كان على آن برونتي أن تعاني في حياتها القصيرة كثيرًا، بيد أن هذه المعاناة لم تتوقف في حياتها فلاحقتها بعد مماتها حين بقيت طويلًا في ظل أختيها، شارلوت وإيميلي، وكلما ذُكر اسم برونتي توجَّهت الأبصار نحو شارلوت وإيميلي، ويجهل الكثير من القراء حول العالم وجود أخت ثالثة روائية وشاعرة لم يكن إنتاجها الأدبي أقل من أختيها، بل وأثارت روايتها نزيلة قصر ويلدفيل من اللغط أكثر مما أثارته روايات أختيها فور صدورهما، الأثر الذي نتبيَّنه في رفض شارلوت للعمل ووصمه بالغلطة الكاملة ورفضت منح الإذن بإعادة نشره بعد وفاة أختها. بقيت آن برونتي تقاسي في الظل ولم تُنشر سيرة حياتية عنها إلا بعد مرور أكثر من مئة سنة عندما نشرت إيستيلي ترست Estelle Trust سيرتها في عام 1954، ثم لحقتها وينفرد جيرن Winifred Gerin في عام 1959 ثم تكاثرت كتب السيرة والدراسات عنها، وأعيد تسليط الضوء عليها على نحو أسطع من قبل وإن لم ترتقِ حد اللحظة إلى المقام الذي تستحقه. وقلة من الأدباء الذين أشادوا بها بما هي أهل له منهم الروائي الآيرلندي جورج مور (1852-1933) حين كال لها المديح ولروايتها “أغنيس غري”: ’إن أغنيس غري ذات السرد النثري الأكمل في الأدب الإنجليزي؛ سرد واضح وجميل مثل ثوب موصليّ (موسلين)، وندرك حين نطالعه أننا أمام عمل عظيم. لم تخط سوى العبقريةُ هذه السطور بسلاسة كبيرة دون أي عائق. إنها القصة الوحيدة في الأدب الإنجليزي المحافظة على كمالها في الأسلوب والشخصيات والموضوع. ولو عاشت آن عشر سنوات بعد لأصبحت جين أوستين أخرى أو ربما في مقام أعلى‘.
في كتابه الأخير، Anne Bronte At 200، يقدم الكاتب الإنجليزي نيك هولاند، عرضًا سيريًا لحياة هذه الكاتبة، مردفًا إياه بفصول ختامية عن المقالة الأخيرة التي يرى نيك أنها آخر ما كتبت آن، عثر عليها في عام 2017 في West Riding County Council Library التي تضم مقتنيات للأخوات برونتي. وفصل من المدونات الإرشيفية كتبها أناس التقوا بآل برونتي.
لربما تُشكل حادثتان نذير شؤم لسوء الحظ الذي ستواجهه آن في حياتها الشخصية والأدبية بعد وفاتها، تمثَّلت الأولى بوفاة والدتها بعد أن ولدت آن، ابنتها الأخيرة من بين ستة أطفال، في السابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1820، وسأتطرق إلى الثانية في آخر المقال. كانت هذه الوفاة نذيرًا بانقلاب حال الأسرة وبداية سلسلة من المآسي لم تفارق آل برونتي ودائما ما كانت مضاعفة. قدمت بعد وفاة الأم ماريا أختُها، إليزابيث برانويل، لتساعد في تربية الأطفال وتدبير شؤون بيت الأب الخوري باتريك في هاورث حيث انتقلت العائلة بُعيد ولادة آن في بلدة ثورنتون. (كما أنها كانت محسنة كريمة بإعانتها أسرة صهرها ماديًا فكانت تصر على دفع إيجار حجرتها في منزل باتريك [بارسونج] إذ لم ترد جرح مشاعره بإعطائه المال دون سبب). لعب فارق السن بين آن وشارلوت وإيميلي وبرانويل دورًا في ترعرعِ آن قريبةً من إيميلي كأنها توأمها وشاركتها الكثير في حياتها وتعلمت منها حبَّ الطبيعة. وبقيت طوال حياتها مقرَّبة من إيميلي، الأخت العزيزة والصديقة، ولم يُعرف عن إيميلي الانطوائية، الأخت التي بقيت بروايتها وشعرها لغزًا عصيًّا عن الحل، من هو أقرب من آن إليها. كانت نشأة آن في هاورث، القرية المنعزلة عن حياة الحضر والراحة والخدمات، قاسية على المستوى العائلي بوفاة أمها وحرمانها من الأمومة منذ ولادتها ثم وفاة أختيها الكبيريين ماريا وإليزابيث بسبب سوء التغذية والصحة في مدرسة كاون بريدج الداخلية، واستدعى ذلك تعليم الأخوات في المنزل حتى زمن انتقلن بعدها تباعا إلى مدرسة روو هيد الداخلية. ساهمت أسباب أثناء تعليم الأخوات في الصغر في تشكُّل الموهبة الأدبية لهذا الثلاثي، الذي قلَّ نظيره في التاريخ الأدبي، منها:
– كان الوالد، باتريك متعلمًا ومتنوِّرًا بإفراط بشأن التعليم فحرص على تعليم أطفاله.
– سمح لهم بقراءة مجلاته والولوج إلى مكتبته بمختلف كتبها في الوقت الذي كان فيه الكثير من الأبناء يحرمون بناتهم من الاطلاع على كتابات بايرون (الشاعر الرومنطيقي والماجن والمتمرد على أعراف المجتمع) وشيلي (المتحرر فكريا وروحانيا).
– سماح الخالة إليزابيث المحبَّة للكتب للأخوات بقراءة الكتب والتعلُّم على العكس من السمعة عنها بأنها امرأة متديِّنة جدًا وصارمة السلوك أجبرت بنات أختها على الحياكة ساعاتٍ طويلة (رسمت وينفريد جيرن في سيرة آن برونتي صورة قاتمة نوعا ما في سلوكها الديني وتأثيرها في آن).
قبل الانتقال بالحديث إلى بدايات الكتابة لدى أطفال باتريك، لا بد من التعريج على حادثة يذكرها نيك، وكان لها أثرها لا سيما في إيميلي وآن. حدث ذات يوم في عام 1824 أن خرج الصغار برانويل وأختاه إيميلي وآن للمشي في البريّة حول منزلهم حين أتى عند منحدر سيل طيني (عُرف بـسيل كرو هيل بوغ) كاد يودي بحياة الثلاثة لولا أن تداركتهم العناية الإلهية وأُنقذوا من أحد الرجال بالقرب من المكان، وكان لهذه التجربة المخيفة أثرها في حبِّ إيميلي للجو العاصف والأراضي الوعرة وحبِّ آن للبحر ومياهه وأمواجه، الحب الذي سيتعزز لاحقًا لدى أسرة روبنسون التي عملت آن مربيةً لبناتهم.
*
بدأت قصة الكتابة لدى الأخوات مع هدية الجنود الاثني عشر التي منحها باتريك لابنه في عام 1827، وبعد أن أخذها إلى أخواته استلتها شارلوت من يده واختارت جنديًا وكذا فعلت إيملي وآن، وبدأوا بكتابة مجلة “الاثنا عشر” أو ما عُرفت “اليافعون”. تولَّت شارلوت وبرانويل كتابة أعداد هذه المجلة. وتطوَّرت قصص هؤلاء الجنود حتى أصبحوا شخصيات في مملكة أنغريا Angria، ودوِّنت هذه القصص في كتب صغيرة لا تُقرأ إلا بعدسة مكبرة. وظهرت آن وإيميلي في شخصيتي القائد آني العبقري والقائد إيمي العبقري في قصص جيني لكن هذه القصص والشخصيات كتبت على يد برانويل وشارلوت حصرًا. ثم جاء في آخر المطاف ما سيشكل فصلا جديدًا في حياة الأخوات. غادرت شارلوت إلى مدرسة رو هيد في عام 1831، وشرعت الأختان إيميلي وآن بكتابة قصتهما الخاصة، وهي قصة متنامية عن جزيرة غوندال Gondal في المحيط الهادئ، استمرَّ تدوينها حتى سنين متأخرة من حياة الاثنتين، وربما لم يتوقَّفا قط كما تُلمح بعض القصصات وأوراق اليوميات المتبقيّة بيد أن محتوى قصة غوندال لم ينجُ لأسباب مجهولة من أكثرها شيوعًا هو تخلص شارلوت من كتابات إيميلي وآن بعد وفاتهما ولم تحتفظ إلا بالأشعار، ولربما كانت لتتخلَّص من روايتي مرتفعات وذرينغ ونزيلة قصر ويلدفيل لو لم تنشرا في حياة كاتبتيهما إذ نقرأ في “بيان سيرة إيليس وأكتون بيل”، الذي كتبته في عام 1850 في مقدمة روايتي “مرتفعات وذرينغ وأغنيس غري”، امتعاضًا تجاه رواية إيميلي ورفضًا كاملًا لموضوع رواية نزيلة قصر ويلدفيل، رواية أكتون بيل “آن” الثانية، حتى إنها رفضت منح حق إعادة نشرها بعد وفاة آن ولم تُنشر إلا بعد وفاة شارلوت في عام 1855. ولم يبتقَ من أوراق إيميلي وشارلوت إلا مقتطفات تعود لسنوات 1834، 1837، 1841، 1845، وهي تدوينات كُتبت على حدة من الأختين. التحقت آن بمدرسة روو هيد في عام 1836 بديلةً لأختها إيميلي، وقضت سنتين وثلاثة أشهر في التعلّم قبل أن تتخرج فيها لتصبحَ مؤهلة للعمل مربيةً ابتداء من عام 1839. شهدت هذه المرحلة تفتُّق موهبة آن الشعرية فكتبت أولى قصائدها في كانون الأول/ ديسمبر 1836 وهي “أشعار السيدة غيرالدا” والسيدة غيرالدا من شخصيات جزيرة غوندال، إلا إنَّ في قصائد آن هذه مزيج من ما بين الخيالية والوجدانية فهي تعبّر على لسان وحياة شخصياتها عن همومها وعواطفها وحياتها المُتمناة كما في رواية السيرة الذاتية “أغنيس غري”. كما كان لتعليم والدها أثر في معرفتها الرسم مثل أخيها برانويل وإن على مستوى أقل، ومقدرتها في العزف على بيانو مثل أختها إيميلي. وعلى المستوى الشخصي فإنَّ آن أكثر الأخوات تديُّنًا، أو بالمعنى الأصح الأخت المتدينة الوحيدة إلا أنَّ هذه التوجه الديني والإيمان المسيحي لم يمر دون أن يترك أثاره الظاهرة والخفيّة في طبيعة آن المتحفِّظة والمتقيّة وزاد على ذلك الاختلافات المنهجية بين الطوائف المسيحية وهذا ما جعل آن تكوُّن معتقدها بفهمها الخاص للكتاب المقدَّس، وساعدها في ذلك تمكُّنها من القراءة باللاتينية والإغريقية بسلاسة وهي الوحيدة بين أخواتها التي تجيد هاتين اللغتين. عملت آن مربية لدى أسرتين نحو خمس سنوات، وهي أكثر الأخوات استمرارًا في العمل. بدأ عملها الأول لدى أسرة إنغام في منزلهم قصر بلايك بيد أنها تجربة قصيرة وسيئة سرعان ما انتهت. انتقلت بعدها آن للعمل لدى أسرة روبنسون في قصر ثورب غرين في وظيفة مربية دُبِّرت لها بفضل ويلي ويتمان في عام 1840 وبقيت لدى تلك الأسرة حتى استقالت من خدمتها بنفسها في عام 1845 وعادت إلى المنزل في هاورث.
إن تجربة الحب لدى الأخوات برونتي، آن وشارلوت على وجه الخصوص (لم يُعرف عن إيميلي أنها أحبَّت لكنها نقلت حبًا شاذًا فظيعًا في روايتها مرتفعات وذرينغ)، وأخيهن برانويل اتَّسمت بالمأساة والبؤس والمرارة. جاء في شهر آب/ أغسطس عام 1839 ويلي ويتمان ليعمل مساعدًا للخوري باتريك حتى وفاته المبكرة في عام 1842 جرَّاء الإصابة بمرض الكوليرا الذي انتقل إليه بسبب كثرة اختلاطه برعايا الأبرشية وعيادته لهم. أحبَّت آن ويتمان حبًا لم يُعرف إن كان متبادلًا أو من آن وحدها لكن المؤكد أن آن أحبته حبًا له أثره في عواطفها وفكرها وظهر في شعرها وروايتها أغنيس غري بشخصية السيد القس ويستون الشاب الذي تتزوجه البطلة أغنيس في نهاية الرواية. نشأت علاقة قوية بين باتريك وويتمان وصفها باتريك أنها علاقة أب وابنه، وهو الوحيد الذي حظي بامتياز الولوج والقعود مع أسرة باتريك والأخوات كأنه فرد من العائلة بيد أن شارلوت انزعجت منها بسبب طبيعته التحبُّبية للنساء وقالت بإنه سيقع بغرام أي امرأة يقابلها، ويبدو أنها شعرت بالغيرة كذلك إذ تكتب في رسالة لصديقتها نيلي في كانون الثاني/ يناير 1842: “قعد مقابلًا لآن في الكنيسة متأوهًا برقة ومحدِّقًا إليها بطرف عينيه ليكسب مشاعرها- وآن هادئة جدًا ومطأطأة الرأس- إنهما لوحة”. لم يكتب لهذا الحب خاتمة جميلة وبقي قصة غير مكتملة إلا في رواية أغنيس غري.
شهدت هذه السنوات الخمس في حياة آن حوادث كثيرة منها وفاة كلا ويلي ويتمان ووفاة خالتها في سنة 1842، وبعد أن أمَّنتْ لأخيها برانويل وظيفة معلم لإدموند، ابن أسرة روبنسون في عام 1843 حين كانوا يبحثون عمن يتولى تعليمه، انقلبت هذه المعونة التي أسدتها الأخت لأخيها التعيس وبالًا عليه حين تعلَّق قلبه بالسيدة روبنسون (ليديا). ويبدو أنَّ العلاقة أخذت منحًا لم يعجب آن وتسترت عليهما حتى بلغ السيل الزبى ولم تستطع أن تستمر في فعل ينافي تعاليمها المسيحية التي تؤمن بها. فأنهت عملها في آخر المطاف في عام 1845 (طُرد برانويل من بعد شهر من مغادرة آن والسبب في الأرجح انفضاح أمره). أما أهم حوادث هذا السنوات حين اجتمعت الأخوات بعد عام 1845 وقررن الشروع في مسيرتهن الأدبية وأن يصبحن مؤلفات، الحلم الذي راودهن منذ الصغر، نشرن في البداية ديوان شعر مشترك تحت أسماء مستعارة (كان اسم آن أكتون بيل) لم يلقَ نجاحًا تجاريًا ولا اهتمامًا أدبيًا، ليتحولن إلى الرواية التي بدأت تلقى رواجًا، فنشرت آن رفقة أختيها، بذات الأسماء المستعارة التي ظهرت في الديوان المشترك، رواية “أغنيس غري” في عام 1847 ثم نشرت في العام التالي رواية “نزيلة قصر ويلدفيل” الرواية التي سبَّبت ضجة ولغطًا لموضوعها الاجتماعي الصريح وسرعان ما نفدت نسخ طبعتها الأولى، وأعيد طبعها مرة ثانية مباشرة لكن هذه المرة بمقدمة قوية مما جاء فيها: ’رغبتُ بقول الحقيقة فدائما ما تُوصل الحقيقة حمولتها الأخلاقية إلى أولئك القادرين على تسلُّمها. فكما الكنز الذي لا يُقدر بثمن عادةً ما يكون مخفيًا في قاع بئر، ويتطلَّب الأمر شجاعةً للغوص من أجله لا سيما وأن من سيجرؤ على الغوص سيكون عرضة للملامة والمذمة من الناس بسبب انغماسه في الطين والماء ثم سيُحمد حين يخرج بالجواهر؛ كذا الحال معي. ولنفرض جدلًا أني مؤهلة لإصلاح رذائل المجتمع وأخطائه بيد أني لن أشارك بحسن خاطر إلا بنصيبي من أجل هدف سامٍ كهذا، وإذا تمكَّنت من جعل العامة ينصتون إليّ سأفضلُّ وقتها أن أهمس بإيجازٍ الحقائقَ الكاملة على الإسهاب في الهراء الناعم. وعندما نضطر للتعامل مع المعاصي والآثمين، فإني أحرص جهد إمكاني أن أصفهم كما هم تمامًا حتى ليتمنى الواحد منهم لو لم تلده أمه. وأن تمثِّل الشرور في أقل مساوئها فبلا شك سيمضي للروائي في أكثر مسار قبولًا، لكن هل هذا المسار هو الأصدق أو الآمن؟ أمن الأفضل أن يكشف أحابيل الحياة ومخاطرها للشباب والرحَّالة المتهورين أم أن يسترها بالأغصان والأزهار؟ أيها القارئ! كلما أخفينا أقل عدد من الحقائق الهامسة “أمان أمان” حيث لا أمان؛ ارتشف الشباب أقل قدر من التعاسة والخطيئة من كأس التجربة المرير. وليس في نيتي أن أُفهم بأنَّ صنائع الوغد التعس في روايتي ورفقته الفاسقة هي عينة عن صنائع مجتمع برمَّته، وكما أنا واثقة بأن المكتوب لن يفهم على هذا النحو فكلي ثقة من وجود أمثال هذه الشخصيات، وإذا ما استطعتُ تحذير شاب طائش من اقتفاء أثرهم أو منع فتاة غريرة من الوقوع في الفخ الذي وقعت فيه بطلتي، سأعلم وقتها بأن روايتي لم تُكتب بلا طائل. وحينما أشعر أن من واجبي التفوه بالحقيقة غير المرغوب بالاستماع إليها سأنطق بها بمساعدة الرب، وإن جرَّ ذلك على اسمي تحيُّز وخرَّبتُ عليَّ والقارئ متعةَ القراءة اللحظية‘. سعت آن أن تجعل من روايتها وسيلة للإصلاح الاجتماعي والتحذير من رذائل، مستمدة مادة روايتها مما شاهدته في مجتمع أسرة روبنسون، وحال أخيها، وكذلك قصة إحدى خالاتها التي تزوجت في أمريكا وأنجبت أبناءً ثم فرَّت بابنها الصغير عائدة إلى إنجلترا وابتدأت بعملها الخاص بمساعدة أخواتها. ولهي رواية جديرة بالاعتبار ومن أوائل الروايات النسوية إن لم تكن الرواية الأولى التي كان لها أثرها ودورها في تشكيل وعي نسويّ تجاه الأزواج الفاسقين في المجتمع الفيكتوري في القرن التاسع عشر، والعنف الزوجي، وإساءة تربية الأبناء.
طلَّت المأساة على آل برونتي للمرة الثالثة حين انتهى المطاف ببرانويل ميتًا جرَّاء الحب وإدمان الخمر والأفيون (من الوارد موته بالسل أيضًا) في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1848، ثم لحقته إيميلي سريعًا بعد أقل من ثلاثة أشهر بسبب مرض السل، ثم حلَّ دور آن بإصابتها بالسل أيضًا لكنها قاومت المرض عكس أختها. أقنعت آن أختها شارلوت وصديقتها نوسي في الذهاب في رحلة إلى سكاربرا، المنتجع السياحي الساحلي ذي نبع المياه المعدنية (عرفته عندما كانت لدى أسرة روبنسون وقضت ستة أسابيع سنويا أثناء عملها مع أسرة روبنسون هناك)، امتثالا لنصيحة الطبيب في تغيير الأجواء التي قد تساعد في تخفيف حالتها الصحية لا شفائها إذ إصابتها بمرض السل مُهلكة فما كان لهذا المرض من علاج وقتها. شرعت الثلاث في رحلتهن في الرابع والعشرين من أيار/ مايو 1849 وقضت أيام في منتجع سكاربرا الساحلي آخر أيامها قبالة البحر الذي أحبته وأمواجه. وتوفيت في التاسع والعشرين من الشهر نفسه وفاةً هادئة في غرفتها ذات النافذة المفتوحة على بحر الأزرق. قررت شارلوت أن تُدفن آن في سكاربرا، وهي الوحيدة من عائلتها التي دفنت خارج هاورث. وعودٌ على بدء، فإن الحادثة الثانية التي شكلت طالعًا سيئًا على حياة الأدبية المقبلة كان حين تكفَّلت إلين نوسي في إعداد بيانات المتوفية ووقعت في خمسة أخطاء دون علم شارلوت، أشهرها الخطأ المحفور على شاهد قبرها أنها تُوفيت بعمر الثامنة والعشرين والصحيح أنها توفيت بعمر التاسعة والعشرين. صححت شارلوت أربعة أخطاء بعد زيارتها قبر أختها في عام 1852، وبقي شاهد القبر يحتوي هذا الخطأ ويمكن للزائر قرائته حتى وقت قريب بيد أنَّ تأثير المناخي أدَّى في آخر المطاف إلى تفتيت المكتوب على الشاهد الحجري، وثُبتت قطعة من آل برونتي فوق القبر مدوَّن عليها ما كُتب وقت وفاة آن مع ملاحظة حول الخطأ.
يبدو نيك هولاند متفائلًا كثيرا في نهاية كتابه حين يتوقع أن تحتفظ روايتي آن برونتي بأصالتهما بعد مرور 2000 سنة على ولادة آن برونتي، فهل حقًا ستعيش البشرية حتى عام 3820؟ من يدري! مع أني لا أتوقع ذلك.