التراث الآيسلنديقصة قصيرة

خبر الملك هرولف كراكي في ثلاثة مصادر إسكندنافية

جمع وترجمة: مؤمن الوزان

سيرة الملك هرولف كراكي وأبطاله Saga of King Hrolf Kraki and his Champions واحدة من السير الأسطوريّة ذات البُنية المميزة في الأدب الآيسلندي، إذ تتألف من خمس حكايات تشكل بائتلافها نصا واحدا متعدد الأحداث والمواضيع والشخصيات، فتلعب كلّ مجموعة دورها في بناء النص ثم تلتحم بالأخرى حتى النهاية. يرجع تاريخ مخطوطة سيرة الملك هرولف إلى أواخر القرن الرابع عشر، وتجري وقائعها في السويد والدنمرك والنرويج وإنجلترا وسكسونيا مغطّية مساحة واسعة وبلادا كثيرة لتكون قصة إسكندنافيّة مترامية الأطراف تمزج ما بين التاريخيّ والأسطوريّ، والواقعيّ والمتخيّل. أورد في السطور التالية خبر الملك هرولف كراكي في ثلاثة مصادر، اثنان آيسلدنيان هما كتابا سنوري ستورلوسن إيدا النثري وتاريخ ملوك النرويج، والثالث صنائع الدانيين للمؤرخ الدنمركيّ ساكسو النحوي. 

*

خبر هرولف كراكي في كتاب سنوري ستورلوسن “إيدا النثري Prose Edda” 

– لماذا سُمي الذهب بذرة كراكي؟

حكم ذات حين ملك في الدنمرك اسمه هرولف كراكي، وكان من خير الملوك القدماء وأشهرهم لكرمه وشجاعته وتواضعه. ومن أخبار تواضعه التي احتفت بها القصص، أن دخل ذات يوم على إيوان الملك هرولف صبيٌ فقير يُقال له فوغ، وكان الملك حينئذ في ريعان الصبا ممشوق القد. تقدّم إلى حضرته فوغ ورفع إليه بصره، فخاطبه الملك ’ماذا تريد يا غلام لا سيما أنك شخصت ببصرك إليّ؟‘.

أجاب فوغ ’سمعت في دياري أنَّ الملك هرولف في ليري هو أعظم رجل في بلاد الشَّمال، لكن لست أرى يجلس على العرش إلا قضيب صغير (كراكي)، بل ويدعونه ملكا!‘.

ردّ عليه الملك ’يا غلام لقد أسميتني باسم سأُدعى به منذ اليوم هرولف كراكي. جرت العادة أن يُعطي المُسمّي هديةً لتأكيد التسمية. وأرى أنك لا تملك هدية تعطينيها لتسميتي، لكن سيعطي الآخرَ من يملكُ شيئا الآن‘. ثم أخذ سوارا من ذراعه وسلّمه إياه.

قال فوغ حينئذ ’لتُبارك ملكا بذَّ الملوك جميعا بجميل عطاياك. وأعاهدك عهدا غليظا لأكوننّ هلاك الرجل الذي يقتلك‘.

ضحك الملك من جوابه وقال ’لمن اليسير إبهاجك يا فوغ‘.

ومن أخبار الملك هرولف التي تُبرز شأن شجاعته أنَّه حكم أوبسالا في زمانه ملك يُدعى أديلس، وكان متزوّجا بيورسا أم هرولف كراكي. كان أديلس في حرب ملك يحكم النرويج اسمه علي. اتّفقا أن يلتقيا في معركة فوق بحيرة متجمّدة يقال لها فاني، فأرسل الملك أديلس في طلب ربيبه هرولف كراكي أن يأتي ليعينه على عدوه، ووعده بأن يكفل له أجر جيشه ويتحّمل نفقتهم إليه، ووعد الملكَ أن يهب له ثلاثة كنوز يختارها من السويد. ما كان بمقدور الملك هرولف الخروج بنفسه إذ كان في حرب السكسون، لكنه بعث له بمساعيره الاثني عشر. من بين هؤلاء مسعر اسمه بودفار بياركي، وآخر يدعى هيالتي المقدام، وهفيتسيرك الجسور، وفوت، وفيسيتي، والأخوان سفيبداغ وبيغاد. صُرع في المعركة الملك علي ومعظم جيشه، وسلبه الملك أديلس خوذته هيلدسفين وحصانه هرافن. سأله الأجرَ عندئذ مساعير الملك هرولف، ثلاث كيلات من الذهب لكل رجل منهم، وطلبوا منه أن يعطيهم نصيب الملك هرولف كراكي من كنوز السويد وسيختارونها نيابة عنه. كانت الكنوز المختارة الخوذة هيلدغولت، والزَرَد فينسليف، وهما محصّنان لا يخرقهما سلاح، وخاتما ذهبا يُقال له سفياغرس من إرث أسلاف أديلس. فأنكر عليهم الملك طلبهم وما وهب لهم الكنوز ولا أعطاهم الأجر. غادره المساعير في أسى أليم لإساءته إلى جانبهم، وقصّوا على الملك هرولف كراكي خبرهم وما جرى عليهم. انطلق الملك من ساعته إلى أوبسالا وحين وصلت مراكبه إلى نهر فيري قصدَ أوبسالا بمساعيره الاثني عشر، وما شاء أي منهما أن يتفاوض في الصلح أو الجنوح للسلم. رحّبت به أمه يورسا وأخذت بيده إلى مخدعها لا إيوان الملك. أوقدت لهم نيران عظيمة ثم سُقوا المزر ليشربوا، وأقبل رجال أديلس بالحطب وكوّموه في النار يُلهبونها، واشتدّ لظى النار وأجيجها حتى احترقت ثياب هرولف وثياب رجاله على أجسادهم. قال الملك أديلس حينئذ ’أحقٌّ ما يُقال إنَّ الملك هرولف كراكي ومساعيره لا يهابون النار ولا الحديد؟‘.

وثب هرولف كراكي، وكذا حال رجاله، ثم قال ’لنزد لهيب نيران بُنيان أديلس‘. فتناول ترسه وقذف به في النار ثم قفز فوق النار الملتهمة للترس، وأردف قائلا ’لا يهاب النار بل يقفز فوقها‘. ثم صنع رجاله مثل صنيعه، وأمسكوا بموقدي النار بالحطب ورموهم فيها. جاءت حينئذ يورسا وأعطت لهرولف كراكي قرن حيوان ملؤه ذهبا وخاتم سفياغرس وسألته أن يفرَّ برجاله. اعتلوا خيولهم وركبوا إلى سهول فيري، وأبصروا هنالك أنَّ الملك أديلس راكبٌ في أثرهم على رأس جيش عرمرم يروم هلاكهم. قبض هرولف كراكي بيمينه قبضة من ذهب القرن ونثره على طول الدرب، وحين جاء السويديون ورأوا الذهب ترجلوا من أحصنتهم وأخذوا يلتقطون الذهب من الأرض. أمرهم الملك أديلس بالركوب والمضي قدما وقد اشتدَّ به الحنق من فعلتهم. كان اسم جواده سلونغنر، وهو أعدى الجياد وأسرعها. حين أبصر الملك هرولف أنه مدركهم بجواده أخذ الخاتم سفياغرس ورماه نحوه وقال خذ هذا هدية. ركب الملك أديلس إلى الخاتم والتقطه بظُبة رمحه حتى انسلّ في السنان. راقب هرولف كراكي حاله وكيف انحنى ليلتقطه فقال قولته المشهورة ’جعلت أعظم رجال السويد يحبو في الأرض مثل خنزير‘. ثم افترقا.

لأجل هذا سُمي الذهب بذرة كراكي أو بذرة سهول فيري1.

1- من محاورة آيغير والإله براغي في القسم الثاني، Skaldskaparmal، (ص110-112) – Edda translated by Anthony Faulkes.

**

موجز خبر ملوك سيرة الملك هرولف كراكي وأبطاله في كتاب سنوري ستورلوسن “سير ملوك النرويج Heimskringla”:

حكم الدنمرك في ذلك الزمان أول ملوكها العظام، وعاش حتى طعن في السن، ثم خلفه في الحكم ابنه الملك فرودي المستبّد أو المُسالم، ثم ابناه من بعده هافدان وفريثليف، وكانا محاربين بئيسين. كان أكبرهما هافدان وتولّى زمام الحكم والسلطة، وفي كلّ أمر، وغزا بجيشه السويد في حرب الملك أون، وجرت بينهما مواقع انتصر فيها هافدان جميعا، وانتهى المطاف بالملك أون أن فرَّ إلى بلاد قوط الغرب. استقرَّ الملك هافدان بعدئذ في أوبسالا، مستقرّ ملوك السويد، نحوا من عشرين عاما، ولبث أون في بلاد قوط الغرب تلك المدة في أثناء حكم الملك هافدان أوبسالا. مات الملك هافدان حتف أنفه مريضا ودفن في أوبسالا. فقفل إليها راجعا الملك أون، وحكم حتى بلغ الستين من العمر. أقام الملك أون طقس قربان عظيم طلبا للعمر المديد، فقدّم ابنه إلى أودين وضحّى به، فاستجاب له أودين وأوحى إليه أنّه سيمدُ في عمره ستين سنة أيضا. ثم حكم الملك أون في أوبسالا عشرين سنة حتى أقبل على السويد بجيشٍ علي بن فريثليف الملقّب بالباسل، وقاتل الملك أون في معارك كثيرة انتصر فيها جميعا، وفرَّ الملك أون مرة ثانية إلى بلاد قوط الغرب، وأقام مملكته هناك مرة أخرى. بقي علي يحكم في أوبسالا عشرين سنة حتى قتله ستاركاد1. رجع الملك أون بعد مقتل الملك علي إلى أوبسالا مرة أخرى وحكم عشرين سنة. ثم أقام طقس قربان عظيم، وضحّى لأودين بابنه الثاني، فأخبره أودين بأنه سيعيش أبدا ما ضحّى بابنٍ له كلَّ عشر سنين، وأن يخلع على بلدات في السويد أسماء بحسب عدد ابنه الذي ضحّى به لأودين [بلدة الأول، الثاني، وهكذا]. ضحّى الملك أون بسبعة من بنيه، وعاش عشر سنين لا يستطيع المشي على قدميه، ثم عاش عشر سنين محمولا على كرسيّ. ثم قدّم ابنه الثامن لأودين فعاش عشر سنين أخر طريح فراشه. ثم قدّم ابنه التاسع لأودين وعاش سنين أخر لا يشرب إلا من قرن كرضيع. بقي له آخر أبنائه، وكان ناويا أن يقدّم ابنه العاشر لأودين، وأن يُسمي أوبسالا، وما لحقها من ضياع وأراضٍ، تويندالاند [بلدة العاشر]. أقبل عليه أهل السويد وأخذوا يترجّونه أن يوفّر ابنه ولا يُضحّي به لأودين، فأنصت لهم، فمات الملك أون وقُبرَ في أوبسالا. وصار يقولون عمّن مات حتف أنفه بعد عمرٍ طويل بأنه مات بـمرض أون. ثم حكم السويد من بعده ابنه الملك إيغيل، وكانت له معارك حارب فيها عبدا له تمرّد عليه اسمه توني، انتصر فيها توني جميعا، وفرّ الملك إيغيل إلى الدنمرك مستجيرا بالملك فرودي الشجاع، ووعد الملك فرودي بدفع الجزية له إن أعانه على عدوّه. فأمدّه بجيش ورجع إلى السويد وظفرَ بعدوه وحكم السويد، والتزم بإرسال الجزية إلى الدنمرك كل سنة. مات الملك إيغيل وخلفه في الحكم ابنه أوتّار2. فرّط أوتار في جنب الملك فرودي، ورفض أن يدفع الجزية. بعث الملك فرودي رسله إلى السويد يسألون الملك أوتّار دفع الجزية، فأجابهم أن السويديّين لم يدفعوا جزية قطّ إلى الدانيّين [الدنمركيون]، وأنه ماضٍ على ذاك. خرجَ الملك فرودي في الصيف غازيا بلاد السويد، فقتلَ من أهلها وسلبَ ونهب وحرق ثم رجع إلى الدنمرك. وفي الصيف اللاحق خرج غازيا إلى بلاد البلطيق الشرقية، وحين علم الملك أوتّار أنّ الملك فرودي ليس في بلاده قصد الدنمرك في جيش وأغار عليها من دون أن يجد مقاتلة ترّده، فأخذَ يجول ويصول في البلاد بلا خوف أو خشية من أحد. حين رأى الدانيّون ما يصنع في بلاده، تقدّم اليارلان [اليارل: منصب دون الملك] فوتّر وفاستي، وكان الملك فرودي قد عهد إليهما حماية البلاد في غيابه، فجمعا جيشا وانقضّا على الملك أوتّار على حين غرّة. جرت بينهما معركة حامية الوطيس، انتهى المطاف بأن صُرع الملك أوتّار وخلق كثير من جيشه، ورميت جثّته فوق تلة تنهشها الجوارح والسباع. ثم صنعوا غرابا من خشب وبعثوا به إلى السويد قائلين إنَّ ملكهم أوتّار ليس يعدل سوى هذا، ثم صار لقب أوتّار غراب فيندل (منطقة في أقصى شمال الدنمرك). ورث الحكم من بعد أوتّار ابنه أديلس، وملك السويد زمنا مديدا وكان واسع الثراء، وله أصياف مشهودة بالغزوات والغارات. غزا في صائفة بلاد السكسون، وكان ملك السكسون جيرثيوف خارج البلاد، وله زوج اسمها آلوف الملقّبة بالقويّة، وما عُرف لهما من ولد. أخذ أديلس يصول ويجول في بلاد السكسون نهبا وقتلا واستعبادا للرجال والنساء. وأصاب فيما أصابه من السبايا جارية اسمها يورسا، ولما عرف حسنها وذكاءها ورجاحة عقلها وحلاوة منطوقها استأثر بها لنفسه، ثم بنى عليها واتّخذها زوجا ورجع بها إلى السويد. كانت امرأة عظيمة القدر مهابة الجانب بارعة الأوصاف. ثم حكم هيلغي بن هافدان هليدرا3. غزا السويد في صائفة بجيش جرار، وما أطاق الملك أديلس شيئا سوى الفرار. نزل الملك هيلغي بشواطئ السويد وطفق يسلب وينهب ويحرق ويسبي، وسبي يورسا ورجع بها إلى هيلدرا وبنى عليها وأنجب منها ابنا هو هرولف كراكي. حين بلغ هرولف الثالثة من العمر أقبلت الملك آلوف إلى الدنمرك، وأعلمت يورسا وزوجها هيلغي بأنه أبوها وآلوف أمها. رجعت يورسا إلى الملك أديلس في السويد، وبقيت هناك حتى آخر عمرها. وخرجَ هيلغي للغزو والإغارة. صار ملك هليدرا إلى هرولف وهو في الثامنة من العمر. مات الملك أديلس بعد أن تعثّر حصانه فسقط منه، ودفن في أوبسالا. أكبره السويديون أيما إكبار وبجّلوه ملكا عظيما. حكم من بعد ابنه إيستين، وفي أيامه مات الملك هرولف كراكي في هيلدرا4.

1- لعلّ في هذا الهامش بعض الاستطراد لكن ستاركاد من أشهر الشخصيات الأسطورية في تاريخ إسكندنافيا، قيل إنّ أودين وهب له عمر ثلاثة رجال، فعمّر في الأرض زمنا شابه به غيست الذي عاش ثلاثة قرون، وكذلك أود ذي السهم الذي عمّر ثلاثة قرون. يروي ساكسو النحوي في تاريخه قصة ستاركاد كاملة، وتروى قصته أيضا في القصة الثانية من سيرة الملك قوطرك. كان ستاركاد ذا شرور وجرائم، وشجاعا لا يهاب شيئا، وما رويت عنه منقصة في قتال إلا تلك التي رويت عن فراره من مواجهة سيغورد قاتل التنين، وهو خبر يُروى لإبراز فضائل سيغورد ومآثره الباسلة أكثر من الحطّ من ستاركاد. اشتهر ستاركاد بجرائم لطّخت سمعته، التي لم تكن بالحسنة في الأصل، من أبرزها قتله الملك علي غدرا، إذ عرفه وقاتل في جيشه فدخلَ عليه داره ذات يوم، وكان علي يستحم في الحمام، فاقترب منه وحدّثه ثم طعنه بالسيف وقتله بعد أن أزّه عليه أعداء الملك علي ودفعوا له ثمن دمه. بقيت هذه الجريمة تؤنّب ضمير ستاركاد حتى إنه في أرذل عمره اشترى بثمن جريمته موتَه على يد رجلٍ قتله بسيفه، وكانت الميتة أشبه بانتحار على يد الآخر.

2- يربط ما بين هذا الملك والملك السويدي أوثهيره الوارد في قصيدة بيوولف، واسم أبيه أونجنثيو في قصيدة بيوولف.

3- هيلغي هنا أخو الملك فرودي، وكلاهما ابن هافدان. وتسلسل ملوك الدنمرك الواردين حتى الآن من أجل الموازنة مع الملوك الواردين في سيرة الملك هرولف هم:

أول ملوك الدنمرك، ثم ابنه فرودي المستبد، ثم ابناه هافدان وفريثليف، ثم علي بن فريثليف، ثم حكم هافدان الذي لم يرد ذكر سيرته عند سنوري لكن ذكر ابنه فرودي الشجاع، ثم هيلغي بن هافدان أخو فرودي، ثم التالي هو هرولف ابن هيلغي من يورسا.

هليدرا هنا نفسها هليدارغارد في سيرة الملك هرولف، المدينة حيث عرش ملك الدنمرك، مثل أوبسالا لملوك السويد.

4- لا يذكر سنوري ستورلوسن في تاريخه الكثير عن الملك هرولف سوى ما أوردته.

اعتمدت في نقل هذا الخبر إلى العربية على كتاب تاريخ ملوك النرويج بترجمته الإنجليزية لأليسون فنيالي وأنتوني فاولكس، منشورات كلية لندن 2011. الجزء الأول – Ynglinga Saga سيرة آل ينغفي (ص27-33).

**

موجز خبر ملوك سيرة هرولف كراكي وأبطاله في تاريخ ساكسو النحوي “صنائع الدانيّين Gesta Danorum”:

خلف فرودي في الملك أباه هادنغ، وبرز منذ صباه ذا فضائل وبسالة، ولما كانت خزائنه التي ورثها عن أبيه قد صفرت، واحتاج إلى المال لتجهيز جيشه، انطلق إلى جزيرة خالية إلا من تنين جاثم على كنز، فقاتله وقتله واستولى على الكنز، ورجع إلى دياره وأعدّ العدّة وفرّق الأموال على المقاتلة وأخذ يغزو البلاد وينهب العباد، وجعل من نفسه ملكا مهابا عظيم القدر والسلطان، رويت أخبار كثيرة عن أيام ملكه وحروبه. ومن أشهر صنائعه مع أعدائه أنه بعد أن غزا بريطانيا وقهر ملكها ونهبها خرج قاصدا سكتلندة، فجاءه النذير أنَّ ملك بريطانيا قد جمع رجاله وخرج يريد اللحاق به وقتاله، وما كان في إمرة فرودي ما يكفي من المحاربين ليقاتل على جبهتين، فطلب من مقاتليه أن يرموا ما غنموه في الحرب في الطريق حتى يلهى به الجيش ملك بريطانيا ويميلون عن اللحاق بهم. ثم وقعت بلبلة في جيشه ما بين مطيع لأمره ورافض، وكان في جنده قائد يُدعى ثوركل، مشهور بالجشع والطمع وحب الذهب، فأخذ يخطب في المقاتلة يحثّهم ألا يرموا غنائمهم وما نالوه بدمائهم. وبعد أن فرغ من خطبته قام الملك فرودي خطيبا في جيشه يحضّهم على رمي الغنائم وإلهاء عدوهم فأطاعه غالب الجيش وأعرض عن مشورة ثوركل. ثم حلَّت البلبلة والخصومة في جيش ملك بريطانيا إذ انقسموا ما بين راغب في جمع ما خسروه في الحرب وهو بين أيديهم ليسوا مرغمين على القتال من أجله، وما خرجوا إلا لطلب العوض عن خسارتهم، وبين الملك الراغب في اللحاق بعدوهم. ثم مالت الكفة لصالح جشع الجيش فتخلّف عن اللحاق بعدوه ونزل يجمع الأموال من الدرب وسط السهول. ثم قصد فرودي بجيشه غابة تفصل ما بين بريطانيا وسكتلندة، وأقبل عليه الجيش السكتلنديّ، فلما أبصروا قوّة عدوهم وكثرة رجاله فرّوا من أمام الدانيّين وملكهم فرودي، ثم أقبل عليه بالمدد سكوت زوج أخته أولفهيلد في جيش جرّار، فرجعوا إلى الجيش البريطانيّ يستردون ما قذفوه من غنائم، وعضَّ البريطانيّون حينئذ الأصابع ندما على عصيانهم ملكهم واتّباعهم جشعهم، لكن ولات حين مناص. ثم عبر البحر راجعا إلى الدنمرك. حكي في خبر وفاته أنَّ أخته أولفهيلد أهدته زَرَدا من حديدٍ صُلْب لا يُخرق، ولما أراد الخروج لغزو السويد وقتال ملكها ريغنر ارتداه، وفي درب الزحف إلى السويد دبَّر له الملك ريغنر حيلة فمات فرودي مختنقا بوطأة ثقل درعه وحرارة جسده، وخلّف وراءه ثلاثة أبناء هم هافدان وروي وسكاتي. شبَّ الثلاثة شجعان لا نظير لهم وجمعهم سعي محموم وحماس متّقد إلى المُلك، وما اكترث أحدهم لشيء سوى المُلك، فسعى سعيه إليه ودبّر مكائده، وما ردّه عن مطلبه أخوّة ولا ذمة، فلطّخ هافدان شرفه بأن استلب الحكم لنفسه واستأثر به بعد أن قتلَ أخويه روي وسكاتي، وأكمل جريمته بأن جمع حاشيتهما ورجالهما وأوفدهم على المشانق. دام حكمه زمنا طويلا واشتهر بجرائمه وفظائعه لكن تمتّع في حياته بحظّه الطيب ومات شيخا هرما غير مطعون ولا مغتال. خلفه من بعده ابناه روي وهيلغي، فتقاسما المملكة بينهما. كان هيلغي الملقّب بمفروق اللحية طويلا جسيما قويا، ركب البحر بجيشه وغزا في البلاد، وحين وصل إلى جزيرة ثورو أبصر جارية حسناء اسمها ثورا فاشتدّت غلمته وغلبها على نفسها فافترعها وغادرها. أنجبت الجارية بعدئذ طفلة أسمتها يورسا. أكمل الملك هيلغي سيرته في الغزو والنهب وعبر البحر إلى بلاد السكسون وقاتل ملكهم هوندنغ فقتله فنال لقب قاتل هوندنغ، ثم رجع بعد زمن إلى جزيرة ثورو. كانت ثورا في تلك السنين تندب حظها وتبكي مصابها، وحين علمت بمقدم هيلغي فطنت لحيلة خبيثة ماكرة تثأر لشرفها المنتهك وعفّتها المغتصبة، ولو كان على حساب ابنتها التي بلغت وصارت شابة حسناء في سن النكاح. فطلبت من ابنتها أن تقصد هيلغي وتغويه فيسقط في شراكها ويستأثر بها لنفسه، فاستجابت لها وأعجبَ هيلغي حسنُها لا يدري أنها ابنته من صلبه. يا لها من امرأة مسلوبة البصر والبصيرة، رضيت أن تخزي نفسها مرّة ثانية في سعيها لمعاقبة مغتصبها، فأرادت أن تمحو عارها عن سابق نيّة واحتيال فإذا هي تقع في النقيض! ظنّت أنها ستنال الثأر غير أنها ضاعفت جريرتها، ورغبت في أن تداوي جراحها فإذا هي تضيف جريمة وتصبح لابنتها بمقام زوج أبيها، وتدفع بابنتها إلى الخزي والعار في طلبها أن ترفعهما عن نفسها. وما من ريب أنَّ روحها ملؤه الفجور والخسة حين شطَّت كلَّ الشَّطاط عن العفة والحصانة وهي تريد أن تسكت غضبها في هتك شرف ابنتها بلا حياء ولا عفاف. كانت الجريرة كبيرة من الكبائر، وما كان لها من تكفير إلا بسبيل وحيد، فقد تمَّ الزواج بينهما، وما طهّره إلا ذرية صالحة، مسرة تعقب فعلة تعيسة مشينة. أنجبت يورسا رولف فصان نفسه منذ أول صباه من العار بصنائعه المجيدة ومآثره الكريمة، حُفظ ذكرها وأشيع سناها ورويت فحُمدت على مرّ الزمان. انتهى الشقاء بالنعماء وبعد البداية الشؤوم حلَّت النهاية الوضيئة.

مات في تلك الأيام ملك السويد ريغنر، ولحقت به حزنا عليه زوجه سفانفيتا. خلف في الحكم ابنه هوثبرود وكان متحمّسا لتوسعة مملكته فغزا بلاد الشرق وارتكب الفظائع والمذابح بالناس، وأنجب ابنين هما أذسل1 وهوثر. غزا هوثبرود الدنمرك فخرج للقائه الملك روي في جيشه، وجرت بينهما ثلاث مواقع حامية الوطيس انتهت بغلبة الغزاة ومقتل الملك روي ووضع الملك هوثبرود يده على الدنمرك وأنحائها. حين علم هيلغي بالنبأ الجلل بعث بابنه رولف ليتحصنّ في حصن في بلدة ليري خوفا عليه وطلبا لسلامته. ثم خرج بعدها ليقاتل الغزاة النازلين بدياره. قاد هيلغي معارك في صدّ الغزاة، وأمر زبانيته بقتل الحكّام الذين نصّبهم هوثبرود في البلدات، وخرجَ بأسطول كبير واصطدم بجيش هوثبرود في معركة بحريّة انتهت بظفره بعدوه فثأر لأخيه وحرّر بلاد، ونال بعد لقبه الأول لقبا آخر بغلبته هوثبرود. ثم أخذ يقتّل بالسويدين ولا يقبل منهم العوض، نقيض ما جرت عليه عهود الحرب ومواثيقها، فأنزلَ بنفسه وبلاده عارا، وله من قبل عار ما انمحى، فآثر هجر البلاد وارتحل إلى الشرق حيث هلك. خلف في الملك ابنه رولف، رجل سليم العقل والبدن. كانت السويد، وملكها أذسل، خاضعة لملك الدنمرك، فسعى أذسل أن يرفع عن بلاده نير الخضوع والطاعة، فخطب إلى الملك رولف أمّه يورسا، فأجابه على ما طلب وإكراما له رفع الجزية عن السويد. غير أنَّ قَدْره خالف طبعه، إذ كره أذسل الكرم والعطاء وحسب من العار أن يجود المرء بما عنده. حين علمت يورسا بلؤمه وبخله وخسة طبعه عزمت على أذيته وتبديد ثروته، واحتالت عليه بأن أبدت له كرهها لابنها وبغضها إياه، وحسبت أن هناءها في أن يضع ابنها رولف يديه على أموال زوجها، ورأت أنَّ ما قارعة أشدّ على البخيل من سلبه أمواله. وأرسلت إلى ابنها تعلمه بأموال زوجها ورغبتها في أن يأخذها وتسأله القدوم إليهم. حين جاءهم رولف لم تعرفه أمه حين دخل عليها البلاط لطول الغياب وقلّة الوصال، ثم في الليلة الثالثة حمّلت كنوز أذسل وأمواله في عربات، وخرجت بابنها ورجاله في جنح الظلام فارين بما سلبوا. خرج أذسل بجيشه في أثرهم، ولما كاد يدركهم نصحت يورسا ابنها ورجاله أن يرموا الأموال فيلهو الجيش عن اللحاق بهم فلا يدركهم وينجون من الخطر والهلاك. استجاب رولف لها، وصنعوا صنيع فرودي بجيش بريطانيا. بلغوا مراكبهم بعدئذ ورجعوا إلى الدنمرك.

عاش في تلك الأيام رجل يُدعى أغنر بن إنغيالد. تزوّج أغنر بروتا أخت رولف، وأقام عرسا كبيرا، وفي أثناء الاحتفال طاش صواب الأبطال وأخذوا يقذفون العظام في المحفل على فتى اسمه هيالتي، وكان بجوار آخر اسمه بياركي، فضرب عظم جبهة بياركي وآذاه، فأخذ العظم ورماه به وعاقبه على فعلته. أساء أغنر ما جرى وحسبها إهانته بحقه من بياركي فطلبَ نزاله. تنازل الاثنان واختلفا في ضربتين وقتلَ بياركي أغنر، ثم قتل كلَّ أبطاله الذين أرادوا الثأر له. بينما كان بياركي يحتفل بفوزه على خصومه إذ أقبل من الغابة دب ضخم فأمسك برمح وقذف به فقتله، ثم طلبَ من هيالتي أن يحسو حسوة من دم الدب حتى ينال شجاعة وقوة كبيرة. صار بياركي بفضل بسالته مقربا من الملك رولف وجمعته به صحبة طيبة وجعله من خاصته، وأعطاه أخته روتا جائزة انتصاره. ولما عاد أذسل إلى سيرته الأولى في معاداة الملك رولف خرجَ إليه بياركي على رأس جيش عرمرم وقهره في المعركة وغلبه. تزوّجت حينئذ أخت رولف الأخرى سكولد برجل داهية فتيّ يقال له هياردفار، وأقطعه السويد يحكمها شرط أن يدفع إليه جزية سنوية.

جاء بلاط رولف شاب اسمه فيغي، وكان قد سمع عن شهرة الملك رولف وصيته الحسن وأراد أن يقابل الحال بالمقال، وبدأ يسأل مازحا ومعجبا عن هذا كراكي وحقيقة طبعه الكريم وسخائه الشهير، وكراكي بالدانيّة2 تعني جذع شجرة يمكنك أن تتسلقه بأن تضع قدمك على رؤوس أغصانه المقطوعة، وتستعملها سُلَّمًا حتى تبلغ من أقصر طريق أعلى موضعٍ تريده. أعجب رولف اللقب واتّخذه لنفسه، وأكرم فيغي بأن أهداه سوارًا كبيرا فأخذه منه وزيّن به معصمه الأيمن، ووضع يده اليسرى وراء ظهره، فلما سأله رولف عن سبب فعلته أجابه بأن يده خجلت من أختها لفقرها وتفاخر الأخرى بهديتها، فأهداه هدية ثانية ليده. فرح فيغي بالهدية وعاهده أنّه منتقم من قاتله إنْ قُتلَ يوما.

ما رضيت سكولد في السويد بأن يدفع زوجها الجزية لأخيها وأساءها أن يذلَّ بدفعها، وجعلت تأزُّ زوجها على خلع ربقة التبعية، وتحثّه على الاحتيال على رولف، وتملأ صدره بالتدابير والحيل، حتى نزل على قولها. أمرَ بأن تملأ عربات بالسلاح ويُعمّى عليه، وسافروا بها في جيش إلى الدنمرك كأنهم جاءوا بالجزية. ركبوا البحر إلى ليري حيث مُقام رولف، وكان قد ابتنى بنيانا عظيما وزيّنه بالكنوز وفاخر الموجودات واتّخذه دار مقامه وعرشه. عسكر جيش السويد قريبا من دار الملك، وحين علم الملك رولف بمقدمهم ظنَّ خيرا وأقام مأدبة عامرة بالأطايب إكراما لهم. أقبل عليه هياردفار وسكولد وحاشيتهما، واحتفلوا جميعا. أخذ الدانيّون يعبّون من الشراب حتى ثملوا ثم في آخر السهرة قصدوا الفراش. نهض السويديّون في هزيع الليل البهيم وأخذوا ينقضّون على الدانيين النائمين ويقتلونهم في الفُرش. كان هيالتي في تلك الليلة عند محظيته، فلما سمع صلصلة السلاح وعلم أنّ معركة دائرة في دار مولاه آثر اعتناق الأعداء على معانقة النساء. حين همَّ بالخروج سألته المحظيّة ما سنّ الرجل الذي أتزوجه إذا لم تعد إلي، فأشار إليها أن اقتربي فلما دنت منه مال إليها كأنه يريد أن يسرَّ إليها شيئا فجدع لها أنفها حتى يحرّم عليه فراش رجل غيره، وقال لها إنك مالكة أمرك فيما ترومين صنعه. رجع إلى القصر على عجلٍ وانخرط في قتال بئيس، وأخذ يُقتّل الأعداء يمنة ويسرة، وحين مرَّ بحجرة بياركي ألفاه نائما فقصده وأخذ يحضه على النهوض والقتال3. قاتل رجال رولف عدوهم وصُرعوا برفقة مولاهم خلا فيغي. أمر هياردفار بعد أن وضعت المعركة أوزارها أن تُنصب المصاطب للاحتفال بالنصر، فأقبل عليه فيغي حاملا سيفا وابتهج هياردفار بمقدم أحد رجال رولف، وحسب أنه جاءه بهدية. تقدّم إليه فيغي وحيّاه ثم أراد تسليمه السيف ممسكا بمقبضه وموجها إلى هياردفار سنانه، فرفض هياردفار أخذه وسأله أن يمدَّ له المقبض لا النصل، فردّ فيغي أنَّ العادة جرت في بلاط رولف أن يُمدَّ النصل لا المقبض فصدَّقه هياردفار. لما اقترب فيغي من غريمه انقضَّ عليه طاعنا إياه ومنتقما لمقتل مولاه وبارًّا له بعهد الثأر4.

1- أذسل هو نفسه أديلس في السيرة.

2- لغة أهل الدنمرك (الدنمركيّة)، واللقب بمعنى عصا أو سلّم بحسب اختلاف التأويل، وهو يصف كذلك رجلا طويلا ممشوقا فكأنه سلّم

3- يروي ساكسو النحوي قصيدة طويلة عن محاورة الاثنين، وهي قصيدة بطولية معروفة باسم نشيد بياركي Bjarkamal، نرى بعض ملامحها في محاورة هيالتي وبودفار بياركي في سيرة الملك هرولف كراكي وأبطاله عندما جاء هيالتي الإيوان وأخذ يوقظ رفيقه ويستفزه للنهوض والقتال بجوار مولاه.

4- ترجمت هذا الموجز الكتاب الثاني من تاريخ ساكسو النحوي Gesta Danorum by Saxo Grammaticus

The History of the Danes

Edited by Karsten Friis-Jensen

Translated by Peter Fisher

Oxford University Press 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى