التراث الآيسلنديالتراث الأدبي

أود ذو السهم وتعمير الشقاء

تروي هذه السيرة مغامرات واحد من أشهر الأبطال الأساطير في المخيال الإسكندنافي، وهو أود ابن غريم الخد المشعر ابن كيتل السلمون. عاش أود ثلاثمئة سنة عامرة بالمغامرات والوقائع والصحبة وأخوّة القَسَم إذ كان بطلا هماما ومحاربا جسورا من الفايكنغ، مخر بسفينته البحار وحارب الوحوش وبلغ جزرا عجيبة وسافر في البلاد حتى بلغ بيت المقدس ونهر الأردن. شابهت شخصيته ومغامراته رحلات أوديسيوس وتيهانه في البحار ومغامرات السندباد، غير أنّها شخصية نتاجُ عالم إسكندنافي بمعتقداته وخرافاته ومخلوقاته وأسلحته العجيبة. ليس لحكاية أود خط سرديّ واحد يربط أجزاءها، فهي حلقات متنوعة ومنفصلة لا يجمعها إلا أود ورحلاته وخصومته أُغمند هلاك إيثيوف، الذي بقي يسعى في الانتقام منه بعد أن قتل إخوته بالقَسَم وابنه العملاق فيغنر، ثم صالحه بعد أن أيقن باستحالة قتله إذ هو شيطان لا إنسان. مات أود، بعد عمر مديد وحياة عامرة، في جزيرة بيروريود بعد أن غادرها وأقسم ألا يعود إليها. 

تُعلِّم حياة أود علامتان مائزتان كانتا المحرّك لأشواط حياته المديدة والمتغيّرة هما التعمير في الحياة والتطواف في الأرض، والسعي في أثر أُغمند وطلب الثأر. حين أنجبت أود أمه لوفثاينا في بيت إنغيالد، حاكم جزيرة بيروريود ومالكها، طلبَ من أبيه غريم أن يوليه تنشئة أود ورعايته ليتبنّاه فرضي الأب بذلك، ولم تعترض لوفثاينا بل إنها حين اقترح عليها زوجها أن ترى ابنها رفضت ذلك وقالت لم أبصر في عينيه حبًا لأهل هرافنيستا، أي أهله وعشيرته. كانت رؤية أمه بقطيعته عشيرته على لسانها تُقابلها نبوءة عرّافة بأنه سيتمدُّ به العمر حتى يعيش ثلاثمئة سنة. اجتمعت رؤية المرأة ونبوءتها ليكوّنا شخص أود ويُعليا من شأنه رغما عنه. ما رغبَ أود في أن يعيش بمعزل عن أهله، لكنه وجد نفسه ينشأ في كنف مربيّه إنغيالد وآسموند ابنه الذي اتّخذه رفيقا وأقسم معه على قسم الأخوّة. ورفض أيضًا أن يسمع نبوءة العرّافة بل هددها بالضرب إنْ تنبأت له، لكنها أبت إلا النبوءة وأبى إلا الضرب جزاء ذلك. احتدَّ بأود الغضب حين قالت له العرّافة بأن جمجمة حصانه فاكسي ستكون سببا في مهلكه في جزيرة بيروريود، فأخذ الحصان وذبحه ثم دفنه وأقام عليه تلًا، ثم غادر الجزيرة برفقة أخيه آسموند وقد آلى ألا يعود إليها أبدا. لم يدرِ أود أنّه حين رفض النبوءة، ولم يترك نفسه تميل إلى العيش بجوار عشيرته في جزيرة هرافنيستا فما زارها إلا لغاية لا محبة وإذا انتفت الغاية ظلّ بعيدا عنها، لم يدرِ أنه قد وضع قدمه في درب تحقّق النبوءة التي رفض الإنصات إليها، وأنه ساعة أراد الابتعاد عنها اقترب منها. سرعان ما اعتنقَ أود حياةً ستخلّد ذكره بالصيت الجليل والعمر الطويل. شرعَ في الغزو والإغارة فقصد بلادَ بيارما ونهب ثرواتها فالتصق به هذا الصنيع بين قبائل الشَّمال وأعلى من شأنه، فصار يعرف بأود الذي غزا بيارما وقتل البيارميين. ثم خرج في طلب الأبطال لمُقاتلتِهم وإفناء ذكرهم وإعلاء ذكره، فما يُسكت أنفاس أحدهم بحدّ الحسام حتى يرجع يسأل عن غيره، وهكذا دواليك حتى صار أشهر رجال الشمال وأقواهم. عرفَ في هذه الرحلة البطولية رجالا اتّخذهم رفاقا وإخوانا، وصحبا يشدّون من حوله الصفوف في حومة الوغى واشتداد القتال. غير أنَّ لكل مكسب ثمنا لا بد أن يُدفع، فكلما كثر الإخوان امتدت ساعة الأحزان، فما مات أحدهم إلا ترك في نفس أود حزَّة ألمٍ. يموت الإخوة والصحب ويبقى أود، يموت الأحبّة ويعيش أود، يفنى الابن ويحيا الأب أود. اكتسب أود المجد لكن خسر دفء الرفقة، وقتلَ الأعداء لكن زال عن جانبه سيفُ الأخ. امتدَّ بأود العمر واشتهار الذكر غير أن شوط أساه امتدَّ أيضًا. أدرك أود بعد شوط طويل أنَّ عليه العيش وحده، ومصاحبة نفسه والاستئناس بها، أن يعتزلَ الناس ويهجر الإخوان، وألا يتّخذ بعدُ أخًا حتى لا يفجعُ بموته وخسارته. قصد أود الغابة يتّخذها وطنا بعد طول تطواف بين البلاد وسكنى في قصور الملوك ومساكنهم، ويلبس لحاء الشجر لا نفيس الثياب، أراد أن يبعد نفسه عن الدنيا والناس. لكن طبعه يغلبُ عليه فخرج من الغابة ليعيش في ثوب رجلٍ آخر، رجل ليس له اسم أود ولا صيته الشهير. تجعلنا حياة أود نطرح سؤال ما قيمة التعمير في الأرض إذا صاحبه موت الأحبّة والخلّان؟ وهذا يهدينا إلى سؤال هل قيمة الحياة في صحبة الأحبّة والخلّان؟ تقول الشاعرة صافو اليونانية: الموت شرٌّ. هذا قرار الآلهة/ وإلا لأحبّت أن تموت. لكنه في قصة أود خيرٌ إذا كان الخلود شخصيا لا جماعيا، وإذا كان على الإنسان أن يخلدَ وهو يرى من حوله يموتون. إنَّ ثنائية الموت والحياة والفناء والخلود يدفعان المرء في التفكير جليَّا في صفة كلٍّ منها، في خيرها وشرّها، وفي أفضل هيئة لها، ويسعى لجواب كيف يحيا وكيف يموت وكيف يخلد ذكره وهل يرضى بانطماس ذكره بعد الموت، أن يرضى بفناء لا ذكر بعده، وأن يسأل عن معنى الحياة وما وراءها من حساب وخلود في نعيم أو عذاب. لا تطرح السيرة أجوبة عن مثل هذه الأسئلة التي تثير نقعَها وقائعُها، وما جوابها إلا عند متلقّيها إنْ كانت له أذن واعية. لم يخلد أود لكنّه عمّر ثلاثمئة سنين، وهذا التعمير منحنا معنى الخلود الأرضيّ، أن تخلدَ في الحياة أي أن تخلد في الحزن، إذ لك في كلّ زمن أحبة يأتي عليهم الموت ولا يطويهم النسيان في قلبك، ولو طواهم لحلّ غيرهم ورحلوا، فيتراكموا جماعة بعد أخرى جميعا معا في قلبك. كانت النبوءة شقاء أكثر منها نعمة توهب لأود. تتجلى ملامح الشقاء في عين أود حين يزور بيروريود آخر مرة، زيارة الهلاك، وقد نسى إيلاءه ألا يزورها، فأخذ يتذكّر طفولته وصباه ويدلّ رفاقه على مواضع الأيام الأُولى، ذاك موضع حقل إنغيالد، وذاك المنزل، وتلك بحيرة سبحت بها برفقة آسموند أخي، وهناك رشنا السهام، وهنالك ترامينا، وهنا وهناك ووقوف طويل على الأطلال. يكاد يشعرُ المرء أن عربيًا تلبّس أود وهو يقف على أطلال الصبا ويستذكر أحبّة غيّبهم الموت، تعتلج الأحزان في نفسه فتتداعى عليه ذكريات المراتع والمرابع وأهلها، فما يملك الساعة منهم شيئا إلا ذكرى. يعمّر في الحياة وتعمّر به ذكرى أضحت أحزانا. حينئذ تحلُّ ساعة موت أود واللحاق بالرفاق، ولأنه كالعربي ذي الطلل الأسيان يجمع صحبه ويطلب منهم الإنصات لقصيدة أيامه وحفظها عن ظهر قلب ليبلّغوها قومه. ما أراد أن يُنسى لكن أن يُذكر بلسانه لا لسان غيره. يموت أود وينتهي حزنه ويبقى من بعد ذكره، في خلودٍ أرضيّ حقيقيّ لا تعمير فانٍ لا تتخلى عنه الذكريات.            

تمثلت العلامة الثانية المميزة لحياة أود في شخص أُغمَند، فسلخ أود أشواط حياته المديدة يسعى إلى الثأر منه. ونلاحظ ها هنا أمرين مهمين أن أغمند معمّر مثل أود، وأنّ أود عجز عن أن يعلو عليه، كلُّ ذلك يجعل لتعمير أود غاية هي الثأر من أغمند الذي كان السبب في غالب أحزانه بل إن أغمند هو نقيض التعمير. سأعود إلى هذه النقطة. يروي غراني الأصهب لأود كيف وُلدَ أغمند “إنّ مبدأ حكايته موصول بخبر ملكٍ يقال له هارك حكم بلاد بيارما حيث غزوتَ غزوتك المشهورة، وتذكر ما ألحقته بالبيارميّين من ضرر وشر. حين غادرت بلادهم واجتمع أمرهم أبصروا خسارتهم الفادحة، وما أحبّوا شيئًا إلا الانتقام منك لو وسعهم إلى ذلك سبيل. فاسمع لصنيعهم، جاءوا لملكهم بعملاقة تعيش عند مهوى نهر هدّار، وعملوا فيها سحرهم وشعوذتهم، فنام الملكُ معها في فراشه وأحبلها ابنًا. حين ولدَ الصبي نُضحَ بالماء وأسمي أُغمَند. ما شابه أحدا من الناس منذ نعومة أظفاره، كما قد تحسبُ من أمه، وكان أبوه رجلا كثير الأضاحي بل أعظم الناس. حين بلغ أُغمَند الثالثة أُرسل إلى فنمارك حيث تعلّم كلّ فنون السحر والشعوذة، وحين صار في سنّ التدرّب رجع إلى الديار في بيارما. كان في السابعة من عمره كأي رجلٍ تامِّ البلوغ، وقويا شديدا صعبَ المراس. ما جَمُلتْ هيئته حين مكث مع أهل لاب إذ كان أزرق اللون مسودًّا، بشعر أسود طويل، وعوضا عن شعر ناصيته نبتت له كُبّة عُشب- تدلّت على عينيه، ومنها لُقّب أُغمَند الجميم. عزم القوم بعدئذ على إطلاقه في أثرك ليلقاك فيقتلك، وإنْ كانوا على يقين أنّك لن تُقتلَ إلا بعد أن تستنفد جهدهم وتكدّهم. ما كان لهم من بدّ من تقوية أُغمَند بالسحر فليس يؤذيه الحديد ولا السلاح، ثم صاروا يضحّون له وابتنوا له مذبحا فما عاد بشرا فانيا”. كان ميلاد أغمند ردًا على غزو أود بلاد البيارميين، فجاءوا به إلى الحياة لهدف واحدٍ هو أن ينتقم من أود، والانتقام منه لا يقتصر على قتل أود وحده بل وفي أذيّته بقتل صحبه. لم يفت في عضد أغمند فأنزلَ بأود كل ضر وشر وموت وشقاء، فشهد مقتل رفاقه واحدا تلو آخر على يد أغمند ورجاله، بل قُتلَ قُبالته حتى ابنه العملاق فيغنر على يد أغمند. تغيّرت أسماء أغمند وألقابه على تغيّر أشواط حياته، فشوط عُرف باسم أغمند هلاك إيثيوف، وفي آخر عرف باسم أغمند الجميم، وفي شوط أخير عُرف باسم كفيلانوس، ولكلّ شوط ارتباطه الوثيق بأود، سواء هو الساعي في أثر أغمند أو العكس بالعكس. استطاع أود قتال غريمه، وهزيمته، وتخريب حياته، وحتى أذيّته في جسده لكن لم يستطع قتله، لأنه كما يوصف شيطان لا إنسان، روح لا جسد، شبح لا مخلوق. صار أغمند عند ذاك ضديد أود ونقيض التعمير، فلهذا التعمير نقيصة متمثلة في شخص عجزَ المعمّر الباسل أن يغلبه ويقهره ويقتله، كان دائما متأخرًا بخطوة أو أضعف منه بدرجة تُعجزانه عن بلوغ غايته ونيل الثأر، الذي بدأ بطلب أغمند لأود وانتهى بطلب أود لأغمند. لكن من هو أغمند في الحقيقة؟ ترد في أساطير الإله ثور، التي رواها سنوري ستورلوسن في كتابه Prose Edda، أنه زار قصر العملاق أوتغاردا-لوكي وشارك في ثلاثة تحديات في قصر العملاق ليثبت قوته، غير أنه فشل فيها. وهذه التحديات رفع قطة، والشرب من قرن الشراب، ومصارعة عجوز. كان ثور متحمسا لإثبات قوته بعد أن فشل في أول تحديين، ورأى أن من السهل أن يصرع العجوز فيغلبها، غير أنه كلما أراد صرعها ازدادت ثباتا في الأرض ورسوخا، حتى أعيته وخسر التحدي الثالث. كشف له العملاق أن القطة هي الثعبان ميثغارثسورم المحيط بأرض البشر، وقرن الشراب موصول بماء المحيط، أما العجوز فهي الشيخوخة، ويعجز الإنسان عن غلبتها حتى لو كان إلها، وما شادّها أحد إلا غلبته. ولو قابلنا بين العجوز وأغمند وربطنا بينهما لما أبعدنا النُّجْعة، وتراءى لنا أغمند لا نقيض التعمير وضديد البطل حَسْب بل وفي أنه صورة حيّة لطلب المُحال والنقص الملازم للإنسان. عمّر أود رغم أنفه وتعايش مع هذا التعمير غير أن أغمند نغّص عليه عيشَه بقتل رفاقه، وبذّ الرجال والأبطال في ميادين الوغى والمنافسة لكن بقي عاجزا عن قتل أغمند وتثبيت عرش البطولة المطلق، وما طلبَ أود شيئا إلا ناله إلا الثأر من أغمند. لمَ عمّر الغريم أو لعلّه خلد؟ سؤال لا جواب له إلا في أن وجوده تأكيد لأود بنقصه وقصر يده وضعف طلبه، وأنه سيعجز حتى لو عمّر عن أن يبلغ الغاية في الحاجة والخلود. صار أغمند شخصا كائنا للتعمير الذي ناله أود، فللتعمير ضريبة لا بد أن تُدفع وهذي الضريبة في معايشة التعمير نفسه وقد صار شخصًا، وعاجزا عن هزيمته وقتله، فقتلُ أغمند هو انتحار أود، وما كان لأود أن يموت قبل أن يعيش العمرَ المقدّر له، وما كان لأغمند أن تنتهي وظيفته إلا بموت أود، فهما في الحقيقة شخص واحد على اختلاف طبيعتيهما وحياتيهما. شيء ونقيضه، الحياة والموت، الشجاعة والجبانة، الخلود والفناء، البلوغ والقصور، لذا بقي أود في نقص لأنه طلبَ ما لا يُطلب وسعى في أثر ما لا يُدرك، وأن غريمه هو نفسُه، فكلا أغمند وأود صورتان مضادتان لا يفنيان بعضهما إلا بفناء الأصل، وهو أود في هذه الحكاية. فماذا فعلَ أود بعد أن أدرك محال المنال؟رضي بالصلح مع أغمند الذي صار يُعرف باسم كفيلانوس، ورضي منه بالهدايا وكفَّ عن طلبه، لأنه أقرّ في آخر المطاف أنّه غريمه شيطان لا إنسان. عند ذاك بلغَ أود شوط عمره الأخير، وقرَّرَ أن يعيش مثل سائر الناس. أنجبَ ولدين من زوجته، ثم عنَّ له أن يرحل إلى جزيرة عشيرته هرافنيستا، ثم أخذه قدره إلى جزيرة النبوءة بيروريود حيث مات ولحق رفاقه الذين ماتوا من قبله. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى