشاف التقدم بالسن فهو اكتشاف انعكاسي، يرى تأثير الزمن في ذاته من خلال تأثير الزمن في الآخرين المحيطين به، وعلاقة هذا التأثير بالمكان، لتصبح القراءة هي الأخرى خوض في الزمن وتأثيراته في الذوات والجمادات، وتتحرر من قيود الورق والخيال وتقتحم حياة القارئ، وتغيّر نظرته وإدراكه لمفهوم التقدم بالسن أو تزيد وعيه بمدى الرعب الذي يقترب منه بنهاية حياته مع مرور الوقت، أن يدرك تناقص المسافة نحو النهاية لحياة ربما ما زال يبحث عن معنًى لها، معنى حين تكتشفه قد تموت، معنى قد لا تكون له أي قيمة حين يكون الموت وجهته الثانية، لذا فإن الغواية في قراءة بروست تتمثل في إعادة توجيهنا وتقويم أخطائنا -إن وجدت- مع مفاهيم الزمن والسن والحياة والموت ومعنى الوجود، والحث على الإسراع في معرفة ما نريد وأين نتجه وكيف نمضي قُدمًا بأخف متاع وأدومه.