روايات

رواية سرسي وإعادة إبداع الأساطير والأدب

تحكي رواية سرسي لمادلين ميلر، الرواية الثانية التي اشتهرت لها بعد أغنية أخيل، قصةَ الإلهة الساحرة سرسي ابنة هيليوس حاكمة جزيرة أيايا. لا يغيب اسم سرسي عن ذهن عارف بالأساطير اليونانية وقارئ لملحمة الأوديسة لهوميروس، وسيذكر لا ريب كيف كانت تمسخ الرجالَ حيواناتٍ، ولولا أنّ الآلهة أرادت لأوديسيوس مصيرا آخر لناله ما نال رجاله قبل أن تعيدهم إلى بشريّتهم. ساعدت سرسي أوديسيوس ليصل إلى العرّاف تيريسياس، وأرشده الأخير إلى السبيل الذي يفكّ به لعنة إله البحر بوسيدون. لا تظهر سرسي عند هوميروس غير أنّها إلهة وساحرة في عالم قاسٍ دمويّ يعجُّ بالآلهة الغضوبة والوحوش والسحرة، وليس حظّ أوديسيوس منهم، ولا الآخيين والطرواديين من قبل، إلا صراعا مستمرا وإرضاء لتقلب أمزجة آلهة الأولمب فتلاعبت بمصائر الرجال والأمم. وما ظهرَ لنا من هؤلاء الفواعل العلويين إلا ما تعلّق بأوديسيوس التائه في البحار والمترحّل بين الجزر في سعيه في سبيل العودة إلى موطنه في جزيرة إيثاكا. تبقى الأسئلة عنهم معلّقة بلا أجوبة وحيواتهم الماضية مستورة إلا النزر القليل الذي كُشفَ عنه، فسعى أدباء منذ القِدَم إلى إبداع تلك الحيوات المجهولة، وتبيين المعلن منها وتفسيره، وإعادة تأويل الأحداث بما يتوافق ومزاج العصر وعقل المُبدع. تُروى الحكاية مرة تلو أخرى، في عصر بعد آخر، منسلّة من قلمٍ إلى قلم، وما الأدب، في كثير من صوره، إلا إبداع مستمر، لكنه إبداع محكوم بعالم مُبدعه الداخليّ والخارجيّ. شهدت العقود الماضية عودة مكثّفة إلى الأدب القديم والأساطير وتأويلهما لا سيما مع ظهور تيارات فكرية وأدبية مختلفة تسعى إلى رؤية الأدب والأساطير رؤية تنتزعها مما تكلّس حولهما وتنامى على مرّ العصور والأذهان، والرغبة في الوصول إلى جوهر الحكاية والأسطورة، والإجابة عن أسئلة من نمط كيف انبثقت، ولم تشكّلت على هذا النحو، ثُمَّ ماذا ولماذا، وغير ذلك من أسئلة تروم سبك الجديد والتأويل المستحدث الذي لا آخر له لكل ما مضى. تعمل تفاعلية الفَهم والنص على إنتاج نصٍ جديد يتجاذبه تباين الأفهام والأهواء، والرغبة في روايته لكن بصوتٍ جديد، صوت الشخصيّة أو المبدع، لنسمع قصة نعرفها لكن من وجهة نظر أخرى وزاوية لم نتفطّن لها، ولو تفطّنا لرويناها نحن أيضا بما نظن أنّه كان وسيكون.         

قادني العمل في روايتي، التي لا تخرج من حقل إعادة التأويل والرواية لما كان أسطورة يوما وحكاية، إلى قراءة رواية سرسي، ولأن الشخصية الرئيسة في عملي تشبه في بعض محطاتها سرسي فقد بدت القراءة اطلاعا على صورة من صور عملية إعادة الإبداع، ولفَهم أفضل لتجربة الكتابة نفسها، فما تفعله أنت ويفعله الآخر لا بد أن يلتقي عند نقطة ما، وما دامت الكتابة تعلُّمًا وديمومةً فتغذيتها بما يشحذها ويرتّب صفوفها ويشذّب أطرافهاـ سبيلٌ يجبُ طرقه، وما من عقلٍ يسعُ العالمَ وحده، ولا فشل إلا في إنكار أنّ فوق كل ذي علمٍ عليم. غير أنّي لم أرغب في قراءة الرواية لأتعلم ماذا أفعل، إذ إنني قرأتها بعد الانتهاء من عملي، بل لأرى ما جواب الكاتبة لسؤال لماذا نُعيد رواية حكاية قديمة أو نبدع روايتنا لشخصية قالت قولها منذ مئات السنين أو حتى آلافها، وصارت قصتها في حكم المنتهي، وكل ما سنفعله لن يغيّر في الأصل لكنه يسمح في إبصار خاصٍ يُشرق من بين طيّات آلاف بل ملايين القراءات التي انتهبت القصة وشخصيتها وما تركت فيها مغرز إبرة لم يمتدّ إليها مِشرط. لا تروم إعادة الكتابة تغييرًا بل فَهمًا آخر، ولا يكون هذا الفهم الجديد إلا بالقراءة الجديدة، فيتحتّم وجود نصٍ جديد. فمن يروي إذًا، أنا أو أنت أو صاحب الشأن نفسه؟ لن يسمع المتلقي القصة التي سمعها من قبل من أفواه مبدعيها إلا إذا جاءت على لسان الشخصية نفسها، سرسي في المثال بين يدينا. 

تروي سرسي قصّتها منذ طفولتها ثم نفيها إلى جزيرة أيايا ولقائها أوديسيوس وإنجابها ابنا منه ثم لقائها تليماكوس وبينيلوبي، وما بينهما وبعدهما من أحداث كانت سرسي بؤرتها وراويتها، فلا يفصل بينها وبين المتلقي فاصل أو سارد يتولّى الحديث بلسانها نيابة عنها، ليتعزز بذلك صدقها ووثوقيّتها. يعمل السرد المباشر بضمير المتكلم على تجاوز عوائق الموثوقية بين المرسل/ الراوي والمتلقي/ القارئ، ومع أنه قد يكون مخادعا وغير ثقةٍ في أحيانٍ لكنه أقرب إلى الصدق في غالبها، ويترك الشخصية تروي قصتها من دون وسيط يتدخّل فيغيّر أو يخفي أو يزيد من تلقاء نفسه. يقول لورانس بلوك في كتاب كتابة الرواية إنّه يفضل قراءة روايات الكتّاب المبتدئين بضمير المتكلم لأنها ستكون أكثر انسيابية وإبداعيّة لأن من يحكي قصته أعرف الناس بها وأعلم بنفسه وقدراتها. غير أنها قد تكون أيضا مدعاة للكذب أو تزييف الحقيقة، فيصبح السرد غير المباشر بضمير الغائب أو على لسان راوٍ عليمٍ أقرب للصدق والموثوقية، والمسألة تختلف من رواية إلى أخرى وحدث إلى آخر. ولو رجعنا إلى أوديسة هوميروس وتنوّع أساليب الخطاب والحوار فيها، فتارة ينشدُ الشاعر وتارة يترك شخصياته تتكلم. بعد أن يعود أوديسيوس إلى إيثاكا ويجتمع بزوجته يشرع في إخبارها عما جرى عليه من أهوال وما فعلته به سنين الترحال والتيهان في البحر، ومؤكِّدا أنّه ما زال يُحبّها. قد يرتاب المتلقي من كلام أوديسيوس حين يسمعه بنفسه يقول لبينيلوبي إنه يُحبها، لا سيما مع ما اشتُهر به من دهاء وحيلة ولجوئه إلى الكذب إذا ما اضطُر إليه. جعلَ الشاعر اعتراف أوديسيوس لزوجته بإخلاصه لها وحبّه على لسانه هو الراوي العليم لا شخصيّته، وبضمير الغائب، فيقول في معرض حديثه عن حاله مع الإلهة كاليبسو التي حبسته في جزيرتها نحوا من ثماني أعوام:  

“… وعدته أن تجعله خالدًا، لا يشيخ طوال عمره، 

نعم، لكنَّها قط لم تربح قلبه الذي بين جوانحه، إطلاقا…” 23:380 الأوديسة

وهذه التفاتة ضمنية من الشاعر داعمة موقف بطله في الإخلاص لزوجته. 

إنّ إدراك أهمية الفوارق في أساليب السرد والخطاب والضمائر وتأثيرها يعزز أو يقوّض صدق الرواية، وما تقوله الشخصية، وكلما كان الراوي قريبا من القارئ تعزّزت الصلة بينهما. يرجعنا هذا إلى سؤال من الذي سيروي عندما نعيد كتابة، فلن يكون جديرا بالرواية إلا صاحبها نفسه، وعلى لسانه هو سنسمعها مرّة أخرى لنعرف ما لم نعرفه، ونفهم ما لم نفهمه. لا شك فإنّ هذه الرواية الجديدة لن تكون أصلا إنما صورة من صور الإبداع، فما أنطقَ الشخصيةَ إلا كاتبها الجديد، وإنْ بدت بعض الشخصيات متحرّرة من كاتبها وتتنامى قصّتها من تلقاء نفسها إلى حدٍ كبير، فيتطوّر النص بتفاعله أجزائه الداخلية من أحداث وشخصيات ويحتكم النص نفسه إلى منطقٍ سرديّ يتحكّم به. كلّ ذلك بحاجة إلى قلمٍ مبدع وعقل أصيل يخرجُ بروايةٍ جديرة بالقراءة وقمينة بالاعتبار، ورواية سرسي إحداها. 

ولعل سائل يسأل هل النص الجديد إبداع، أو إن الأصل في الشخصية وقصتها المعروفة؟ تعرّض مصطلح الإبداع الأدبي إلى انزياحات دلاليّة واستقرّ به المطاف في عصرنا إلى أنّه الإبداع التام الجديد، وإعادة الرواية والاقتباس تقوّض الإبداع لا سيما في عصر الهوس بالملكية الفكرية، وهي مسألة شائكة لن تحظى بإجماعٍ غالب. لا أعني بحال من الأحوال الانتحال أو السطو الفكري أو السرقة الأدبية إنما تجديد فكرة أو إبداعها في ثوب مختلف عن الأصل. يجعلنا مرور الزمن وموت مبدعي الشخصيات والقصص في فسحة من الأمر عند التعامل معها في معزل عن مبدعها، وإحيائها من أجل تقديم رؤى جديدة لا سيما مع الأمثلة التي صارت فكرة إنسانية وموضوعا أكثر منها شخصيّة أو قصة. وليس في ذلك قصور خيال وضعف إبداع إذا ما جاء النص الجديد مستوفيا لعناصر الإبداع والجِدّة والضبط والإتقان والإمتاع. فما غاية الكتابة المُجدِّدة عشوائية غير محددة الملامح والوجهة ولا هي غاية في ذاتها، بل لا بد أن يكون لها هدف تتجلّى أبعاده في السطور. 

يشغل أوديسيوس بحياته المديدة في حرب طروادة ورحلة العودة إلى إيثاكا إلى زوجته بينيلوبي التي انتظرت نحوا من عشرين سنة- مادةً دسمة عند إعادة الكتابة، ويسع القارئ التمييز بين أوديسيوس الذي قرأه الرجال وأوديسيوس الذي قرأته النساء. احتفظ أوديسيوس الرجال بما كان عليه في الأصل من دهاء وحذاقة وحيلة، فأبقاه أوفيد في كتابه التحولات على هيئته الأولى من حكمة ومقدرة خطابية تسلب الألباب، وساقه دانتي أليغييري إلى مصيره المحتوم مصوِّرًا إياها في توقٍ إلى المعرفة واكتشاف المجهول، وعند ألفريد تينسون في رغبة للعودة إلى البحر ولا يليق به مجالسة المدفئة بعد تلك السنوات فعواصف نفسه لا يُسكنها إلا عواصف البحر والرفاق. جاء عند الرجال ليكمل مسيرته في الذكاء والمغامرة واكتشاف المجهول، فأوديسيوس مثال للرجال في كثير من صوره، لا سيما مع زوجة وفيّة صابرة تنتظره في غيابه. نموذج ذكوريّ وفحل شجاع وزوج محب وأب مُربٍّ. أما أوديسيوس النساء فهو مختلف، وسعت أكثر من كاتبة إلى تقويض صورته بالتركيز على السمات السيئة فهو كذّاب ومحتال ومخادع ومجرم وغير وفيّ لزوجته، ليس لحيلة الحصان الخشبي العملاق التي استطاع الآخيون بفضلها اقتحام مدينة طروادة الحصينة وتدميرها وإفناء أهلها بل لبيان عيوبه رجلًا وأنّه لا يستحق أن تنتظره زوجته، وهل من رجلٍ يستحقُ أن يُنتظر! شكّل أوديسيوس هاجسا أو حتى عقدة نسويّة في العصر الحديث فراحت مارغريت أتوود في كتاب البينيلوبية إلى الاستفراد بأخطاء أوديسيوس والتهويل من أفعاله على لسان زوجته وهيلين منذ شبابه وحتى عودته إلى إيثاكا وقتل الخطّاب والخادمات. ففي الوقت الذي كان الكتّاب يعلون بتمثال أوديسيوس كانت الكاتبات ينقّبن في أسسه ويحفرن قاعدة التمثال حتى يهوي على رأسه، فبأي حقٍ كان أوديسيوس ينتقل من حضن ربة إلى أخرى وبينيلوبي ملازمة منوالها في بيت زوجها تنتظر سنة بعد أخرى وترّبي ابنه وحدها؟ لمَ لمْ تتزوج وتعش حياتها كزوجها الذي غاب ولا تدري عنه شيئًا؟  لم يُكرهْ أوديسيوس لأفعاله لكن انتصارا لبينيلوبي بل المرأة في عالمٍ ذكوريّ ومجتمع أبويّ يمنح الرجل كلّ الحقوق ويسلب المرأة أدنى الحقوق. لم تكن ميلر بدعا من غيرها من الكتابات لكنها حاولت تقويض صورة أوديسيوس لا من نظر الزوجة، التي قد تكون امرأةً خصمًا شهادته مجروحة في غريمه، بل من نظر الابن تليماكوس، وإيضاح فشل أوديسيوس أبًا وفي مهامه الأبوّية. رأى تليماكوس أباه بعد عودته من البحر والحرب متشككا متعطشا للقتل، ولم يجد أوديسيوس فيه ابنا يشاركه حكاياته وأخباره بل إنه عامله بجفاء وغلظة، وما اطمأنت العائلة بعودة الأب الغائب بل تفاقم اضطرابها وقلقها، فعودة أوديسيوس ليست بشارةَ أملٍ بل نذيرًا بشَرٍّ. لم يرضَ تليماكوس عن أبيه وما سمح الأب لابنه أن يقترب منه أو يصاحبه، وفُسِّرت كل أفعال أوديسيوس في الأوديسة وما تلاها على نحوٍ سيئ فحين أفصح عن اسمه للعملاق بوليفيموس بعد أن فقأ عينه فقد قالها غرورا وطلبا للمجد، وحين قتل الخادمات فلأنه دموي، وحين استعد لقتال ذوي الخطّاب الذين قتلهم فلأنهم جاءوا يطلبون ما لا حق لهم فيه من غنائم الحرب، وحين حصّن داره فلأنه لا يأمن أهل إيثاكا ويظنّ شرًا بهم. دمّر أوديسيوس نسيج أهل إيثاكا، وجعل تربتها لا تصلح لحياة عائلته من بعده. ما رغبت سرسي أن تعارض أقوال تليماكوس عن أبيه، وما وجدت من نفع في ذلك، لكنها رأت في تليماكوس سببا في استعمال سحرها في نفسها وتصبح إنسانة بعد قرون من تعلمه واستعماله في الآخرين، وتعيش معه حياتها الفانيّة كسائر الفناة .      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى