يكاد السرد في الرواية يكون أهم العناصر الفنية فعليه تتحدد كثير من العناصر مثل نوع الراوي وأسلوب عرض الأحداث والشخصيات وبناء العمل كله، ومع تطور الرواية من الراوي الذي يحاول إيهامنا بأن العمل حقيقي يجب التصديق به إلى ثورة عصر الحداثة وصولا إلى رواية ما بعد الحداثة وتدخلات الراوي ليُعلمنا أن ما بين أيدينا هو عمل تخييلي بحت، ولا حاجة إلى أن نُوهم أنفسنا ولو قليلا عن إمكانية حدوث قصة كهذه في الحياة الواقعية، وبعيدا عن أولئك الذين يبنون روايتهم وفقا لأحداث واقعية، فإن هناك نوع من الروايات وبأسلوب سرد معين أرى أنَّه لم يعد استخدامه صالحًا ولا مناسبًا لا سيما في العصر الحالي مع تطور العناصر الفنية للرواية لجعلها تتلائم مع العقل والأدب الحديثين فمن غير المعقول مخاطبة القارئ بأسلوب يوحي بعدم التصديق في إمكانية حدوث هكذا شيء سواء أأنبأنا أن عمله رواية أم لم يُنبئنا. وما أقصده هو أسلوب السرد المباشر بضمير المتكلم في الزمن الماضي البعيد، أي أن تروي الشخصية الرئيسة بلسانها ما حدث لها قبل زمن طويل مضى. إن الحديث بأسلوب السرد المباشر والضمير الأول يبدو أكثر إغراءً للروائي المبتدئ ويقول الأمريكي لورنس بلوك في كتابه “الرواية من الحبكة حتى النشر” على الرغم من أنه ينصح الروائي المبتدئ الكتابة بضمير الغائب فهو يفضل القراءة لروائيين مبتدئين روايات بضمير المتكلم لأنها أكثر انسيابية وطبيعية. يُجبر أسلوب السرد المباشر عن حدث وقع في زمن ماضٍ بعيد الروائي أن يلتزم بالإكراهات الروائية التي وضع نفسه في حدودها، وأول هذه الإكراهات هو الذاكرة والتداعي والزمن، وتزداد صعوبة السيطرة عليها بازدياد البعد بين زمن السرد وزمن الحدث، فيقع التداخل في الأحداث وعدم الدقة في الوصف ويفقد الزمن سيرانه الخطي المتتابع وكان التحديث الزمني في الرواية الحديثة قد ابتدأ مع رواية البحث عن الزمن المفقود للروائي الفرنسي بروست الذي يُبيّن: “كيف أن الاستذكارات الواقعية أو الاسترجاع الحسي للماضي- يعتمد على جهد شخصي مكثف أكثر مما تواضع الناس عليه من قبل”. وهذا ما يتعامل معه بخصوص الذاكرة أيضا، إذ أصبح من الزيف أن تتعامل الذاكرة مع الأحداث بنحوٍ منضبط بزمن خطي صارم، دون مشكلات في التذكر أو التسلسل. ما قامت به الرواية الحديثة هو التعامل مع الزمن بصورة أكثر واقعية مما كان عليه في الرواية في مراحل تطورها. فإكراه السرد بضمير المتكلم في الزمن الماضي البعيد، يجعلنا أمام بعض من الروايات صعبة التصديق لا في أحداثها ولا في شخوصها بل وفي سردها وفداحة الخطأ في التعامل مع الزمن الماضي البعيد كأنه زمن يقع للتو، فترى الراوي يتحدث عن أحداث وقعت قبل سنين قد تصل إلى ستة عقود كما في اسم الوردة، بإسهاب ودقة في وصف المكان، وردود الفعل، وما كان يختلج في نفسه، أو تغييرات في وجوه الشخصيات، ويسرد محادثات ومحاورات ونقاشات كأنه يحمل معه كاميرا أو أداة تسجيل تمكنه من تذكر وسرد كل هذه الأحداث والتفاصيل بانضباط لا متناه وعدم خطأ. لا يشير الراوي كذلك إلى أي من هذه الأمور أو يذكر إمكانية نسيانه لها بل ينطلق ساردا وواصفا دون أي اعتبارات منطقية، فنحن نتحدث عن الرواية في عصر ما بعد الحداثة لا عن رواية عن القرن السادس والسابع عشر كما كان يفعل دانييل ديفو محاولا جعل القراء يصدقون بأن روبنسون كروزو ومول فلاندرز كانا أشخاصا حقيقيين ومغامراتهما حدثت بالفعل، وقد يعترض أحد على أن العمل الروائي يجوز فيه ما لا يجوز في غيره أمثال الروائي محسن الرملي -رأيه كاملا في الأسفل- لكن الروائي ليس بحاجة إلى أن يُقحم نفسه في السرد عن أحداث زمن مضى لسنين خالية بضمير المتكلم! فما الذي سيضيفه ضمير المتكلم سوى جعل القارئ ينفر ويشكك بمدى اجتهاد الكاتب في عمله، وإلا فعليه استخدام أساليب أخرى كأن يكون الراوي عليما أو أن تكون الأحداث مسرودة قبل مدة زمنية تكون الذاكرة رغم صعوبة الاحتفاظ بكل شيء قادرة على لملمة أطراف القصة دون الحاجة إلى أي التواءات أو تزيفات لا سيما وأن القصة تحدث لأشخاص عاديين لكن وللعجب يملكون ذاكرة حديدية مقاومة للزمان والمكان كأنها ذاكرة حاسوب بسعة غير متناهية لا تغفل ولا تنسى وهي متيقظة دائما لا تأخذها سنة ولا نوم. المشكلة الأخرى التي يُوقع الروائي فيها نفسه، أنه يستخدم راويا يسرد أحداثا عن نفسه ويضيف له ميزة راوٍ عليم كلي المعرفة وإن شذّبها وجعله راويا بضمير المتكلم كليَّ القدرة على الزمن وهذا ما يمثل ضربة في بُنية السرد لتبدو متفككة وغير قابلة للإقناع أو جذب القارئ حتى في رواية. ومن أمثلة هذا الأسلوب السردي رواية قصة حب مجوسية لعبد الرحمن منيف فيسرد البطل بضمير المتكلم قصة شغفه بامرأة متزوجة رآها في رحلة قضيا أيامها العشرة في فندق في إحدى المناطق السياحية، ويسرد قصته ومشاعره وتفاعلاته والأحداث وكيف رآها وكيف شعر ونظر وفكر وراقب قد تبدو القصة قابلة للتصديق لكن تباين زمن السرد عن زمن الحدث ينسف هذه الفرصة حين يقول في الصفحة الخامسة عشرة “الآن… بعد السنين الطويلة أريد أن أبكي. لماذا لم أهرب؟ لماذا صورت لنفسي أني لم أرها، وأنا رأيتها آلاف المرات؟ كنت أحلم بها طوال عمري وكنت أراها مستحيلة…”. كيف يمكن بعد السنين الطويلة أن يتذكر الهمسات والسكنات بدقة، وربما حاول منيف إضافة بعض الرتوش عبر الانتقالات غير المترابطة موحيا بتداخل وتداعي الذاكرة إلا أن الأمر قد بلغ حدا أكثر عجبا مع أمبرتو إيكو ورواية في اسم الوردة التي يرويها أدسو بعد ستة عقود كاملة. فعند بحثنا عن السارد نجد الكثير مما يشكل علنا فهمه، أورد مقتطفات من العمل:
“واستنتجت من ذلك أن مذكرات أدسو تبدو في نفس طبيعة الأحداث التي ترويها…” ص 28
“ها أنا أتهيأ لأن أترك على هذا الرق بينة على الأحداث المدهشة والرهبية التي عشتها وأنا شاب، معيدا بالحرف والكلمة ما شاهدت وما سمعت، دون مجازفة بأي حكم أو استنتاج…” ص33
“ولفهم الأحداث التي وجدت نفسي أشارك فيها فهما جيدا، قد يكون من الأفضل أن أذكّر بما كان يحدث في تلك الفترة من بداية القرن، كما فهمتها آنذاك وأنا أعيشها وكما أتذكرها الآن وقد أضفت إليها حكايات سمعتها من بعد، إن استطاعت ذاكرتي أن تصل بين خيوط تلك الأحداث المتعددة والغامضة جدا.” ص34
“وقد سمح لك بالحضور، لأنني طلبت كاتبا يتولى تدوين ما سنقوله.” ص177
“إنني أكتب بنفسي متعبا وأنا أكتب كما كنت أحس بالتعب في تلك الليلة، أو بالأحرى في ذلك الصباح.” ص221
“المشكل هو بالأحرى، أن أقص ما حدث لا كما أراه الآن وكما أتذكره (حتى لو أني كنت أذكر إلى الآن كل شيء بحيوية لا ترحم، ولا أدري إن كانت التوبة التي تبعته هي التي ركزت بتلك الحيوية ظروفا وأفكارا في ذاكرتي…” ص293
“وعندما تفضل غوليالمو بتقديمي إليه كتلميذه وككاتبه قال لي أحسنت أحسنت.” ص355
“على كل حال اكتب يا أدسو ليبقى على الأقل أثر مما يحدث اليوم.” ص405
فكما تُشير الاقتباسات فإن المخطوط كُتب ليكون مذكراتٍ من قبل أدسو بعد مرور ستة عقود على رحلته مع غوليالمو في الدير ما عدا بعض النقاشات التي يذكر فيها إيكو بأن غوليالمو استخدم أدسو كاتبا لها، يقول إيكو في جوابه عن سؤال من السارد في كتاب تأملات حول اسم الوردة: “يروي أدسو وهو في سن الثمانين ما شاهده حين كان في الثامنة عشرة. من المتكلم إذًا: أدسو ذو الثماني عشرة أم أدسو ذو الثمانين سنة؟ واضح أنهما معا، وهذا شيء متعمد. كانت الحيلة تكمن في جعل أدسو العجوز الحاضر باستمرار، وهو يمعن النظر فيما يتذكر أنه شاهده وأحس به، بوصفه أدسو الشاب.
وهنا لا بد من طرح تساؤل، ما الذي يدعونا أن نصدق بأن أدسو امتلك ذاكرة حديدية حتى يسرد أحداثا وحوارات ونقاشات طويلة حدثت قبل ستة عقود من الزمن دون أن ينسى شيئا أو يذكر للقارئ أنه قد نسى بعضها، فهو يسرد وكأن الحدث يحدث مباشرة وهو ينقله، وليس سردًا لأمور عادية أو أحاديث سهلة، بل نقاشات لاهوتية أسئلة وأجوبة تحتاج إلى تدوين مباشر حتى تُحفظ كما قالها أصحابها دون حذف أو نقص أو زيادة وعلى الرغم من ذكر إيكو أن غواليالمو عرّف واستخدم أدسو كاتبًا له في بعض المواقف وأمر بكتابة وتدوين بعض الحوارات فإنه لم يتطرق أين وكيف ومتى كتب وحتى أدسو لا يذكر هذا، مما يجعل آلية الكتابة في أغلب أحداث وحوارات الرواية، التي لم يذكر غوليالمو أو أي شخص آخر أن أدسو كان يدوِّنها، تلفها الغموض فهي تحتاج إلى الرق وأدوات الكتابة وحملها ونقلها من مكان إلى آخر كلها أمور تبقى مجهولة للقارئ، الأمر الذي يدفعني للتساؤل متى، أين، كيف كتب؟ ولم يقتصر الأمر على هذا، فأدسو يصف لوحات ومنحوتات، ويسرد لوائح كاملة لما يراه، وهي تأخذ أوراقا عديدة وكأن اللوحة مطبوعة في ذهنه لم تتعرض لآفات النسيان التي يجلبها الزمن وكذلك يروي انطباعاته ومشاعره أثناء مشاهدته هذه اللوحات والمنحوتات بكل دقة وتفصيل وهذا ما يجعلني لا أصدق وجود هكذا شخص بهذه القابلية على الحفظ ولو اختار إيكو طريقة أخرى للعرض دون أن يعتمد على مذكرات كُتبت بعد قرابة ستين عاما لكانت أقرب إلى الواقع خاصة ونحن نتحدث عن رواية قروسطية واقعية وليست فانتازيا أو خيالية حتى نؤمن بوجود هكذا شخص ولا يشير إيكو أيضا لأي قابلية غير اعتيادية عند أدسو بل هو حتى ظهر في الرواية شخصية عادية وربما أقل من عادية. يقول الروائي الدكتور محسن الرملي بعد سؤاله عن إمكانية السرد اعتمادا على الذاكرة بعد مرور كل هذه المدة الزمنية أجاب: “بشكل عام، يجوز في الأدب كل شيء بما في ذلك الفانطازيا واللا منطقي والشطح في الخيال والمبالغات وغيرها. وبالنسبة لإيكو وشخصياته في هذه الرواية، ما يبرر شيء كهذا أنهما متشابهان من حيث الاحتراف وتكريس الحياة للمخطوطات والتدقيق فيها. أما فنيا، فإيكو نفسه اعترف لاحقا بعد أن تعلم فن الرواية الاحترافي -لأنه في الأصل ليس روائيا- اعترف أنه بالغ في حجم روايته هذه ولا ذنب للشباب خاصة والأجيال القادمة تحمل كل هذه التفاصيل وكان في نيته أن يصدر منها نسخة مهذبة ومشذبة ومختصرة أكثر لكنه مات”.