
تقدم هذه السلسلة الخماسية الصادرة عن جامعة نبراسكا عرضا تاريخيا ونقديا للأدب الإسكندنافي بفروعه الخمسة، النرويج، الدنمارك، السويد، فنلندا، آيسلندا، منذ بواكيره في أواخر الألفية الأولى حتى عصرنا. تشترك هذه الدول باستثناء فنلندا بتاريخ ممتد سياسيا وثقافيا واجتماعيا ولغويا، انضمت إليه فنلندا في عصور متأخرة. وما يلاحظ على آدابهم أنها خسرت أصولها الثقافية والفكرية متمثلة بالحكايات الخرافية والأساطير (تدخل معهم ألمانيا إلى حد ما) لصالح آيسلندا التي دوّنتها بلغتها المحكية، النوردية القديمة، في حين كان دخول هذه البلاد في النصرانية بداية هيمنة اللغة اللاتينية وسطوة الكنيسة الثقافية وإقصاء الثقافة واللغة المحليتيّن، وبقيت آيسلندا في منأى عن كل ذلك بسبب عزلتها الجغرافية جزيرة وسط البحر حتى بعد تنصّرها سنة 1000م. حمل الأدب الآيسلندي على عاتقه مهمة حفظ إرث أسلاف الإسكندنافيين وتطوير أدب خاص بآيسلندا دون سائر بلدان إسكندنافيا التي صنّفت بعض الكتب باللاتينية، ثم بعد القرنين الرابع عشر والخامس عشر شرعت في تصنيف أدب بلغتها المحكية المتفرعة من النوردية القديمة، ما خلا فنلندا التي جمعت أدبها القديم في القرن التاسع عشر في ملحمة كاليفالا وديوان أناشيد كانتيليتار. كان السر في اللغة والحفاظ عليها، ففي وقت تخلّى الإسكندنافيون في الدنمارك والنرويج والسويد عن التدوين بلغتهم المحكيّة حافظ الآيسلنديّون عليها، هكذا صار الماضي في معزلٍ عن متناولهم في الحاضر، ومن تناوله بفضل استمرارية اللغة حاز على آداب أصيلة ضاربة الجذور تُعبّر عن هوية المجتمع ولغته وثقافته. على سبيل المثال لم يستعمل الدنماركيون اللغة المحكية (النوردية) في الكتابة بل اللغة اللاتينية، ويقول المؤرخ الدنماركي ساكسو النحويّ: “لم يكتب الدانيّون تاريخهم من قبل لأنهم لا يعرفون اللاتينية”. أضحت الكتابة باللاتينية مانعا من انتشار المعرفة وتدوين الحكايات القديمة وبقي الأمر مقتصرا على فئة من الشعب، ثم بدأ بعد القرن الثالث عشر التدوين باللغة المحكية كما في ترجمة القوانين وبعض العلوم والأشعار التعليمية التي كتبت باللاتينية أيضا. اضمحل استعمال اللغة اللاتينية مع أواخر القرن الرابع عشر وبواكير القرن الخامس عشر مع بقاء التدوين به لدى بعض أهل العلم. ويرتبط الأدب النرويجي القديم ارتباطا وثيقا بالأدب الآيسلندي لا سيما أن الآيسلنديين دونوا التاريخ النرويجي، متمثلا بسير ملوك النرويج على يد المؤرخ الآيسلنديّ سنوري ستورلوسن وآخرين غيره، ولأن المستوطنين الأوائل لآيسلندا هم من النرويجيين الفارين من الملك هارالد الأشقر فقد جاءوا بحكايات الأجداد وأخبارهم وأساطيرهم ورووها من جديد لا سيما في الحكايات الخرافية المعروفة بالسيرة الأسطورية Legendary saga، وتشمل حكايات عن الآلهة والأبطال الخرافيين والملوك الأساطير وحكايات الفايكنغ. لذا فالكثير من الحكايات الخرافية تعاملت مع النرويج بيئة وفكرا وعناصر فنية وشخصياتٍ، وحتى اللغة فهي النوردية القديمة قبل أن تتفرع إلى لغات مختلفة في إسكندنافية. يبرز في النرويج بعض الفنون الأدبية في حقبة الملك هاكون هاكونسن، وإن قامت هذه النصوص الأدبية النرويجية على الأدباء الآيسلنديين الذين كتبوا للعرش النرويجي وحتى تولوا ترجمة نصوص والرومانس الفرنسي مثل سيرة الملك شارلمان وأبطاله. لا يفرق النرويجيّون عن الدنماركيين إذ اعتنقوا النصرانيّة وتبنّوا الأبجدية اللاتينية لكن علاقاتهم الوثيقة بالآيسلنديين تركت لهم فسحة في الاتصال بماضيهم المعرفي والأسطوري. أما الأدب السويدي فله ثلاث مراحل مهمة، أولها متمثل بالنقوش الرونية حيث السويد أكثر بلد في إسكندنافيا وجدت فيه النقوش الرونية على الصخور، ودونت قصصا مشهورة مثل سيغورد قاتل التنين وثيدرك ملك بيرن. والرونية نظام كتابة وأبجدية شاع في إسكندنافية واستعمل في النقش على الصخور والأخشاب، ولم يكن متطورا ليستعمل في الكتابة التدوينيّة. والثاني متمثل بترجمة بعض النصوص لآداب أمم أخرى إلى المحكية السويدية بعد القرنين الثالث عشر والرابع عشر. والثالث كتابة بعض الكتب مثل سيرة الملك إريك، ورؤى بيرغتا التي صارت قدّيسة، والأناشيد الشعبية. ارتبط الأدب السويدي التراثي بأوضاع البلاد السياسية وأحوال الملوك وتحالفاتهم وحروبهم، ومن دون فهم تاريخ السويد السياسي لا يمكن فهم الأدب السويدي التراثي. بقي الأدب الفنلندي متأخرا عن الشروع والتدوين فلم يظهر على الساحة الأدبية الإسكندنافية إلا في أواخر القرن التاسع عشر إذ عمل المجتمع الأدبي في فنلندا القرن التاسع عشر على جمع أناشيد شعبية وأغاني قديمة من أجل تأسيس وعي ثقافي وأدبي وطني يعزز من وجود الهوية الفنلندية فكرا ولغة وثقافة، وأوكل المهمة إلى اللغوي والفقيه اللغوي والشاعر والفيلسوف والموسيقار والفيزيائي والصحفي، إلياس لونروت. عمل لونروت على ترتيب الأناشيد الشعبية وسد ثغراتها وربطها لتشكل ملحمة وطنية تثبت الهوية والكيان الفنلندي المستقل، فأثمرت مجهوداته في الجمع والكتابة والتحرير في كتابين هما ملحمة كاليفالا وديوان كانتليتار. يقول لونروت “إن الغاية في أدنى الأحوال ألا نظهر أسلافنا جهلة في رؤاهم وأفكارهم”. ساهمت الملحمة وديوان الأناشيد في تأسيس الهوية الفنلندية المعاصرة، ورفد الثقافة الفنلندية الكتابية والمرئية بكل إلهام، حتى أصبحتا كتابين وطنيّين عززا من وجود فنلندا بلدا وشعبا مستقلا عن السويد وروسيا، وفي منأى عن التبعية الثقافية والسياسية لهما. وتحدّثت عن تاريخ الأدب الآيسلندي في هذه المقالة.
اقتصرت قراءتي لهذه السلسلة على الفصول الأولى المتعلّقة ببواكير الآداب الإسكندنافيّة حتى عصر النهضة، لارتباط ذلك بمشروعي في قراءة التراث الأدبي الإنساني.